
٢٢ - ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ وهذا جواب لقولهم: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ أُخبروا أنهم إذا رأوا الملائكة فلا بشرى لهم يومئذ. قال أبو إسحاق: ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على وجهين: أحدهما: على معنى: لا بشَّرَى تكون للمجرمين يوم يرون الملائكة، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ هو مؤكدِّ لـ ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾ ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ ﴿لَا بُشْرَى﴾ لأن ما اتصل بـ: ﴿لَا﴾ لا يعمل فيما قبلها. ألا ترى أنك لا تقول: زيد إلا ضارب كما تقول: لا ضارب زيدًا (١). ولكن لما قيل:] (٢) لا بشرى للمجرمين، صار كأنه قيل: يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة (٣). والوجه الآخر: أن يكون منصوبًا على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة (٤).
ثم أخبر فقال: ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ قال مجاهد: يعني: يوم القيامة (٥). وهو قول مقاتل، وعطية، والأكثرين (٦). وقال عطاء عن ابن عباس: يعني: عند الموت (٧).
(٢) ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب).
(٣) قال السمين الحلبي: ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله. والثاني: أنها منفية بـ: لا، وما بعدها لا يعمل فيما قبلها الدر المصون ٨/ ٤٧٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٦٤. وفيه: يجمعون البشرى يوم القيامة. وعند الواحدي: يمنعون. وهو الصواب. وذكر هذا الزمخشري ٣/ ٢٦٦.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٦٧٧. وتفسير مجاهد ٢/ ٤٤٩.
(٦) "تفسير مقاتل" ص ٤٤ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٦٧٧، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، وعطية العوفي، والضحاك.
(٧) "تنوير المقباس" ص٣٠٢. وبه قال الهوري ٣/ ٢٠٦ وقد استدل الحافظ ابن=

وقوله: ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾ قال أبو إسحاق: المجرمون: الذين اجترموا الذنوب. وهو في هذا الموضح الذين اجترموا الكفر بالله عز وجل (١).
قوله: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي: حرامًا محرمًا. قاله ابن عباس، وجميع المفسرين (٢). وأصل الحَجْر في اللغة: المنع. وحَجْرُ القضاةِ على الأيتام إنما هو منعهم. والحُجْرَة: ما حُوِّط عليه. وما مُنِعت من الوصول إليه فهو: حِجر. بكسر الحاء (٣).
قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام حِجر؛ لأنه حُجر عليه بالتحريم.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٦٤. وهو قول الهوَّاري ٣/ ٢٠٦.
(٢) "تفسير مقاتل" ص ٤٤ أ. و"تنوير المقباس" ص ٣٠٢. وأخرج عبد الرزاق ٢/ ٧٦، عن الحسن، وقتادة وبه قال الهوَّاري ٣/ ٢٥٦. وابن جرير ١٩/ ٢، وأخرج عن: الضحاك، وقتادة وزاد ابن أبي حاتم ٨/ ٢٦٧٧: عطاء الخراساني. وبه قال السمرقندي ٢/ ٤٥٧. وهو قول سيبويه، "الكتاب" ١/ ٣٢٦. والمبرد، المقتضب ٣/ ٢١٨.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٦٣. ونقله عنه إلازهري، "تهذيب اللغة" ٤/ ١٣٢ (حجر).

يقال: حَجرت حِجرًا، واسم ما حجرت حِجْرٌ (١). ومنه: حِجْر البيت (٢).
والحِجْر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه من التخطي إلى القبيح (٣). والأنثى من الأفراس: حِجْرٌ؛ لأنها تحجر ماء الفحل في بطنها. هذا كلام أبي عبيدة والمبرد والزجاج (٤).
وذكرنا تفسير الحِجْر عند قوله: ﴿وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨] (٥).
واختلفوا في أنَّ هذا مِن قول مَنْ؟ فالأكثرون على أنه من قول الملائكة (٦).
قال عطاء عن ابن عباس: تقول الملائكة: محرمًا أن (٧) يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقام بشرائعها. ونحوه قال الكلبي (٨).
وقال مقاتل: إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قال لهم الحفظة من الملائكة: حرامًا محرمًا عليكم أيها المجرمون أن يكون لكم البشرى كما بُشر المؤمنون (٩).
(٢) قال ابن جرير ١٩/ ٢؛ لأنه لا يدخل إليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه.
(٣) قال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: ٥].
(٤) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٧٣. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٦٣.
(٥) ما ذكره الواحدي هنا أكثر وأوسع مما أحال عليه، حيث اقتصر في تفسير الحجر في آية الأنعام على قوله: معنى الحجر في اللغة: الحرام، وأصله من المنع، ومنه سمي العقل حجراً لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي، أي: منعه.
(٦) ذكر ذلك ابن جرير ١٩/ ٢، عن الضحاك، وقتادة، ومجاهد. وبه قال الزجاج٤/ ٦٤.
(٧) في (ج): (حرامًا في أن يدخل).
(٨) "تنوير المقباس" ص ٣٠٢. وفيه نسبة القول للملائكة، دون ما بعده.
(٩) "تفسير مقاتل" ص ٤٤ب.

وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكفار قالوا للملائكة: بشرونا، فيقولون: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي: حرامًا محرمًا أن نلقاكم بالبشرى (١). وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج وابن قتيبة والأزهري؛ قال الفراء وابن قتيبة: حرامًا محرماً أن يكون لهم البشرى (٢).
وقال الزجاج: حرامًا محرمًا عليهم البشرى (٣).
وقال الأزهري: حُجِرَتْ عليكم البشرى فلا تبشرون بخير (٤).
وقال آخرون: هذا من قول المجرمين للملائكة (٥)، وهذا قول مجاهد وابن جريج، واختيار أبي عبيدة والليث؛ قال مجاهد: عوذًا معاذًا
(٢) "معاني القرآن" للفراء٢/ ٢٦٦. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣١٢.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٦٣.
(٤) "تهذيب اللغة"٤/ ١٣٢ (حجر). وبه قال الهوَّاري ٣/ ٢٠٦.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٣٠٢، حيث جعل هذا القول مشتركاً بين الملائكة، والمجرمين. وذكر الزمخشري ٣/ ٢٦٦، أن هذا من قول المجرمين، ثم قال: وقيل: هو من قول الملائكة. وقد ردَّ ابن جرير ١٩/ ٣، هذا القول؟ فقال: معلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستجارة، وليست بتحريم، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة: حرام عليكم، فيوجه الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة. وذكر الماوردي ٤/ ١٤١، أن هذا من قول الكفار لأنفسهم. ونسبه لقتادة. وبيَّن ذلك ابن عطية ١١/ ٢٦، بقوله: ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون: حرام محرم علينا العفو. قال ابن كثير ٦/ ١٠٣: وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلاف.

يستعيذون من الملائكة (١)، ويقولون مقالة الجاهلية عند الاستعاذة.
وقال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شدة (٢) شديدة، أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرًا محجورًا، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا (٣).
وقال أبو عبيدة: كان الرجل من العرب إذا لقي رجلاً في الشهر الحرام وبينهما تِرَة (٤) يقول: حجرًا محجورًا. أي؟ دمي عليك حرام. فالمشركون يوم القيامة يقولون للملائكة مثل ذلك (٥).
وقال الليث: كان الرجل في الجاهلية يلقى رجلاً يخافه في الشهر الحرام فيقول: حجرًا محجورًا. أي: حرام محرم عليكم (٦) في هذا الشهر فلا يَنْدَاه بشر. فإذا كان يوم القيامة رأى المشركون الملائكة فقالوا: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ وظنَّوا أن ذلك ينفعهم عندهم كفعلهم (٧) في الدنيا (٨).
(٢) (شدة) في (ج).
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ٣. وأخرج عبد الرزاق ٢/ ٦٧، نحوه عن الحسن، وقتادة وأخرجه عنهما ابن أبي حاتم ٨/ ٢٦٧٨، من طريق عبد الرزاق.
(٤) قال الترمذي ٥/ ٤٣٠، كتاب: الدعوات، حديث رقم: ٣٣٨٠: قال بعض أهل العربية: التِّرَةُ، هو: الثأر. ولم أجده عند غيره
(٥) لم أجد قول أبي عبيدة، في كتابه: "المجاز". وقريب منه في "تفسير أبي حيان" ٦/ ٤٥١، منسوبًا لأبي عبيدة وكذا في "نظم الدرر" ١٣/ ٣٧٥.
(٦) هكذا في النسخ الثلاث: عليكم. وأما في "تهذيب اللغة" ١٣١/ ٤ (حجر)، و"لسان العرب" ٤/ ١٦٧: عليك.
(٧) في (ج): (كقولهم).
(٨) "العين" ٣/ ٧٤ (حجر)، وفيه: فلا يبدؤه بشر. وذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" =

وذكر صاحب النظم القولين جميعًا، فقال: هذا نظم كان في أول الدهر ثم درج، كان الرجل منهم إذا أراد حرمان الرجل شيئًا يسأله، أو يطمع فيه، قال: حجرًا محجورًا، فيعلم السائل بذلك أنه لا يريد أن يفعل، ومنه قول الشاعر:
حَنَّتْ إلى النَّخْلَةَ القُصوَى فقلتُ لها | حِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلكَ الدَّهاريس (١) |
وقد رد الأزهري قول الليث بقوله: فإن أهل التفسير الذين يُعتمدون مثل ابن عباس، وأصحابه فسروه على غير ما فسَّره الليث. وهذا منهج حسن؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- هم أئمة التفسير.
(١) أنشده أبو عبيدة ٢/ ٧٣، ونسبه للمُتَلَمَّس، وفيه: النخلة، بالتعريف كما في النسخ الثلاث، خلافاً لما في "ديوان المتلبس" ٩٦، وكذا ابن جرير ١٩/ ٢، والماوردي ٤/ ١٤١. وفي "معجم البلدان" ٥/ ٣٢٠: نخلةَ القصوى: واحدة النخل، والقصوى تأنيث الأقصى، ثم ذكر بيت المتلبس. وفي "حاشية الديوان": نصب: نخلة القصوى؛ لأنه واد. والدهاريس: الدواهي، الواحدة: دَهْرَس. "تهذيب اللغة" ٦/ ٥٢١ (دهرس).
(٢) في نسخة: (أ)، (ب): (عليك).
(٣) هكذا في النسخ الثلاث: (يوقعون).