هذه السّورة بالمعنى الذي بدئت به وهو من بديع النّظم ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به فقط والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة النّور عدد ١٦ و ١٠٢ و ٢٤
نزلت بالمدينة بعد سورة الحشر عدا الآية ٥٥ على القول بأنها مكية. وهي أربع وستون آية والف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة وخمسة آلاف وتسعمئة وثمانون حرفا.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدأت به، وقد ختمت سورة النّساء والأنفال بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سُورَةٌ» عظيمة جليلة مشتملة على قصص وأحكام وعبر ومواعظ وحدود وأمثال قد «أَنْزَلْناها» على رسولنا محمد ليتلوها على قومه وجميع خلقنا «وَفَرَضْناها» أوجبناها وكلفناه وأمته بما فيها من الأحكام «وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «تَذَكَّرُونَ ١» بما فيها فتتعظون وتعتبرون بها فهي ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير. ثم بين أول أحكامها فقال عز قوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» من أي ملة كانا وقد رفع أمرهما إليكم أيها الحكام «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما» إذا لم يكونا محصنين «مِائَةَ جَلْدَةٍ» ضربة على جلده مباشرة دون حائل ما، وبهذا القيد يمتاز عن الضّرب لأنه يكون مع الحائل وغيره، وما يستر العورة من البزّ الرّقيق لا يعد حائلا لأنه لا يقي ألم الضّرب «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» عليهما فتتأثروا أو تجرءوا على الشّفاعة بهما، لأنها لا تجوز بوجه من الوجوه في حد من حدود الله تعالى، لأنها تقتضي إلى تعطيل الأحكام فيفشو الفساد في الأرض وتكثر الجرأة على محارم الله إذا تهاون النّاس بها ولم ينفذوها، وهذا لا يجوز «فِي دِينِ اللَّهِ» الذي يجب التصلب فيه والقيام بشعائره والمحافظة عليه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا تتقاعوا عن تنفيذ أوامره وتهملوا حدوده «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٢) لا يقلون عن أربعة وذلك نصاب شهادة صفحة رقم 105
الزنى، وإنما أمر بالإشهاد زيادة في الرّوع والزجر وتشهيرا لحال الزناة وتحذيرا من الإقدام عليه وتنفيرا من قربانه. ويشترط لإقامة هذا الحكم الشّرعي على الزاني أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما غير محصن، ثابت عليه بأربعة شهود عيان، وكذلك المرأة، وسيأتي أن الإسلام ليس بشرط لإقامة هذا الحد. وعلى العبد والأمة غير المحصنين نصف ذلك، أما المحصنان من الأحرار فيرجمان بالأحجار والعظام وشبهها حتى بموتا، أما العبد والأمة فلا يرجمان لأن الموت لا ينصف إذ يشترط للرجم الحربة والإسلام والإحصان والعقل والبلوغ والنّكاح الصّحيح والدّخول، فإن فقدوا واحدا منها فلا رجم، بل يصار إلى الحد أي الضّرب للحر أو الحرة مئة وللعبد والأمة خمسون.
مطلب كيفية الجلد وشروطه وتحوله لأهل الكتاب وغيرهم وما قيل فيه والاختلاف الواقع بين الخراج وما نسب إلى عمر رضي الله عنه في الرّجم وغيره:
وكيفية الجلد أن بجرد الرّجل ويضرب قائما، ويرمى عن المرأة الفرو والحشو وما شاكلهما فقط، وتضرب قاعدة ويجتنب الضّارب الرّأس والوجه والمذاكير والبطن والظّهر، ولا يضرب ضربا مبرّحا يتعدّى إلى اللّحم بأن يفطر الجلد بل يقتصر على ما يؤثر في الجلد. وهذه الآية مقيدة لآية الحبس المار ذكرها في الآية ١٤ من سورة النّساء، وهذا هو السّبيل الذي وعد الله به هناك وشرعه في الزانية والزاني الذي أوجب عليهما الأذى أولا في الآية ١٥ منها أيضا لأنها مخصصة لها أيضا وللتعذيب الوارد في السّنة، ولا يجري حد الرّجم والجلد على أهل الكتاب وغيرهم إلا إذا تحاكموا عندنا لنبوته في التوراة التي هي مرجع عام لمن كان قبل نزول القرآن، أما الإنجيل فلا أحكام فيه كافية لما يتعلق بأمور العباد جميعها، ولذلك يرجع للتوراة فيما لم ينص عليه الإنجيل المعدل لبعض أحكامها، وقد جاء في الصّحيحين في حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا، فقال صلّى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرّجم، فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع عبد الله بن صوريا يده على آية الرّجم وقرأ ما قبلها وما
بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرّجم فقالوا صدق يا محمد، فأمر بهما النّبي صلّى الله عليه وسلم فرجما، ومن هنا لم يشترط الإسلام، وما جاء في بعض الأحاديث من اشتراط الإسلام لم نثبت صحتها، والمختار في علم الحديث أنه إذا تعارض الرّفع والوقف حكم بالرفع عند صحة الطّريق إليه، وما ورد في هذا الشّأن لم يصح طريقه صحة معتبرة. هذا وإن سؤال حضرة الرّسول اليهود لا ليعلم حكم الرّجم لأنه معلوم عنده، بل لتبكيتهم وإظهار كذبهم على ملأ النّاس وعامتهم. ومن قال إن الرّسول حينما جاء إلى المدينة أمر بالحكم بالتوراة قول لا صحة له باطل لا يوجد ما يؤيده، وإنما كان يعمل بشرعه الذي أنزل إليه، والشّرائع الإلهية متشابهة، ولأن شريعته صلّى الله عليه وسلم لم تنسخ التوراة كافة بل ما هو مخالف لما في القرآن فقط، وأن كثيرا من أحكامها موافق للقرآن، وان شرع من قبلنا إذا وافق شرعنا فهو شرع لنا أيضا، والعمل فيه لا يعني أنه عمل بالتوراة بل بالقرآن هذا وإن ما رواه اسحق بن راهويه في سنده قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال من أشرك بالله فليس بمحصن، وإذا كان ليس بمحصن فلا رجم عليه، ولذلك استدل به على شرطية الإسلام بالرجم إلا ان هذا الحديث فضلا عن الاختلاف الوارد في رفعه ووقفه ورجوع راهويه نفسه عن رفعه، فلم يعرفه هل هو مقدم على حديث ابن عمر المار ذكره الذي لا مرية فيه، أم مؤخر عنه؟ وقال أئمة الحديث إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر فيقدم القول لأن الدّلالة القولية غنية عن الدّلالة الفعلية لا العكس، إذ لا يخفى ان دلالة القرآن العظيم لفظية. هذا وإن تقديم القول موجب لدي الحد، وتقديم الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحدود، والأولى في الحدود ترجيح الرّافع عند التعارض، ولا يخفى ان كلّ مترجح محكوم بتأخيره اجتهادا، وعلى هذا يكون المعول عليه في هذا الباب حديث ابن عمر الوارد في الصحيحين إذ لو كان الإسلام شرطا لما رجم حضرة الرّسول اليهودي واليهودية وعلى القول أن فعله ذلك على شريعتهم فيكون شرعا له، ولأنه لا فرق بين زنى المسلم والكتابي والكافر من حيث هو زنى، وإن قول الرّسول ان لهم ما للمسلمين وعليهم
صفحة رقم 107
ما عليهم يؤيد هذا. وقد خالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشّافعي واشترط الإسلام، وإن صاحبه أبا يوسف وافق للشافعي بعدم الاشتراط، والأحسن أن يقال إن الشافعي وافق أبا يوسف لأنه متقدم عليه، وخالف أبا حنيفة لهذه العلة أيضا.
ولما عاب الخوارج على عمر بن عبد العزيز قوله بالرجم لأنه ليس في كتاب الله ألزمهم بأن أعداد ركعات الصّلاة ومقادير الزكوات ليسا في كتاب الله، فقالوا له ثبت أعدادهما ومقاديرهما بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فقال لهم والرّجم أيضا ثبت بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فألقمهم الحجر وأخرس ألسنتهم، لأن فعل الرّسول وكلامه مفسر للقرآن وواجب العمل بهما. وما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حسبما رواه البخاري خشيت أن يطول زمان حتى يقول قائل لا نجد الرّجم في كتاب الله عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرّجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، فمن باب الكشف لمعارضة الخوارج وغيرهم فيه، وهذا غير كثير على الفاروق الذي طفحت الكتب بفضائله، وقد ألمعنا إلى بعضها في الآية ٤٤ من سورة الاسراء في ج ١ فظهر من هذا أن الرّجم ثبت بالسنة الصّحيحة واجماع الصّحابة والأمة الاسلامية من بعدهم لا بالقرآن، وليس هذا من باب النّسخ، لأن الآية لها محمل على غير المحصنين، ومن قال أن الرّجم ثبت بالآية المنسوخ تلاوتها وهي (الشيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما) لا يصح لعدم القطع بقرآنيتها وتلاوتها، فضلا عن أنها على غير نمق كلام الله الذي لا يشبهه كلام خلقه من كلّ وجه. وإن ما جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر من أن سيدنا عمر تلا هذه الآية على المنبر وقال لولا أن يقال إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف، وأن أحدا لم يرد عليه فطريقة ظنية لا يعتمد عليها، لأن عمر لا يخشى مقالة أحد في الحق في زمن حضرة الرّسول وزمن صاحبه أبي بكر، فكيف يخشى وهو أمير المؤمنين الذي لا يرد له أمر، فلو ثبتت قرآنيتها عنده لكتبها لا سيما وهو في زمن لم يجمع فيه القرآن أو لم يدون في المصاحف ولقال في المصحف نفسه، لأنه إذ ذاك وهو صاحب الأمر والنّهي ومعدن العلم بعد صاحبيه، الذي قال فيه ابن مسعود وهو أمين الأمة عند موته
لقد مات تسعة أعشار العلم. ومما يدل على عدم صحة هذا أن ليس هناك مصحف ليكتبها على هامشه، لأن المصاحف دونت زمن عثمان رضي الله عنه، أما سكوت من سمع خطبته المزعومة من الأصحاب على فرض وقوعها لا يعد حجة لأن الإجماع السكوتي مختلف في حجيّته، بل الأرجح عدم حجيّته، ومن هذا القبيل الطّلاق الثلاث بلفظ واحد، إذ نسب إلى سيدنا عمر إيقاعه بتّا، وإنه أمر بذلك لكف تهاون النّاس بالطلاق، وإن الأصحاب لم يردّوا عليه فلم يعتد بسكوتهم لما ذكرنا، ولهذا اختلفت آراء المحدثين في ذلك، فمنهم من أبرم إيقاعه ثلاثا، ومنهم من عده واحدا، وعلى التسليم جدلا بحجية الإجماع السّكوتي لا يقطع بأن المجتهدين من الأصحاب كانوا حضورا لأن حضور عوامهم لا يكفي، ولهذا قال علي كرم الله وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ تلاوته، وهو أعلم من غيره بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يقال جمع بين الجلد والرّجم لأنه جلدها بصفتها غير محصنة، فلما تبين له إحصانها رجمها، وإن رأيه الصّائب عليه السّلام أن جلد غير المحصن حكم زائد ثبت بالسنة هو الرّأي المعمول به الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وبذلك قال أهل الظّاهر وهو رواية عن احمد واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة، وفي رواية غيره ويرجم بالحجارة. ومن هذا الذي يقدم على معارضة أولى النّاس بحدود الله بعد رسوله؟ هذا وإن أوهى الأقوال قول من قال إن الآية المنسوخة نسخت هذه القاضية بالجلد وهي غير موجودة ومطعون في وجودها أي نزولها، فالعجب كلّ العجب من جرأة البعض على كلام الله تعالى ورغبتهم بالنسخ حتى توصلوا إلى هذا الحد الذي لا يقوله من عنده لمعة من ورع أو ذرة من تقوى أو لمحة من إيمان، وقد أشرنا غير مرة إلى أن لا قرآن إلا ما هو بين الدّفتين لم يسقط منه حرف واحد أبدا، فهذا الحكم الأوّل من الآيات البينات، والحكم الثاني بينه
بقوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» لأنها دونه وشر منه «وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» لأنه دونها وشر منها أيضا، ولهذا قال تعالى «وَحُرِّمَ ذلِكَ» أي نكاح الزانية
التي لم تتب والمشرك الباقي على شركه «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (٣) التدنيس بمثلهن لأن طهارتهم ومروءتهم تأبى ذلك، ولما أراد بعض فقراء المهاجرين ومن لا مال له ولا عشيرة أن يتزوج ببغايا المدينة لينفقن عليهم من مالهن استأذنوا رسول الله فنزلت هذه بالمنع، لأن الزانيات رجس ونجس، والمؤمن طاهر نظيف، فلا يليق بكرامته أن يلوثها بالعاهرات ويدنس مروءته بهن، أما باب الجواز فيكون فيما فيه بأس وما لا بأس فيه، وعليه فإن العاهرة إذا تابت جاز نكاحها كما لو أسلمت المشركة، والزاني والمشرك كذلك، لعموم قوله تعالى في الآية الآتية وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلخ وقدمت الزانية على الزاني في الآية الأولى لأنها لو لم تطمع الرجل نظرا أو كلاما أو ملامسة أو غمزا أو إشارة أو تبسما أو غيره ولم ترخص له وتمكنه من نفسها لم تقع الجريمة من الرّجل، وأخرت في الثانية لأنها مسوقة لذكر النّكاح، والرّجل أصل فيه لأنه الخاطب، ومنه يبدأ الطّلب، ومن قال أن المراد بالنكاح هنا الوطء لأن غير الزاني يتقذر الزانية ولا يشتهيها، وهو صحيح إلا أن المعنى يكون حينئذ الزاني لا يزني إلّا بزانية، والزانية لا تزني إلّا بزان وهو خلاف المراد لأن هذه الآية على حد قوله تعالى (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) الآية الآتية عدد ٢٦، والمراد بها هنا تزهيد النّاس في نكاح البغايا لأن الزنى عديل الشّرك في القبح، والإيمان قرين العفاف في الحسن، وقد سئل صلّى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها، فقال أوله سفاح وآخره نكاح، فالعفيف يتباعد عن دنسهنّ، والشّريف يتنزه عن حقيرهن قال:
إذا وقع الذباب على طعام | كففت يدي ونفسي تشتهيه |
وتجتنب الأسود ورود ماء | إذا كان الكلاب ولغن فيه |
الرامي أي القاذف التعذير فقط، وهو يختلف باختلاف الأشخاص، وإن قذفها بغير الزنى كقوله يا فاسقة يا سارقة يا خبيثة فيكفي فيه شاهدان، وفيه التعذير أيضا، والتعذير إذا كان بالجلد فلا يبلغ أقل الحد أي الأربعين بل دونها ولو بضربة واحدة.
وشروط إحصان القذف الحربة والإسلام والعقل والبلوغ والعفة عن الزنى. والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ» أي القاذفين بعد إقدامهم على القذف «شَهادَةً أَبَداً» مدة حياتهم لورودها على التأييد لثبوت فسقهم بقوله تعالى «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (٤) الخارجون عن طاعة الله تعالى.
تدل هذه الآية على أن القذف من الكبائر، وقد عده صلّى الله عليه وسلم من الموبقات السّبع في الحديث الذي رواه الشّيخان وأبو داود والنّسائي بلفظ: اجتنبوا السّبع الموبقات الشرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرم الله إلّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.
قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أنفسهم وثبت لديكم صلاحهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٥) بعباده الرّاجعين إليه بغفران ذنوبهم السّابقة وإزالة اسم الفسق عنهم وقبول شهادتهم. ويفهم من هذه الآية أن التوبة وحدها لا تكفي من القاذف حتى يقرنها بعمل صالح، وهو كذلك. وقيل لا تقبل شهادتهم ولو تابوا، وإن الاستثناء يرجع إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والأول أولى، لأن الاستثناء راجع إلى رد الشّهادة كما قاله عمر وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة، ومن هنا أخذت قاعدة الاسقاط من الحقوق المدنية على مرتكبي الجنايات، وقاعدة رجوع هذه الحقوق إليهم باستحصالهم على قرار من الحكومة، وهذا الحكم الثالث من الآيات البينات، والحكم الرّابع بينه بقوله «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ» على صحة قولهم «إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ» على رميهم «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» (٦) في رميه زوجته «وَالْخامِسَةُ» يزيد فيها جملة «أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» (٧) فيما رماها به، وبهذا ينجو من إيقاع حد القذف عليه، والحكم الخامس هو «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ» الحد الذي ترتب عليها بشهادات زوجها المخمسة المقرونة
باللعن «أَنْ تَشْهَدَ» هي أيضا على نفسها «أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» (٨) فيما رماها به «وَالْخامِسَةَ» تزيد فيها ما أشار الله إليه بقوله «أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ» زوجها «مِنَ الصَّادِقِينَ» (٩) فيما رماها به من الزنى لا في شهاداته المخمسة، وهو كذلك يقرن اللعن في الشّهادة الخامسة فقط، وجعل الغضب في جانبها بمقابل اللّعن الذي بجانبه لأنهن يستعملنه كثيرا، فربما جر أن عليه لكثرة جريه على لسانهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن ليكون رادعا لهن.
أخرج في الصّحيحين عن سهل بن سعد السّاعدي أن عويمر العجلاني جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقنلونه أم كيف يفعل؟
فقال صلّى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها، قال سهيل فتلاعنا وأنا مع النّاس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله أن مسكنها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره، فكانت تلك أي قضية الطلاق بعد التلاعن سنة للمتلاعنين. وفي رواية: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انظروا ان جاءت به اسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج السّاقين، ولا أحسب عويمرا إلا صدق عليها، وان جاءت به اسحم أحيمر كأنه دحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النّعت الذي نعت صلّى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، وكان بعد بنسب إلى أمه. هذا مختصر من حديث طويل، وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال ابن أمية قذف امرأته خولة عند النّبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سمعاء، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النّبي صلّى الله عليه وسلم يقول البينة أو حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه هذه الآية، فأرسل إليهما فجاءا فقام هلال بن أمية فشهد والنّبي صلّى الله عليه وسلم يقول يعلم الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت الخامسة وقفها وقال إنها موجبة أي ان هذه الشهادة الخامسة المقرونة باللعن والغضب توجب وقوعه عليها إن كذبت، وإن غضب الله عظيم أجارنا الله منه، وذلك ليحملها على الصّدق قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت لا أفضح قومي