
مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي ﷺ ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحقّ ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يتظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم، مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السرّ والعلن.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
. (١) فإن تولوا: هي الأرجح في مقام فإن تتولوا أي صيغة الجمع المخاطب وهو ما عليه الجمهور.
المتبادر من واو العطف الذي بدأت به الآية الأولى أن المقصود بالكلام هم الذين حكيت مواقفهم وندد فيهم في الآيات السابقة أي مرضى القلوب والمنافقين وقد احتوت الآيات:
(١) حكاية لما كانوا يحلفون به للنبي من أوثق الأيمان على استعدادهم لتنفيذ أمره لو أمرهم بالخروج.

(٢) وأمرا للنبي ﷺ بالرد عليهم بأن لا يحلفوا، وأن المطلوب منهم هو الإذعان والطاعة في ما هو خير ومصلحة ومعروف، وأن الله خبير بأعمالهم ونياتهم.
(٣) وأمرا آخر للنبي بأن يؤكد عليهم وجوب الإخلاص في طاعة الله ورسوله وعدم الاكتفاء بالقول، ففي إخلاصهم هدى وخير ومصلحة لهم وإذا أعرضوا فكل مسؤول عن واجبه وعمله، فالرسول مسؤول عما أوجب الله عليه وحمّله إياه وهو التبليغ والإرشاد. وهم مسؤولون عما أوجب عليهم وحملهم إياه من الإخلاص والسمع والطاعة، وضرر تقصيرهم وعدم إخلاصهم عائد إليهم.
تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
قال المفسرون: إن المنافقين لما صار القرآن يندد بإخلاصهم ويفضحهم جاءوا إلى النبي ﷺ يحلفون له بأنهم مخلصون وأنهم مستعدون لتنفيذ كل ما يأمرهم به حتى لو أمرهم بالجلاء. أو يحلفون له على استعدادهم للجهاد حالما يدعوهم إليه «١».
ولم يسند المفسرون أقوالهم بسند. والآيات تؤيد الأقوال. غير أن أسلوبها لا يدل على أنها نزلت مباشرة بسبب ذلك. ففيها حكاية لأقوالهم. وهي معطوفة على ما قبلها، وضمائر الجمع الغائب والجمع المخاطب فيها عائدة إلى الذين ندد بهم في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إنها متصلة بها سياقا وموضوعا.
والذي يتبادر هو أنها والآيات السابقة نزلت معا لتحكي مواقف المنافقين المذكورة فيها وتندد بهم. وقد انطوت هذه الآيات كذلك على معنى عدم الثقة فيما يتظاهرون به ويحلفون عليه، واستهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من توطيد الطاعة والإخلاص لله ورسوله.