
عذابه فيه، أجارنا الله من ذلك.
ثم طفق يقص علينا جل قصصه من بعض بدائع مصنوعاته، فقال أولا يا أيها الإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كل بلسان حاله أو قاله «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أجنحتها في الهواء «كُلٌّ» من تلك المسبحات والمسبّحين يسبحونه بلغات مختلفات وأحوال متباينات لا يعلم بعضها البشر، وهو جل شأنه «قَدْ عَلِمَ» من كل «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وتعلم هي أيضا أنها تصلي وتسبح له «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (٤١) من تسبيح وغيره قبل أن يفعلوه «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (٤٢) بعد الفناء فيحاسب ويكافى ويجازى كلا على قدر عمله.
مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:
وقال تعالى ثانيا «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» يسوقه حيث يريد «ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» لأن الرياح أول ما تثير السّحب تكون قطعا متفرقة «ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» بعضه فوق بعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» بصورة بديعة طلا ووائلا وخفيفا وسحّا «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ» المطر الذي نراه فوقنا «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» مما يتكاثف من الماء ويتجمّد في الهواء البارد ويبقى عائما بقدرة القادر الحكيم، ثم يتهاطل بانتظام عجيب إلى الأرض صغارا وكبارا وبين ذلك، واعلم أن لفظ من الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء نزوله من السّماء، ومن الثانية للتبعيض لأن ما ينزل هو بعض تلك المياه المتجمدة الشّبيهة بالجبال من حيث الكثرة، ومن الثالثة للتجنيس لأنها تفيد أن تلك الجبال من برد لا من جنس آخر «فَيُصِيبُ بِهِ» أي البرد (مَنْ يَشاءُ» من خلقه فينتفع به أناس ويهلك به آخرون إذا شاء من إنسان وحيوان وزرع وغيره «وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» فلا يقربه شيئا من ذلك ولو كان نازلا عليهم أو لا ينزله على أراضيهم البتة حسب مقدراته الأزلية «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» الحاصل من تصادم السّحب المنكاثفة ببعضها لشدة ضوءه «يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» (٤٣) فيعميها «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» باختلافهما وطولهما

وقصرهما «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإزجاء والإزجاء والإنزال والاصابة والصّرف والتقلب «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (٤٤) الحية المتفكرة يتعظون بها ويخافون منزلها ويتأثرون ويتدبرون بنعم الله ونقمه وبدائع مكوناته، لأن هذه الآية تشير إلى مسألة دقيقة وهي الألفة، لأن السّحاب لا يأتلف صدفة بل على قاعدة منتظمة فنية اطلع عليها علماء عصرنا من أهل الدّنيا فقالوا إن قطع السّحاب لا تأتلف إلّا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كلّ قطعة منه، فالتي تحمل كهربائية سلبية ينسنى لها الائتلاف مع قطعة كهربائية ايجابية، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها كما يشاهد عند تفرقه وتلاشيه في أيّام الصّيف وغيره، سواء أكان ثقالا أو جهاما. وقالوا إن قسما من أو كسجين الهواء يتحد مع الهدروجين بواسطة الشّرارة الكهربائية الحاصلة من البرق فيتولد الماء، وهذا الاتحاد يسميه الكيمائيون بالألفة الكيميائية وهي سر من أسرار الغيب، وهؤلاء الّذين يولدون الكهرباء الّذين توصلوا بعقولهم وأفكارهم تدريجا إلى الإبداع في الاختراع بسبب هذه القوة لا يعلمون ما هي، فسبحان القادر الجاعل من المحسوسات ما هو غائب، ومن المشاهدات ما هو منكر، ومن البسيطات قوى عظيمة. قال تعالى ثالثا «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» من كل مادب على وجه الأرض البارزة والمغمورة بالماء ويخرج من هذا العموم الملائكة لأنهم خلقوا من النّور والجن لأنهم خلقوا من النّار، وكلّ من هذين النّوعين لم يشاهده البشر على صورته الحقيقية إلّا من اختصه الله بذلك أما آدم عليه السّلام فإنه خلق من الطّين، والطّين لا يخلو من ماء فيكون داخلا في هذه الآية، وهذا الماء المشار إليه نسبيّ بنسبة المخلوق منه، ففي الإنسان وبعض الحيوان نطفة، وفي غيرها ما يقابلها، ويطلق على الكل ماء، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية ٣١ من الأنبياء ج ٢ فالمخلوق من نطفة لا تسمى ماء لا بد أن يكون متكونا من شيء آخر، وذلك الشّيء لا بد أن يكون أصله مركبا من الماء، فيكون الكل من الماء اجمالا، لأن فيه حياة كلّ نام، وان ما خلق من التراب المتحجر كالفأر، وما خلق من الزبل كالخنافس، وما خلق من الطّين كالديدان وما خلق من النّار كالسمندل، وما خلق من الثلج كاليخ أيضا داخل في هذه
صفحة رقم 144
الآية، لأن كلا منها فيه ماء، قال تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» كالحيات والدّيدان والأسماك وغيرها «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطّير وغيرها مما لا نعرفه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» كالبهائم والوحوش وغيرها كثير. ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرّتيلات وأم أربع وأربعين وأم سبع وسبعين وغيرها لقلتها بالنسبة لذوات الأربع، ولأن اعتماد هذه الحشرات في المشي على أربع فقط وبقية الأرحل تبع لها «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ممن يعقل ومما لا يعقل وما يعلم وما لا يعلم مما رآه البشر ومما لم يره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من أنواع الخلق وأجناسه وأصنافه «قَدِيرٌ ٤٥» لا يعجزه
شيء يكوّنه بكلمة كن كما يريده. هذا وقد غلب في في هذه الآية اللّفظ اللائق بمن يعقل على مالا يعقل لشرفه، فجعله أصلا واتبع به ما لا يعقل لخسّنه، وهو أولى من العكس، وقدم من يمشي على بطنه لأنه أعجب ممن يمشي على رجلين وأربع. قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لكل شيء ليعتبر الخلق ويتعظوا بما وقع على الأقوام المخالفين من قبلهم ويرشدوا إلى طريق الهدى، ويعرضوا عن الضّلال «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٤٦) ويضل من يشاء عنه فيدعه يتخبط في غياهب الجهل طبق ما قدره وقضاه في الأزل ثم أراد أن يقص علينا شيئا من أحوال خلقه فبين جل بيانه أن النّاس بعد بيان هذه الآيات المبينات افترقت إلى ثلاث فرق، واحدة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا وهم المنافقون المشار إليهم في قوله تعالى «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» بألسنتهم دون اعتقاد صحيح «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن الطّاعة ويعرض عن الإيمان «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الاعتراف بهما «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (٤٧) راجع الآية ٨ فما بعدها من سورة البقرة المارة تقف على أحوال المنافقين لأن من يوافق قوله عقيدته ولسانه قلبه هو المؤمن المخلص حقا وصدقا «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» بشرع الله «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» (٤٨) عنه ومن هؤلاء المنافقين بشر المار ذكره وقصته في الآية ٦٥ من سورة النّساء فراجعها. أما من قال إن هذه