
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.
وقد اختلف فى هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.
ثم ذكر علة قبول التوبة فقال:
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
حكم قذف الرجل زوجه
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
تفسير المفردات
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا، ولعنة الله: الطرد من رحمته، ويدرأ: أي يدفع، والعذاب: الحد، وغضب الله: سخطه والبعد من فضله وإحسانه

المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء- ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية، لأن فى تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روى عن ابن عباس أنه قال: «لما نزل قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدىّ الأنصاري: إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتى خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا فى أهل بيتي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال أخبرنى عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا وقال لعويمر اتقى الله فى زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيرى، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقى الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت يا رسول الله: إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلىّ ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنها حبلى من غيرى وإنى من الصادقين ثم قال:
قل: أشهد بالله إنها زانية وإنى ما قربتها منذ أربعة شهور وإنى لمن الصادقين ثم قال:
قل لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال:
اقعد، وقال لخولة: قومى فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجى لمن الكاذبين، وقالت فى الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الثالثة: إنى حبلى منه، وقالت فى الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآنى على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين فى قوله، ففرق رسول الله بينهما».
«و
فى رواية عن ابن عباس: أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت والله لا أفضح قومى فشهدت فى الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة»
فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة).
وفى رواية «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه».
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهى الحد أن تخلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة- لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها.
وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن فى هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال:
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم فى كل آن، وأنه حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان- لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه، لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفترى عليها، لاشتراكهما فى الفضيحة، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون فى نفسه من أهلها، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما فى تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروى.