
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء والمرسلين، أتبعه بذكر أخبار الكفرة المتمردين من أقوامهم واختلافهم وتفرقهم في الدين حتى أصبحوا فرقاً وأحزاباً، ليجتنب الإِنسان طرق أهل الضلال.
اللغَة: ﴿زُبُراً﴾ قطعاً جمع زبور وهي القطعة من الفضة أو الحديد ﴿غَمْرَتِهِمْ﴾ الغمرة: الحيرة والضلالة وأصله في اللغة: الماء الذي يغمر القامة ﴿يَجْأَرُونَ﴾ يضجون ويستغيثون وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور ﴿تَنكِصُونَ﴾ النكوص: الرجوع إلى الوراء ﴿نَاكِبُونَ﴾ نكب عن الطريق نكوباً إِذا عدل عنه ومال إلى غيره.
التفسِير: ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقٌّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم ﴿حتى حِينٍ﴾ أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ للمشركين ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلاَّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم ﴿وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: ٣٥] وفي

الحديث «إِن الله يعطي الدنيا لمن يُحبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ»، ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال ﴿إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون ﴿والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي والبراهين الدالة على وجوده سبحانه
وفي كل شيءٍ له آيةٌ... تدلُّ على أنه واحد
﴿والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه الله وطلباً لرضوانه ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً ﴿أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الآية الكريمة فقالت ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجل؟ فقال لها:
«لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عَزَّ وَجَلَّ» ﴿أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ أي هم الجديرون بها والسابقون إِليه قال الإِمام الفخر: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإنسان ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم {بَلْ قُلُوبُهُمْ

فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} أي بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك﴾ أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإشراك ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب ﴿حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب﴾ أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ أي إِذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين ﴿لاَ تَجْأَرُواْ اليوم﴾ أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب ﴿إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي لقد كنتم تسمعون آيات القرآن تقرأ عليكم ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره ﴿سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾ أي متحدثين ليلاً تسمرون تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسبّ النبي عليه السلام ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين﴾ أي أم جاءهم من الله بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا ييكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود ﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي لو كان ما كرهوه من الحق - الذي هو التوحيد والعدل -
صفحة رقم 287
موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة ﴿لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾ أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي فهم معرضون عن هذا القرآن العظيم وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ «الذكر» تعظيماً للقرآن ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً﴾ أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبيلغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فيلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي وإنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم ﴿وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ﴾ أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ أصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة، شبَّه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإِنسان من فرقة إلى قدمه على سبيل الاستعارة.
٢ - الاستفهام الإِنكاري ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾.
٣ - حذف الرابط في ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ حذف «به» أي نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه لاستطالة الكلام مع أمن اللبس.
٤ - الطباق بين ﴿يُؤْمِنُونَ.. يُشْرِكُونَ﴾.
٥ - الاستعارة البديعة ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ النطق لا يكون إلا ممن يتكلم بلسانه، والكتاب ليس له لسان، فوصف سبحانه الكتاب بالنطق مبالغة وصفه بإِظهار البيان وإِعلان البرهان، وتشبيهاً باللسان الناطق بطريق الاستعارة.
٦ - جناس الاشتقاق ﴿يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ﴾ ﴿أَعْمَالٌ.. هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾.
٧ - الاستعارة الفائقة ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ شبّه إِعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية.
٨ - السجع الرصين ﴿مُّشْفِقُونَ، يُؤْمِنُونَ، يُشْرِكُونَ، سَابِقُونَ﴾ الخ.