آيات من القرآن الكريم

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

مكة من قتل يوم بدر أو ما حلّ بأهل مكة من قحط وجوع «١» مما أوردنا خبره في تفسير سورة الدخان مع أنه يلحظ من روح الآيات أن الكلام متعلق باليوم الذي لا يكون للكفار فيه نصير وهو يوم القيامة. ولا سيما أنها احتوت تذكيرا بما كان منهم من استكبار وعناد وإعراض. ومثل هذا قد ورد في آيات تعلق الكلام فيها بيوم القيامة. ومرّت أمثلة عديدة منها ولذلك نرجّح أن العذاب هو العذاب الأخروي.
والمتبادر أن اختصاص المترفين بالعذاب في الآيات هو من باب تخصيص هؤلاء بالإنذار لأنهم هم الذين يضغطون على الناس ويجعلونهم يحذون حذوهم في الكفر والإعراض. وبخاصة أنهم موضوع الكلام في الآيات [٥٣- ٥٦].
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٨ الى ٧٤]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
. (١) ذكرهم: هنا بمعنى التذكير والتنبيه والعظة.
(٢) خرجا: بمعنى أجرا أو نفقة أو ضريبة.
(٣) ناكبون: منحرفون.
في هذه الآيات:
أولا: أسئلة تتضمن التنديد والتقريع عن أسباب موقف الكفار من النبي ودعوته:
١- فهل لم يترووا ويتدبروا فيما يسمعون من آيات الله وأقوال النبي فلم

(١) انظر تفسير البغوي والطبري.

صفحة رقم 323

يدركوا ما فيها من حقّ وهدى ومصلحة وخير لهم.
٢- وهل رأوا أن ما جاءهم بدع لم يسبق أن أتى مثله لآبائهم فوقفوا منه موقف المستغرب المنكر.
٣- وهل لا يعرفون شخص نبيهم الذي يدعوهم معرفة قريبة وكافية حتى ينكروه ويتجاهلوه ويعرضوا عنه ويتهموه بالجنون أو الاتصال بالجنّ؟
٤- وهل طلب منهم أجرا أو ضريبة حتى يتهموه ويحملوا دعوته على محمل الغرض والمنفعة الشخصية؟.
وثانيا: ردود قارعة عليهم:
١- فليس النبي مجنونا ولا متصلا بالجنّ وإنما جاءهم بالحقّ من الله على التأكيد.
٢- وإن وقوفهم منه الموقف الذي وقفوه هو بسبب كراهية أكثرهم للحقّ وعدم اتساق الحق مع أهوائهم.
٣- وإن الله تعالى لا يمكن أن يجعل الحق خاضعا للهوى لأن في ذلك فسادا للكون أرضه وسمائه وما فيهما.
٤- وإن ما أنزله الله على رسوله هو ذكر وموعظة لهم وهم يستكبرون عن سماع الذكر والموعظة.
٥- وإن الله هو خير الرازقين وإن النبي ليعرف ذلك فلا يعقل أن يطلب منهم أجرا ولا جزاء لأنه يعرف أن أجر ربه هو خير.
٦- وإن النبي إنما يدعوهم إلى الطريق القويم الذي ينجو من يسير فيه ويسعد.
٧- وإن الكافرين بالآخرة لا يلبّون الدعوة، وينحرفون عن مثل ذلك الطريق لأنهم لا يحسبون حساب الوقوف بين يدي الله.

صفحة رقم 324

وواضح أن الآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين. وأسلوبها قوي رصين مفحم موجه إلى القلب والعقل معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.
تعليقات على محتويات الآيات
١- لقد تعددت تخريجات المفسرين لمدى الآية الأولى منها أنها بسبيل استنكار كفر الكافرين لأن ما جاءهم ليس بدعا وأنه قد جاء لآبائهم من قبل.
ومنها أنها بسبيل استنكار كفرهم لأن الله قد اختصهم دون آبائهم بنعمته فأرسل إليهم رسوله لهدايتهم «١». والعبارة تتحمل التخريجين. ومع ذلك فإن في كل منهما إشكالا بسبب آيات في سور أخرى. ففي سورة يس هذه الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) وتكرر هذا في آيتي سورتي السجدة والقصص هاتين:
١- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: ٣].
٢- وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: ٤٦].
هذا في حين أنه جاء في سورة النمل هذه الآية: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [٦٨] وتكرر هذا في سورة (المؤمنون) على ما يأتي بعد قليل.
ونحن نرجّح التخريج الأول. وفي صدد الإشكال الوارد عليه يجوز أن يقال إن آيات سور يس والسجدة والقصص قد قصدت الزمن القريب بينما آيتا سورتي النمل والمؤمنون قد قصدتا الزمن البعيد. وفي الزمن البعيد الذي كانوا يتداولون أخباره جيلا بعد جيل أنبياء عديدون من جزيرة العرب أو حلّوا فيها وقد ذكروا في

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

صفحة رقم 325

القرآن. ويعتبرون آباء أوّلين للعرب الذين يسمعون القرآن مثل هود وصالح وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام.
إن الآية الثانية تلهم أن النبي ﷺ كان معروفا عند قومه بنبل الخلق ورجاحة العقل وكرم المنبت قبل البعثة وهو ما ثبت بالروايات الوثيقة ومنها قول خديجة رضي الله عنها الذي وجهته إليه في معرض تثبيته حينما أوحي إليه لأول مرة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حيث قال لها: «لقد خشيت على نفسي فقالت له كلّا والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ» «١». ثم في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله بن الزبير حيث قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له: «إني أعيذك من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» «٢».
حيث تضمنت استنكارا لموقفهم منه وهم يعرفونه حقّ المعرفة فيعرفون أنه لا يمكن أن يكذب أو يفتري أو يسخف أو يسفّ أو يلهو أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يسعى وراء غرض ومنفعة ذاتية «٣». وفي تفسير البغوي قول لابن عباس في معنى الآية جاء فيه: «أليس قد عرفوا محمدا ﷺ صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود؟».
٣- وإن في أسلوب الآية الثالثة قرينة على أن نسبة الكفار الجنون إلى النبي هي نسبة أسلوبية إلى من يأتي بالشيء الجديد والرأي الغريب حيث تضمنت تصحيحا لوصف ما جاء به وهو الحقّ ولا يصحّ لمن جاء بالحق أن يوجه إليه الجنون أو يوقف منه موقف المستغرب.

(١) التاج ج ٣ ص ٢٢٦.
(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧- ٤٨.
(٣) انظر أيضا تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.

صفحة رقم 326

٤- رأينا بعض المفسرين «١» يقفون عند جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ليقولوا إنها تعني أن منهم من لا يكره الحقّ مع كفره وليذكروا اسم أبي طالب عمّ النبي الذي لم يؤمن حياء لا مكابرة ولا كراهية للحقّ. ومع أنه كان بين الكافرين من هو معتدل الموقف ومقرّ بقلبه بالحق الذي جاء به النبي على ما شرحناه في سياق آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص:
٥٧] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: ٨٣] ووَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: ١٠٣] وأَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: ٥٧] إلخ.
ونقول هنا أيضا إن جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه.
وجملة وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ جليلة المدى عامة التلقين في إيجاب التزام الحقّ واتباعه وعدم تغليب الهوى والميول والأنانية والمآرب الخاصة عليه لما في ذلك من فساد كون الله وأهله.
هذا، ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ حديثا رواه الحافظ أبو يعلى بطرقه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله ﷺ إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني.
تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب. فأوشك أن أرسل حجزكم. وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم ربّ العالمين أي ربّ قومي أي ربّ أمتي فيقال يا محمّد إنك لا تدري ما

(١) انظر تفسير النسفي.

صفحة رقم 327
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية