ويتفكرون في أن هذا العجل لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم ولا نفعا يجلبه لهم، فكيف يكون إلها؟!.
أما الذي يعبده موسى عليه السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع.
١١- دل قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ.. على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، كما في آية أخرى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف ٧/ ١٤٨]. وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف ٧/ ١٩٥].
- ١٢- معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر وتوحيد الإله الحق
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٨]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
الإعراب:
بْنَ أُمَ
بالفتح أراد يا بن أمي بفتح الياء، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذف الألف تخفيفا لأن الفتحة تدل عليها. ومن قرأ بالكسرا بْنَ أُمَ
أراد يا بن أمي إلا أنه حذف الياء لأن الكسرة قبلها تدل عليها، والأصل إثباتها لأن الياء إنما تحذف من المنادي المضاف، نحو: يا قوم، ويا عباد، والأم ليست بمناداة هنا، وإنما المنادي هو «الابن».
لَنْ تُخْلَفَهُ فعل مبني للمجهول، وضمير المخاطب نائب الفاعل، وهاء تُخْلَفَهُ مفعول ثان منصوب. ومن قرأ بكسر اللام لَنْ تُخْلَفَهُ كان مضارع (أخلفت الموعد) والمفعول الثاني حينئذ محذوف، أي لَنْ تُخْلَفَهُ أي الموعد لأن أخلف: يتعدى إلى مفعولين.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تمييز محول عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء.
البلاغة:
أَمْرِي وْلِي
نَفْسِي وكذا نَفْعاً نَسْفاً عِلْماً سجع حسن غير متكلف.
المفردات اللغوية:
مِنْ قَبْلُ من قبل رجوع موسى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ إنما وقعتم في الفتنة والضلال بالعجل فَاتَّبِعُونِي في الثبات على الحق وعبادة الرحمن وَأَطِيعُوا أَمْرِي في تلك العبادة لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ لن نزال على العجل وعبادته عاكِفِينَ مقيمين قالَ: يا هارُونُ قال موسى بعد رجوعه ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ لا: زائدة، أي أن تتبعني في الغضب لله ومقاتلة من كفر بالله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، والمحاماة عنه، وعصيانك بإقامتك بين قوم لا يعبدون الله تعالى.
لَ: يَا بْنَ أُمَ
أراد أمي، وخص الأم استعطافا لقلبه تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي، وكان أخذ بلحيته بشماله، وبشعره بيمينه، يجره إليه، من شدة
غضبه لله، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام كان حديدا خشنا متصلبا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، ففعل ما فعل. شِيتُ
خفت لو اتبعتك لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
ولم تراع قولي فيما رأيته في ذلك.
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ثم أقبل عليه وقال منكرا: ما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما الذي حملك على هذا الأمر الخطير؟ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي علمت بما لم يعلموه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فقبضت قبضة من تربة موطئ جبريل عليه السلام، فهو الرسول، وقيل: موسى عليه السلام، والقبضة: الأخذ بجميع الكف فَنَبَذْتُها ألقيتها وطرحتها في صورة العجل المصاغ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي ومثل ذلك زينت وحسنت لي نفسي.
قالَ: فَاذْهَبْ قال موسى له: فَاذْهَبْ من بيننا فِي الْحَياةِ مده حياتك أَنْ تَقُولَ لمن رأيته، عقوبة على ما فعلت لا مِساسَ أي لا تقربني، ولا مخالطة، فلا يقربه ولا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، وإذا حدث مساس مع أحد، أخذته الحمى وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ أي سيأتيك الله به حتما، وتبعث إليه، وبكسر اللام: لن تغيب عنه ظَلْتَ أصله: ظلت، فحذفت الأولى تخفيفا، أي دمت عاكِفاً مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ أي بالنار لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينه فِي الْيَمِّ في البحر نَسْفاً نذرا، فلا يصادف منه شيء، وقام موسى فعلا بإلقاء العجل في البحر.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً وسع علمه كل شيء وأحاط به.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى مخالفة عبادة العجل لأبسط مبادئ العقل لأنه لا يجيب سائله ولا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، ذكر أن بني إسرائيل أيضا عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطأ فعلهم، ثم أوضح معاتبة موسى لأخيه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، ثم أردف به مناقشة موسى للسامري وعقابه من الله في الدنيا والآخرة، وإلقاء موسى العجل في البحر، وإعلان موسى صراحة: من هو الإله الحق، وهو الذي وسع علمه السموات والأرض، لا الجماد الذي لا يضر ولا ينفع.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام قومه عن عبادتهم العجل وتحذيرهم منه، وإخباره إياهم بأنه فتنة، فيقول:
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي لقد قال هارون عليه السلام لقومه عبدة العجل من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم: إنما وقعتم في الفتنة والاختبار لإيمانكم وحفظكم دينكم بسبب العجل، وضللتم عن طريق الحق لأجله، ليعرف صحيح الإيمان من عليله.
وإن ربكم الله الذي خلقكم وخلق كل شيء فقدره تقديرا، لا العجل، فاتبعوني في عبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره، واتركوا ما أنهاكم عنه.
ويلاحظ أن هارون عليه السلام وعظهم بأحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله:
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
وقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ تذكير لهم بربوبية الله وقدرته التي أنجتهم من فرعون وجنوده، وتذكير برحمة الله التي تدل على أنهم متى تابوا، قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته تخليصهم من آفات فرعون وعذابه.
ولكنهم قابلوا الوعظ والنصح بالتقليد والجحود، فقالوا:
قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي قالوا:
لا نقبل حجتك، ولكن نقبل قول موسى، فلا نترك عبادة العجل، حتى نسمع
كلام موسى فيه. وكادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام. وما قصدهم إلا التسويف.
قالَ: يا هارُونُ، ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي قال موسى لهارون حين رجع إلى قومه بعد تكليم ربه في الميقات: ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور، واللحوق بي مع من بقي مؤمنا، فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، حين وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟ ففي مفارقتهم زجر لهم، ودليل على الغضب والإنكار عليهم. وأَلَّا في قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدة، أي أن تتبع أمري ووصيتي.
أفعصيت أمري؟ أي كيف خالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ ألم أقل لك:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف ٧/ ١٤٢].
فقال هارون معتذرا عن تأخره عنه وإخباره بما حدث، مستعطفا إياه:
لَ: يَا بْنَ أُمَّ، لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي قال هارون لموسى:
يا ابن أم، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو:
، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا، فتقول: إني فرقت جماعتهم لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم، وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، وحينئذ تقول: لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، وهي قوله المتقدم: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ولم تراع ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، واعتذر إليه أيضا بقوله في آية أخرى:
إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف ٧/ ١٥٠].
ثم كلم موسى كبير الفتنة وهو السامري قائلا:
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي قال موسى للسامري: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ سأله ليتخذ من جوابه وإقراره حجة للناس ببطلان فعله وقوله.
قالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها أي قال السامري: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضة من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، وذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كآلهة المصريين عبدة الأصنام.
قال مجاهد: نبذ السامري، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدا له خوار: وهو حفيف الريح فيه.
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي كما زينت لي نفسي السوء، زينت لي أيضا وحسنت هذا الفعل بمحض الهوى، أو حدثتني نفسي، لا بإلهام إلهي أو ببرهان نقلي أو عقلي.
فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة، فقال: قالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ: لا مِساسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أي قال موسى للسامري: فعقوبتك في الدنيا أن تذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا يمسك أحد، ولا تمس أحدا، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له، وهذه هي عقوبة النبذ من المجتمع أو العزل المدني.
وعقوبتك في الآخرة: أن لك موعدا فيها للعذاب لا يخلفه الله، بل سينجزه، وهو يوم القيامة، وهو آت لا ريب فيه ولا مفر منه.
وأما إلهك المزعوم فمصيره كما قال تعالى:
وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته، يعني العجل لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنذرينه في البحر لتذهب به الريح. قال قتادة: فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر. وهذا موقف حازم من موسى عليه السلام أحد الأنبياء أولي العزم لأن مثل هذا المعبود في زعم السامري ومن اتبعه يجب استئصال آثاره، حفاظا على توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، لذا أتبعه بقوله:
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي قال موسى:
إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، أي فهو المستحق للعبادة، ولا تنبغي العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، عبد له. وهو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
وهكذا بدأت قصة موسى بالتوحيد الخالص: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي.. وختمت به: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ.. شأن رسالة كل نبي.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- أنكر هارون عليه السلام على السامري وتابعيه عبادة العجل إنكارا شديدا قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم، فعصوه وكادوا أن يقتلوه، وسوفوا وما طلوا حتى يرجع موسى عليه السلام، لينظروا هل يقرهم على ما فعلوا أم لا.
٢- لقد توهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون مع اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى سمع الصياح والضجيج، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة.
٣- قوله تعالى: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دليل على أن السكوت على المنكر ضلال، والمعنى: حين رأيتهم أخطئوا الطريق وكفروا، ما منعك عن اتباعي والإنكار عليهم، إن مقامك بينهم- وقد عبدوا غير الله- عصيان منك لي.
قال القرطبي: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم.
وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله:
ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وهم جماعة يجتمعون، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب
السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل وأما القضيب: فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق «١».
٤- أجاب هارون معتذرا مبينا وجهة اجتهاده: وهي أنه خشي إذا خرج وتركهم- وقد أمره موسى بالبقاء معهم- أن تقع الفرقة بين بني إسرائيل، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشي إن زجرهم أن يقع قتال، فيلومه موسى عليه، وقد أوضح ذلك هنا بقوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وفي الأعراف قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لأنك أمرتني أن أكون معهم.
٥- بعد عتاب هارون اتجه موسى للسامري سائلا: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي ما أمرك وما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ وقصده من سؤاله: انتزاع اعتراف منه بباطله.
قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها «سامرة» ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكفون على أصنام لهم قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فاغتنمها السامري، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل، فاتخذ العجل.
فقال السامري مجيبا لموسى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ يعني رأيت ما لم يروا رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضته، فما ألقيته على شيء، إلا صار له روح ولحم ودم فلما سألوك أن تجعل لهم إلها، زينت لي نفسي ذلك.
٦- عاقب موسى عليه السلام ذلك السامري الذي اعترف بأنه صنع العجل لهوى في نفسه، فنفاه عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الحسن البصري: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه، عقوبة له ولما كان منه إلى يوم القيامة وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا، ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا.
ويقال: لما قال له موسى: فاذهب، فإن لك في الحياة أن تقول:
لا مِساسَ خاف فهرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه، حتى صار كالقائل: لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
٧- قال القرطبي: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكعب بن مالك وصاحبيه الذين خلفوا.
ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، ليضطر إلى الخروج. ومن هذا القبيل: التغريب في حد الزنى.
٨- وهناك عقاب آخر للسامري يوم القيامة، وموعد لعذابه لا بد من مجيئه، والصيرورة إليه، ولا خلف فيه.
٩- حرق موسى عليه السلام بالنار العجل الذي اتخذه السامري. ثم ألقى
رماده في البحر، وهذا هو الواجب المتعين في استئصال المنكر وتصفية جميع آثاره.
١٠- طوى موسى عليه السلام من تاريخ بني إسرائيل واقعة عبادة العجل التي طرأت في فترة زمنية قصيرة الأمد، وقرر إلى الأبد مبدأ التوحيد، وأوجب عبادة الله الذي لا إله إلا هو، العليم بكل شيء، وسع كل شيء علمه، الخبير بأحوال المخلوقات الظاهرة والباطنة، وهذه هي صفات الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه.
١١- لم يكن أخذ موسى برأس أخيه وبلحيته معصية قادحة بعصمة الأنبياء عليهم السلام، كما زعم بعض الطاغين، وإنما كان هذا تعبيرا قويا عن إنكاره، وغضبا لله لا لنفسه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. والغضب في هذا الموضع محمود غير مذموم، ولا يستنكر ولا يستغرب ظهور أمارات الغضب على النفس، وقد أجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه، ويفتل أصابعه، ويقبض لحيته «١».
والدليل على ذلك أن هارون عليه السلام عذر أخاه موسى عليه السلام فيما فعل، وكل ما في الأمر أنه استمهله وهدأ أعصابه، ليبين له وجهة نظره، ووجه اجتهاده.