
ماء البحر ما غرَّقهم، وقال ابن الأنباري: ويعني بقوله: «ما غشيهم» البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشَهم كل مائِهِ. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وأبو رجاء، والأعمش: «فغشَّاهم من اليم ما غشَّاهم» بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء.
قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: دعاهم إِلى عبادته وَما هَدى أي: ما أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة. وهذا تكذيب له في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «١».
قوله تعالى: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ لأخذ التوراة. وقد ذكرنا في مريم «٢» معنى «الأيمن» وذكرنا في البقرة «٣» «المن والسلوى». قوله تعالى: كُلُوا أي: وقلنا لهم: كلوا. قوله تعالى: وَلا تَطْغَوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تبطروا في نعمي فتظلموا. والثاني: لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين.
والثالث: لا تدَّخروا منه لأكثر من يوم وليلة. قوله تعالى: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي: فتجب لكم عقوبتي. والجمهور قرءوا «فيحِل» بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام. وقرأ الكسائي: «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام. قال الفراء: والكسر أحب إِليَّ، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، و «يحل» بالكسر، يجب، وجاء التفسير بالوجوب، لا بالوقوع. قوله تعالى: فَقَدْ هَوى أي: هلك.
قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ الغفار: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أُخرى، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته، وأصل الغفر: الستر، وبه سمي زِئْبَر الثوب: غفراً، لأنه يستر سداه. فالغفار: الستار لذنوب عباده، المسبل عليهم ثوب عطفه. قوله تعالى: لِمَنْ تابَ قال ابن عباس: لمن تاب من الشرك وَآمَنَ أي: وحَّد الله وصدَّقه وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض. وفي قوله تعالى: ثُمَّ اهْتَدى ثمانية أقوال «٤» : أحدها: علم أن لعمله هذا ثواباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لم يشكّك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: علم أن ذلك توفيق من الله له، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: لزم السنة والجماعة، قاله سعيد بن جبير. والخامس: استقام، قاله الضحاك. والسادس: لزم الإِسلام حتى يموت عليه، قاله قتادة. والسابع: اهتدى كيف يعمل، قاله زيد بن أسلم. والثامن:
اهتدى إلى ولاية بيت النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله ثابت البنانيّ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
(٢) سورة مريم: ٥٢.
(٣) سورة البقرة: ٥٧.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٤٤٢: الاهتداء هو الاستقامة على هدى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح فمن فعل ذلك وثبت عليه، فلا شك في اهتدائه.

قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قال المفسرون: لما نجَّى الله تعالى بني إِسرائيل وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى، لو أتيتنا بكتاب من عند الله، فيه الحلال والحرام والفرائض، فأوحى الله تعالى إِليه يَعِدُهُ أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلَّمه فيه، فاختار سبعين، فذهبوا معه إِلى الطور لأخذ التوراة، فعَجِل موسى من بينهم شوقاً إِلى ربه، وأمرهم بلحاقه، فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة عن قومك، قالَ هُمْ أُولاءِ أي: هؤلاء عَلى أَثَرِي، وقرأ أبو رزين العقيلي، وعاصم الجحدري: «على إِثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وابن يعمر، برفع الهمزة وسكون الثاء. وقرأ أبو رجاء، وأبو العالية: بفتح الهمزة وسكون الثاء. والمعنى: هم بالقرب مني يأتون بعدي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي: لتزداد رضىً، قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ قال الزجاج: ألقيناهم في فتنة ومحنة، واختبرناهم. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِكَ أي: من بعد انطلاقك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي: كان سبباً لإِضلالهم، وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «وأضلُّهم» برفع اللام. وقد شرحنا في البقرة «١» سبب اتّخاذ السّامريّ العجل، وشرحنا في سورة الأعراف «٢» معنى قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً.
قوله تعالى: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي: صدقاً، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: إِعطاء التوراة. والثاني: قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ إِلى قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ... الآية في المائدة «٣»، وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ «٤». والثالث: النصر والظَّفَر.
قوله تعالى: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: مدة مفارقتي إِياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أن تصنعوا صنيعاً يكون سبباً لغضب ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي: عهدي، وكانوا قد عاهدوه أنه إِن فكَّهم الله من مَلَكَة آل فرعون، أن يعبدوا الله ولا يشركوا به، ويقيموا الصلاة، وينصروا الله ورسله. قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: بكسر الميم، وقرأ نافع، وعاصم: بفتح الميم. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الميم. قال أبو علي: وهذه لغات. وقال الزجاج: المُلْك بالضم: السلطان والقدرة. والمِلْك، بالكسر: ما حوته اليد. والمَلْك، بالفتح:
المصدر، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكاً. وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: ما كنا نملك الذي اتُّخذ منه العجلُ ولكنها كانت زينة آل فرعون، فقذفناها، قاله ابن عباس. والثاني: بطاقتِنا قاله قتادة، والسدي. والثالث: لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البليَّة، قاله ابن زيد. والرابع: لم يملك مؤمنونا سفهاءنا، ذكره الماوردي. فيخرَّج فيمن قال هذا لموسى قولان: أحدهما: أنهم الذين لم يعبُدوا العجل. والثاني: عابدوه.
قوله تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «حُمِّلْنا» بضم الحاء وتشديد الميم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «حملنا» خفيفة.
والأوزار: الاثقال. والمراد بها: حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر.
فمن قرأ «حُمِّلنا» بالتشديد فالمعنى: حمّلناها موسى، أمَرَنا باستعارتها من آل فرعون فَقَذَفْناها أي
(٢) سورة الأعراف: ١٥٠.
(٣) سورة المائدة: ١٣.
(٤) سورة طه: ٨٢. [.....]