
أظهروا فيه سحرهم، واستعدوا بما يحتاجون من السحر، فبعيد أن يؤمروا بجميع ما قد جمعوه واستعدوا به، وإنما يؤمن بذلك من لم يجمع ما يحتاج إليه ولم يستعد به، وليس ذلك اليوم إلا يوم استعلاء وفراغ مما يحتاجون إليه من الكيد.
ويحن قطع الألف، لأن معناه: اعزموا على أمركم وأحكموه.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ائتوا صَفّاً﴾. أي: جيئوا المصلى، وهو الموضع الذي يجتمعون فيه يوم الوعيد.
فيكون ﴿صَفّاً﴾ مفعولاً بـ ﴿ائتوا﴾. ويجوز أن يكون المعنى: ائتوا مصطفين، ليكون أعظم لأمركم، وأشد لهيبتكم، فيكون حالاً. ووحد لأنه مصدر. فهو مصدر في موضع الحال.
ثم قال: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾.
أي: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.
قال وهب: " جمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة قال: ﴿ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾، أي: من علا على صاحبه بالغلبة ".
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾ إلى قوله: ﴿هَارُونَ وموسى﴾.
أي: قال السحرة: ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾.

وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجمعت السحرة كيدهم ثم أتوا صفاً، فقالوا: ﴿ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾. وكان السحرة يومئذ فيما ذكر ابن أبي بزة سبعين ألفاً، مع كل ساحر منهم حبل وعصاً. فألقوا سبعين ألف/ عصاً، وسبعين ألف حبل.
وقيل: كانت حبالهم وعصيهم حمل ثلاث مائة بعير، فصار جميع ذلك في بطن الحية، ثم رجعت عصاً كما كانت في يد موسى فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك سجداً، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
وقال السدي: " كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً، مع كل واحد حبل وعصاً ".
وقال وهب بن منبه: " كانوا خمسة عشراً ألفاً مع كل ساحر حباله وعصيه ".
وقال ابن جريج: كانوا تسعة مائة: ثلاث مائة من العريش، وثلاث مائة من الفيوم، وثلاث مائة من الاسكندرية.

ثم قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾. أي: قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولاً: ما معكم إن كنتم على حق.
وفي الكلام حذف. أي: فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
قيل: " إن السحرة سحروا أعين الناس، وعين موسى قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوها، فخيل إلى موسى ﷺ حينئذ أنها تسعى " قاله وهب بن منبه.
وقوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾.
أي: أحس ووجد موسى خوفاً في نفسه.
قيل: إنه خاف أن يفتن الناس بما صنعوا قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه.
وكان السحرة في ناحية بالبعد من الناس، وكان فرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم في ناحية.
وقيل: إنما خاف لما أبطأ عليه الوحي بالأمر بإلقاء العصا، فخاف أن ينصرف الناس قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه فيفتتنون، فأوحى الله تعالى إليه: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ أي: لا تخف على انصراف الناس وافتتانهم قبل أن تلقي عصاك فأنت الغالب.
ثم قال: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يعني العصا ﴿تَلْقَفْ مَا صنعوا﴾، فألقاها فتلقفت

حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مامئة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي، إلا الله. وهذه آية تشتمل على آيات، منها: انقلاب العصا ثعباناً، ومنها: ابتلاعها الحمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي.
وأعظمها: أنها عادت عصا يحملها موسى في يده كما كانت أولاً، وتلاشى وقر ثلاث مائة بعير بقدرة الله، فلا أثر لذلك، فسبحان من لا يقدر على هذه القدرة أحد سواه، لا إله غيره.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ ما " بمعنى الذي مع ﴿صَنَعُواْ﴾ " ها " محذوفة. و ﴿كَيْدُ﴾ خبر " إن " و " الذي " اسمها.
فإن جعلت " ما " كافة ل " إن " عن العمل، نصبت كيداً بـ ﴿صَنَعُواْ﴾ و " الكيد ": المكره أي: مكر الساحر وخدعه لا على حقيقة.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى﴾ أي: لا يظفر بسحره أين كان.
وقيل: المعنى: يقتل الساحر حيث وجد.
وفي حرف ابن مسعود: أين أتى.
ثم قال تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً﴾.