[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا قَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ عَظِيمَ الْغَلَبَةِ كَثِيرَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ/ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَمْ يَشْتَغِلْ مَعَهُ بِالْبَطْشِ وَالْإِيذَاءِ بَلْ خَرَجَ مَعَهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ أَوَّلًا فِي الْإِيذَاءِ لَنُسِبَ إِلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ فَاسْتَنْكَفَ مِنْ ذَلِكَ وَشَرَعَ أَوَّلًا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّفَاهَةَ مِنْ غَيْرِ الْحُجَّةِ شَيْءٌ مَا كَانَ يَرْتَضِيهِ فِرْعَوْنُ مَعَ كَمَالِ جَهْلِهِ وَكُفْرِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَالْعِلْمَ ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ قَبِلَ مُوسَى ذَلِكَ السُّؤَالَ وَاشْتَغَلَ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَرَفَ هاهنا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ وَتَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ اللَّه وَالدِّينِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي إِنْكَارِهِ الْإِلَهَ وَحَكَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَشُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْحَشْرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنَّكَ مَتَى أَوْرَدْتَ السُّؤَالَ فَاقْرِنْهُ بِالْجَوَابِ لِئَلَّا يَبْقَى الشَّكُّ كَمَا فَعَلَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ وَلَا إِيحَاشٍ كَمَا فَعَلَ مُوسَى عليه السلام بفرعون هاهنا وَكَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ فِي قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَقَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٦].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ كَانَ عَارِفًا باللَّه تَعَالَى فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِنْكَارَ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٢] فَمَتَى نُصِبَتِ التَّاءُ فِي عَلِمْتَ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلِ: ١٤]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ عَاقِلًا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا قَدْ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ وُجِدَ صفحة رقم 56
بَعْدَ الْعَدَمِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى مُدَبِّرٍ وَهَذَانَ الْعِلْمَانِ الضَّرُورِيَّانِ يَسْتَلْزِمَانِ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الْمُدَبِّرِ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَكَلِمَةُ الَّذِي تَقْتَضِي وَصْفَ الْمَعْرِفَةِ بِجُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْمَبْدَأِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُلْكَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقِبْطَ وَلَمْ يَبْلُغِ الشَّامَ وَلَمَّا هَرَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَدْيَنَ قَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْقَصَصِ: ٢٥] فَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ؟ وَسَادِسُهَا:
أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشُّعَرَاءِ: ٢٤] قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] يَعْنِي أَنَا أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَهُوَ يَشْرَحُ الْوَصْفَ/ فَهُوَ لَمْ يُنَازِعْ مُوسَى فِي الْوُجُودِ بَلْ طَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَصْلِ الْوُجُودِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خالق هذه السموات وَالْأَرَضِينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَنَّهُ خَالِقُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ عَجْزَهُ عَنْهَا وَيَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا لَهَا وَلَا خَالِقًا لَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ جَهْلِهِ باللَّه تَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان فلسفيا قائلا بالعلة لموجبه، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْحُلُولِيَّةِ الْمُجَسِّمَةِ. وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُ الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ فَبِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَعَدَمُ الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْهُ فِي هَذِهِ السورة أنه قال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فالسؤال هاهنا بِمَنْ وَهُوَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِمَا وَهُوَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَهُمَا سُؤَالَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْوَاقِعَةُ وَاحِدَةٌ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى سُؤَالِ مَا لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنِّي أَنَا اللَّه وَالرَّبُّ فَقَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا فَلَمَّا أَقَامَ مُوسَى الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُجُودِ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنَّ يُقَاوِمَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ عَدَلَ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا باللَّه لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِعِلْمِهِ بِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَشَرَعَ فِي الْمَقَامِ الصَّعْبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَاهِيَّةِ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ حَاصِلٍ لِلْبَشَرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما وَلَمْ يَقُلْ فَمَنْ إِلَهُكُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ نَفْسَهُ رَبًّا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٨] فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنَا رَبُّكَ فَلِمَ تَدَّعِي رَبًّا آخَرَ وَهَذَا الْكَلَامُ شَبِيهٌ بِكَلَامِ نَمْرُوذَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] قَالَ نَمْرُوذُ لَهُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] وَلَمْ يَكُنِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الَّتِي ذَكَرَهُمَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمَا الَّذِي عَارَضَهُ بِهِمَا نَمْرُوذُ إِلَّا في اللفظ فكذا هاهنا لَمَّا ادَّعَى مُوسَى رُبُوبِيَّةَ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْكَلَامَ وَمُرَادُهُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ لِأَنِّي رَبَّيْتُكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا موسى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ قوله:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى
[الْأَعْلَى: ١- ٣]. قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ يُعَوِّلُ عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِيبِ الْقَوَالِبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْهِدَايَةُ عبارة عن إبداع الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْخَلْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] فَالتَّسْوِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقَالَبِ وَنَفْخُ الروح إشارة/ إلى إبداع الْقُوَى وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] فَظَهَرَ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَالشُّرُوعُ فِي بَيَانِ عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ شُرُوعٌ فِي بَحْرٍ لَا سَاحِلَ لَهُ. وَلْنَذْكُرْ مِنْهُ أَمْثِلَةً قَرِيبَةً إِلَى الْأَفْهَامِ. أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّبِيعِيَّ يَقُولُ: الثَّقِيلُ هَابِطٌ وَالْخَفِيفُ صَاعِدٌ وَأَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ثِقَلًا الْأَرْضُ ثُمَّ الْمَاءُ وَأَشَدُّهَا خِفَّةً النَّارُ ثُمَّ الْهَوَاءُ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّارُ أَعْلَى الْعُنْصُرِيَّاتِ وَالْأَرْضُ أَسْفَلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَلَبَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَجَعَلَ أَعْلَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ الْعَظْمَ وَالشَّعْرَ وَهُمَا أَيْبَسُ مَا فِي الْبَدَنِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ جَعَلَ تَحْتَهُ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهَوَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّارِ فَجَعَلَ مَكَانَ الْأَرْضِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَعْلَى وَجَعَلَ مَكَانَ النَّارِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَسْفَلِ لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ بِتَدْبِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لَا بِاقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى عَجَائِبِ النَّحْلِ فِي تَرْكِيبِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ فِي اهْتِدَائِهَا إِلَى مَصَالِحِ أَنْفُسِهَا لَعَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِلْهَامِ مُدَبِّرٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى الْخَلَائِقِ بِمَا بِهِ قَوَامُهُمْ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَنْكُوحِ ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَيَسْتَخْرِجُونَ الْحَدِيدَ مِنَ الْجِبَالِ واللئالئ مِنَ الْبِحَارِ وَيُرَكِّبُونَ الْأَدْوِيَةَ وَالدِّرْيَاقَاتِ النَّافِعَةِ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَذَّاتِ الْأَطْعِمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا يَتَوَصَّلُونَ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ بَلْ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ إِنْسَانَةً وَالْحِمَارَ حِمَارَةً وَالْبَعِيرَ نَاقَةً ثُمَّ هَدَاهُ لَهَا لِيَدُومَ التَّنَاسُلُ وَهَدَى الْأَوْلَادَ لِثَدْيِ الْأُمَّهَاتِ، بَلْ هَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَيَوَانَاتِ بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي أَعْضَائِهَا فَإِنَّهُ خَلَقَ الْيَدَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْأَخْذِ وَخَلَقَ الرِّجْلَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْمَشْيِ وَكَذَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَجَمِيعُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ رَبَطَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ عَلَى وُجُوهٍ يَحْصُلُ مِنِ ارْتِبَاطِهَا مَجْمُوعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. وَإِنَّمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ اتِّصَافَ كُلِّ جِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّرْكِيبَ وَالْقُوَّةَ وَالْهِدَايَةَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُشَاهِدُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُنْفَكَّةً عَنْ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ وَالْقُوَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْجَائِزُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَبَوَاهُ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي قُدْرَةً عَلَيْهِ وَعِلْمًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْأَمْرَانِ نَائِيَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَمَالِ عَقْلِهِ يَعْجِزُ عَنْ تَغْيِيرِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ عَنْ كُتُبِ التَّشْرِيحِ لَا يُعْرَفُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَمَصَالِحِهَا إِلَّا الْقَدْرُ الْقَلِيلُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا وَتَرْتِيبِهَا مَوْجُودًا آخَرَ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجِسْمِ بِتِلْكَ الْمُؤَثِّرِيَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ فِي سِلْسِلَةِ الْحَاجَةِ/ إِلَى مَوْجُودٍ مُؤَثِّرٍ وَمُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ ثُمَّ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ بِالذَّاتِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يُمَيِّزُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلِمَ اخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالنَّبَاتِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ؟
فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ وَالْمُدَبِّرَ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذاته وفي صفاته وإلا لا فتقر إِلَى مُدَبِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي قَادِرِيَّتِهِ وَعَالِمِيَّتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَا يَتَخَصَّصُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَجَبَ [أَنْ] يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَبَّهَ عَلَى تَقْرِيرِهَا اسْتِنَادُ الْعَالَمِ إِلَى مُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ خَاطَبَ الِاثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ رَبُّكُما ثُمَّ وَجَّهَ النِّدَاءَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ وَزِيرُهُ وَتَابِعُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لِخُبْثِهِ يَعْلَمُ الرُّتَّةَ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرَادَ اسْتِنْطَاقَهُ دُونَ أَخِيهِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فَصَاحَتِهِ وَالرُّتَّةِ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: ٥٢].
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الشَّكْلَ وَالصُّورَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْمَنْفَعَةِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ الشَّكْلَ الَّذِي يُطَابِقُ مَنْفَعَتَهُ وَمَصْلَحَتَهُ، وَقُرِئَ خَلَقَهُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ إِعْطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ارْتِبَاطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ عَلَى فِرْعَوْنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كَانَ إِثْبَاتُ الْمَبْدَأِ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنَ الظُّهُورِ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى مَا أَثْبَتُوهُ وَتَرَكُوهُ؟ فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَدَحَ فِرْعَوْنُ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا فَعَارَضَ الْحُجَّةَ بِالتَّقْلِيدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا؟ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا ظَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ/ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فَخَافَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْحُجَّةِ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ صِدْقُهُ وَفَسَادُ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَأَنْ يَشْغَلَهُ بِالْحِكَايَاتِ فَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَلَمْ يَلْتَفِتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ بَلْ قَالَ:
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ هَذَا النظم، ثم هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الرَّبِّ كَيْفَ
يَكُونُ فِي الْكِتَابِ؟ وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّه تَعَالَى صِفَتُهُ وَصِفَةُ الشَّيْءِ قَائِمَةٌ بِهِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الشَّيْءِ حَاصِلَةً فِي كِتَابٍ فَذَاكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِكَوْنِ مَا كَتَبَهُ فِيهِ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً لَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ: فِي كِتابٍ يُوهِمُ احْتِيَاجَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ يُوهِمُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا سِيَّمَا لِلْكَافِرِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذِكْرُهُ مَعَ مُعَانِدٍ مِثْلِ فِرْعَوْنَ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَقَاءَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ كَبَقَاءِ الْمَكْتُوبِ فِي الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْكِيدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَسْرَارَهَا مَعْلُومَةٌ للَّه تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ عِلْمِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَكَّدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ أَيْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا:
وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ لَا يَضِلُّ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَمَعْرِفَتِهَا وَمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَاللَّفْظُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْسَى دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّغَيُّرِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُخْطِئُ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَبِّي وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ لَا يُخْطِئُ وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرٍو أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ وَالْمَعْنَى لَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ كَوْنَهُ صَوَابًا وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الإله وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالُ أَجَابَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ مَعْنًى، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ شَأْنِ الْقُرُونِ الْأُولَى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الْإِخْبَارُ وَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَكَلَهُ إِلَى عَالِمِ الْغُيُوبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَالَةَ الْأُولَى وَهِيَ دَلَالَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَائِلَ خَاصَّةً وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ مَهْداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا مِهَادًا فِيهِمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الَّذِي أَخْتَارُهُ مِهَادًا وَهُوَ اسْمٌ وَالْمَهْدُ اسْمُ الْفِعْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَهْدُ الِاسْمُ وَالْمِهَادُ الْجَمْعُ كَالْفَرْشِ وَالْفِرَاشِ أَجَابَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ وَالْفُرُشُ فِعْلٌ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ هُمَا مَصْدَرَانِ لِمَهَّدَ إِذَا وَطَّأَ لَهُ فِرَاشًا يُقَالُ مَهَّدَ مَهْدًا وَمِهَادًا وَفَرَشَ فَرْشًا وَفِرَاشًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِي جَعَلَ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لأنه صفة لربي أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ وَهَذَا مِنْ مَظَانِّهِ وَمَجَازِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَسَدَ النَّظْمُ بِسَبَبِ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ مَهْدًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ الْعِبَادُ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا بِالْقُعُودِ وَالْقِيَامِ وَالنَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ وَجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً
[الْبَقَرَةِ: ٢٢]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سَلَكَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشعراء: ٢٠٠] أَيْ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَوَسَّطَهَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبَرَارِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَأَخْرَجْنَا نَحْنُ مَعَاشِرَ عِبَادِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ بِالْحِرَاثَةِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَمَّ كَلَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» انْتَقَلَ فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُطَاعِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطَاعٌ تَنْقَادُ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَمْرِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ٩٩] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فَاطِرٍ: ٢٧] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْلِ: ٦٠] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَخْرَجْنا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي/ ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ لَا يَلِيقُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لَا يَلِيقُ بِمُوسَى لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي قُدْرَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرْفُ الْمِيَاهِ إِلَى سَقْيِ الْأَرَاضِي وَأَمَّا إِخْرَاجُ النَّبَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَبَائِعِهَا فَلَيْسَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّه ابْتِدَاؤُهُ مِنْ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لِأَنَّ الْفَاءَ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا كَلَامَ اللَّه تَعَالَى وَجَعْلُ مَا قَبْلَهُ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثُمَّ ابْتُدِئَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَيَكُونُ الَّذِي خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ الْتِفَاتًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُخْرِجُ النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فَيَكُونُ لِلْمَاءِ فِيهِ أَثَرٌ وَهَذَا بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِهِ الْخَوَاصَّ وَالطَّبَائِعَ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَزْواجاً أَيْ أَصْنَافًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُزْدَوَجَةٌ مَقْرُونَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ شَتَّى صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ جَمْعُ شَتِيتٍ كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ كَمَا يُسَمَّى بِالنَّبْتِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ يَعْنِي أَنَّهَا شَتَّى مُخْتَلِفَةُ النَّفْعِ وَالطَّعْمِ وَالطَّبْعِ بَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ وَبَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلْبَهَائِمِ أَمَّا قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَخْرَجْنَا وَالْمَعْنَى أَخْرَجْنَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ آذِنِينَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُبِيحِينَ أَنْ تَأْكُلُوا بَعْضَهَا وَتَعْلِفُوا بَعْضَهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ كُلُوا سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٨] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَوْلُهُ: كُلُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ هَذِهِ النعم لَآياتٍ