
سأل أن يصحب أخاه معه، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» «١» كان بمفرده، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة.
ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ففى ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه، ولمّا كان الذهاب إلى الميقات لم يكن للغير سبيل إلى صحبته، إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصا بحاله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)
بيّن أنّ طلبه مشاركة أخيه له بحقّ ربه لا بحظّ نفسه حيث قال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٣٦]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)
أعطيناك ما سألت، وتناسيت ابتداء حالك حين حفظناك فى اليمّ ونجّينا أمّك من ذلك الغمّ، وربّيناك فى حجر العدوّ.. فأين- حينذاك- كان سؤالك واختيارك ودعاؤك «٢» ؟
وأثبتنا فى قلب امرأة فرعون شفقتك، وألقينا عليك المحبة حتى أحبك عدوّك، وربّاك حتى قتل بسببك ما لا يحصى من الولدان، والذي بدأك بهذه المنن هو الذي آتاك سؤلك، وحقّق لك مأمولك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)
(٢) أي أن فضل الله دائم، وسابق للدعاء، وغير مرتبط بالاختيار الإنسانى ولا بالعمل الإنسانى، وهذه نظرة فى الشمول قلما يفطن إليها غير الصوفية. فأين منهم المعتزلة الذين يوجبون على الله؟! ذلك أحد المرامى البعيدة التي يقصد إليها القشيري.

كان ذلك وحي إلهام، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل، ففعلت، فألقاه النهر على الساحل، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون، ولكنها كانت أضعف قلبا، فسبقت بقولها «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ..» «١»، ولولا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ».
قوله: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» : ربّاه فى حجر العدو، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان.. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليه السلام فإنه تقدّم عليه بسنين ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده.. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار.
ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه- ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر «٢» موسى- ولم تكن فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة.. هكذا الحديث والقصة «٣».
ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال: إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل، فقالت امرأته: إنه صبيّ لا تمييز له، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليه السلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه- ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق- فعند ذلك قالت امرأة فرعون: ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له فقد أخذ الجمرة إلى فيه.
وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.
(٢) الظئر. المرضعة لغير ولدها.
(٣) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية.