آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ

لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}.
وأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن ابن عباس قال: راعنا بلسان - اليهود: السَّبُّ القبيح، فلمَّا سمعوا أصحابه يقولون، أعلنوا بها له، فكانوا يقولون ذلك، ويضحكون فيما بينهم، فنزلت هذه الآية، فسمعها منهم سعد بن معاذ، فقال لليهود: يا أعداء الله! لئن سمعتها من رجل منكم بعد هذا المجلس لأضربنَّ عنقه. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان الرجل يقول: أرعني سمعك، فنزلت الآية.
وأخرج عن عطية قال: كان أناسٌ من اليهود يقولون: أرعنا سمعك، حتى قالها أناسٌ من المسلمين، فكره الله لهم ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن قتادة قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك؛ فكان اليهود يأتون، فيقولون مثل ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن عطاء قال: كانت لغة الأنصار في الجاهليّة، فنزلت. وأخرج عن أبي العالية قال: إنّ العرب كانوا إذا حدَّث بعضهم يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك، فنهوا عن ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
٩٣ - ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾؛ أي: العهد منكم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصّة حين أخذنا العهد المؤكَّد باليمين منكم، على العمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا﴾ أي: قلعنا وحبسنا ﴿فَوْقَكُمُ﴾؛ أي: فوق رؤوسكم ﴿الطُّورَ﴾ أي: جبله ليسقط عليكم حين أبيتم، وامتنعتم من قبول التوراة قائلين لكم: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾؛ أي: اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب ﴿بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بجدٍّ واجتهادٍ ﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما أمرتم به في الكتاب سماع قبول وطاعةٍ ﴿قَالُوا﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك بآذاننا، ولكن لا سماع طاعةٍ وقبولٍ ﴿وَعَصَيْنَا﴾ وخالفنا أمرك بقلوبنا، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر، فإذا كان حال أسلافهم هكذا فكيف يتصوَّر من أخلافهم الإيمان؟ وقيل: إنّهم يقولون ذلك بألسنتهم، ولكن لَمَّا سمعوه وتلقَّوه، تلقوه بالعصيان، فنسب ذلك إليهم. وقيل كأنَّهم يقولون: لولا

صفحة رقم 116

الجبل لسمعنا ذلك، وعصينا أمرك، وجملة قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿قَالُوا﴾؛ أي: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ والحال أنَّهم أشربوا وسُقوا ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ بيانٌ لمكان الإشراب، كقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ ﴿الْعِجْلَ﴾ أي: حبَّ عبادة العجل، فهو على حذف مضافين، يقال: أشرب قلبه كذا؛ أي: حلَّ محلَّ الشراب، أو اختلط، كما خلط الصبغ بالثوب.
وحقيقة (١) أُشربَه كذا جعله شاربًا لذلك، فالمعنى: جُعلوا شاربين حبَّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يَتغَلْغَلُ فيه. قال الراغب: من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حبِّ، أو بغضٍ في القلب، أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ مساغًا في البدن، ولذلك قالت الأطباء: الماء مطيَّة الأغذية والأدوية ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بسبب كفرهم السابق لهم في مصر من الوثنية الموجب لذلك، والمعنى: حُبّب إليهم العجل، وخالط حبُّه قلوبهم، كما يخالط الشراب أجزاء البدن الباطنة. قيل: كانوا مُجسِّمةً، أو حُلُوليَّةً، ولم يروا جسمًا أعجب منه، فتمكَّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ، وجَعَل حلاوةَ عبادةِ العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. وفي القصص: أنَّ موسى عليه السلام، لمَّا خرج إلى قومه أمَرَ أَنْ يُبْرَدَ العجل بالمِبْرد ثم يُدرَّى في النهر، فلم يبق نهرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه منه شيءٌ، ثم قال لهم: اشربوا منه فمن بقي، في قلبه شيءٌ من حبّ العجل ظهَرَتْ سُحَالة الذَهب على شاربه؛ أي: خَرَجت بُرادَتهُ على شاربه، وهذا (٢) قولٌ يردُّهُ قولهُ: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ وروي أنَّ الذين تبيَّن لهم حُبُّ العجل أصابهم من ذلك الماء الجُبْنُ، وبناؤه للمفعول في قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ دليلٌ على أنَّ ذلك فُعِل بهم، ولا يفعلُه إلّا الله تعالى. وقال أبو حيان: ومعناه: أنَّه داخلهم حبُّ عبادته، كما داخل الصبغُ الثوبَ، وأنشدوا:

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.

صفحة رقم 117

إِذا مَا القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافا
وقال ابن عرفة: يقال: أُشرب قلْبُه حبَّ كذا؛ أي: حلَّ محلَّ الشراب، ومازَجَهُ. انتهى كلامه. وإنّما عبَّر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأنَّ شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولهذا قال بعضهم:
جَرَى حُبُّها مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي فَأصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بهَا شُغْلُ
وأمّا الطعام (١)، فقالُوا: هو مجاور لها غير متغلغلٍ فيها، ولا يصل إلى القلب منه إلّا يسيرٌ، وقال:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِيْ فَبَادِيْه مَعَ الخَافِي يَسِيرُ
والظاهر: أنَّ الباء في قوله: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ للسبب؛ أي: الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق لهم في مصر. وقيل ويجوز أن تكون الباء بمعنى مع متعلِّقة بمحذوف وقع حالًا؛ أي: وأشربوا في قلوبهم حبَّ العجل حال كونه مصحوبًا بكفرهم السابق من الوثنية ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد! توبيخًا (٢) لحاضري اليهود، إثر ما بُيِّنَ أحوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون في كُلِّ ما يأتون ويذرون ﴿بِئْسَمَا﴾ أي: بئس الشيء شيئًا ﴿يَأْمُرُكُمْ بِهِ﴾، أي: بذلك الشيء ﴿إِيمَانُكُمْ﴾ بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدَّعون، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: ما ذكر من قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وعبادتهم العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكّم بهم، وإضافة الإيمان إليهم؛ للإيذان بأنّه ليس بإيمانٍ حقيقةً، كما ينبيء عنه قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالتوراة، إذ لم يُسوِّغ الإيمان بها مثلَ تلك القبائح، فلستم بمؤمنين بها قطعًا، فقد علم أن من ادَّعى أنّه مؤمن ينبغي أن يكون فعله مصدِّقًا لقوله: وإلّا لم يكن مؤمنًا؛ أي: بئس الشيء شيئًا يأمركم به إيمانكم بما أنزل عليكم من التوراة، والمخصوص بالذمّ قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، وعبادتُهم العجل، والمعنى: بئس الإيمان إيمانٌ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.

صفحة رقم 118
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
الناشر
دار طوق النجاة، بيروت - لبنان
سنة النشر
1421
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية