
وقوله تعالى: ﴿إِن كنُتُم مُّؤمِنِينَ﴾ (إِنْ) بمعنى الشرط، وجوابها قبلها، يراد به: إن كنتم مؤمنين، فلم تقتلون أنبياء الله؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين أن تقتلوا الأنبياء، ولا أن يتولوا قاتليهم (١).
٩٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاَءَكُمْ﴾ اللام في (لقد) لام القسم (٢)، ولا يجوز أن تكون لام الابتداء، لأن لام الابتداء لا تلحق إلّا الاسم أو ما كان بمنزلة الاسم من المضارع.
والمراد بالبيّناتِ في هذه الآية ما ذكره في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: ١٠١]، وهي العصا، واليد، وفلق البحر، والجراد، والقُمَّل (٣)، والضَفَادع، والدم، ورفع الطور، وإحياء الميت ببعض البقرة (٤).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ المراد بـ (ثُم) هاهنا: الاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات التي أتى بها موسى عليه السلام.
٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاسْمَعُواْ﴾ أي:
(٢) ينظر: "تفسير "القرطبي" ٢/ ٢٧.
(٣) القمّل: قال ابن عباس: وهو السوس الذي يخرج من الحنطة، وعنه: أنه الدَّبى وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له - وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة، وقال الطبري في تفسيره ٩/ ٣٣: القمّل: جمع، واحدتها قُمَّلة، وهي دابة تشبه القمْل، تأكلها الإبل فيما بلغني. ينظر "تفسير ابن كثير" ص ٧٠٠.
(٤) ينظر: "تفسير الطبري" ١/ ٤٢١ "البحر المحيط" ١/ ٣٠٨ إلا أنه عد بدل الأخيرين: السنين، والطوفان.

ما فيه من حلاله وحرامه، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ ما فيه، ﴿وَعَصَيْنَا﴾ ما أمرنا به، هذا هو الظاهر.
وقال أهل المعاني: معنى (اسمعوا) هاهنا: استجيبوا وأطيعوا، عُبِّر بالسمع؛ لأنه سَبَب الإجابة والطاعة (١)، وقد يُعبّر عنهما بالسمع كقول الشاعر:
دعوتُ اللهَ حتى خِفتُ أن لا | يكونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أقولُ (٢) |
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ بعض المفسرين يقولون: إنهم تلفظوا بهذه اللفظة، فقالوا: ﴿سَمِعْنَا﴾ لما أطل الجبل فوقهم، فلما كشف عنهم قالوا: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ (٤).
وقال الحسن: قالوا: سمعنا بألسنتهم، وعصينا بقلوبهم (٥).
فقال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكنهم لما سمعوا
(٢) البيت، لشمير بن الحارث الضبي، في "تاج العروس" ١١/ ٢٢٧ (مادة: سمع)، و"نوادر أبي زيد" ص ١٢٤، وبلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ١/ ١٠٣٤ و"لسان العرب" ٤/ ٢٠٩٥.
(٣) "تفسيرالثعلبي" ١/ ١٠٣٥.
(٤) بنحوه عن ابن عباس كما في "البحر المحيط" ١/ ٣٠٨ واستحسنه أبو حيان قال: لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه اهـ. وحكى الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٦ أن المفسرين اتفقوا على أنهم قالوا (سمعنا) لما أطل الجبل فوقهم، فلمَّا كشف عنهم قالوا (عصينا).
(٥) ذكره في "الوسيط" ١/ ١٧٦، وذكره في "البحر المحيط" ١/ ٣٠٨ ولم ينسبه.

الأمر، وتلقَّوه بالعصيان نسب ذلك منهم إلى القول اتساعًا (١)، كقول الشاعر:
ومَنْهَلٍ ذِبَّانُه في غَيْطَلِ | يَقُلْنَ للرائدِ أعْشَبْتَ انْزِلِ (٢) |
نواعِمُ يُتْبعنَ الهوى سُبُلَ الردَى | يقلن لأهل الحِلم ضُلًّا بَتْضلال (٣) |
وقال أبو عبيدة (٧)، والزجاج (٨): معناه سُقُوا حُبَّ العِجل، وأصل
(٢) البيت لأبي النجم العِجْلي. ينظر: "الحيوان" ٣/ ٣١٤ و ٧/ ٢٥٩، وذكر الشطر الآخر منه "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٤٨، "اللسان" ٥/ ٢٩٥١، "التاج" ٢/ ٢٣٣، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٠٣٥ بلا نسبة. والغيطل: شجر ملتف أو عشب ملتف.
(٣) البيت لامرئ القيس في "ديوانه" ص ١٢٦.
(٤) ينظر "تاج العروس" ٢/ ١٠٣.
(٥) هو أبو عثمان بكر بن بقية، وقيل: بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني، تقدمت ترجمته.
(٦) ينظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٨، "اللسان" ٤/ ٢٢٢٤ (شرب).
(٧) في "مجاز القرآن" ١/ ٤٧.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ١٧٥، وينظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٨، "اللسان" ٤/ ٢٢٢٤.

الإشرابِ: السَّقْي، واستُعملَ في اللون المختلط بغيره تشبيهًا بالسّقي، لأنه لقال للمشرب حُمرةً: إنه لمسقيّ الدم. والمعنى هاهنا: أنهم خلطوا بحب العجل حتى اختلط بهم، ثم بيّن أنّ مَحَلّ ذلك الحُبّ قلوبهم، وأن الخلط حصل فيها، فأضاف أولًا إلى الجملة، ثم خصّ القلوب، كما تقول: ضُربوا على رؤوسهم، أضفت الضرب أولًا إليهم، ثم بيّنت مَحلّ الضَّرب، وإنما ذكره بلفظ الإشراب إخبارًا عن رسوخ ذلك الحُبّ في قلوبهم كإشراب اللَّوْن لِشِدّة الملازمة (١).
وقوله تعالى: ﴿الْعِجْلَ﴾ أراد: حُبّ العجل فحذف المضاف (٢) كقوله: ﴿وَسْئَلِ القَرْيَةَ﴾ (٣) [يوسف: ٨٢]، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧]، وكقول الشاعر:
وكيف تُوَاصل مَنْ أصبَحتْ | خِلاَلَتُه كأبي مَرْحَبِ (٤) |
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ١٧٥، ونقله في "اللسان" ٤/ ٢٢٢٤، وقال في "البحر المحيط" ١/ ٣٠٩: وأسند الإشراب إلى العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه.
(٣) ينظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٦١، الطبري في "تفسيره" ١/ ٤٢٣.
(٤) البيت للنابغة الجعدي، ينظر: "ديوانه" ص ٢٦، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٠٣٥، "الكتاب" لسيبويه ١/ ١١٠، "أمالي القالي" ١/ ١٩٢ "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٩٣، ١٧٥، "لسان العرب" ٤/ ٢٢٢٤ مادة (اشرب) و ١/ ٢٥٢ مادة (برد) قال ابن منظور: وأبو مرحب كنية الظِّل والظل منتقل، ويقال: هو كنية عرقوب، الذي قيل عنه: مواعيد عرقوب، والمراد على الأول: كيف تصاحب من لا يدوم على مودة، وإنما هو منتقل غير ثابت.

وأنشد الفراء:
حَسِبْتَ بُغَامَ راحلتي عَنَاقًا | وما هي وَيْبَ غيرِك بالعَنَاقِ (١) |
وقوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ معناه: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمانٌ يأمر بالكُفْر، وهذا تكذيب لهم؛ لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، وذلك أنهم قالوا: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، فكذّبهم الله عز وجل، وعيَّرهم بعبادة العجل، وذلك أنّ آباءهم ادعوا الإيمان ثم عبدوا العجل (٤).
وقوله تعالى: ﴿يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ من المجاز وسعة العربية؛ لأن الإيمان لا يأمُر، وهو كقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
ألم تعجب لذئب بات يسري | ليؤذن صاحبًا له باللحاق |
(٢) ينظر "البحر المحيط" ١/ ٣٠٨ - ٣٠٩.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ١٧٦.
(٤) "تفسير الثعلبي" ١/ ١٠٣٦، "الوسيط" ١/ ١٧٦.