
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي تَهْوى ضمير من صلة ما لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: «فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت»، واسْتَكْبَرْتُمْ من الكبر، وَفَرِيقاً مفعول مقدم.
وقرأ جمهور القراء «غلف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمر» و «صفر»، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوات فهي لا تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: «المعنى عليها طابع»، وقالت طائفة:
غلف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله تعالى عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، وبَلْ في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد، وقليلا نعت لمصدر محذوف تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في يُؤْمِنُونَ لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيمانا قليلا، وعلى الذي قبله فوقتا قليلا، وعلى الذي قبله فعددا من الرجال قليلا، وما في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ زائدة مؤكدة، و «قليلا» نصب ب يُؤْمِنُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
الكتاب القرآن، ومُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقا» بالنصب.

ويَسْتَفْتِحُونَ معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي ﷺ قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم:
لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به ويَسْتَفْتِحُونَ معناه يستنصرون، وفي الحديث: «كان رسول الله ﷺ يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، «ولعنة الله» : معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب لَمَّا ولَمَّا الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قوله: كَفَرُوا، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريرا للذنب، وتأكيدا له، وقال الزجاج:
لَمَّا الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأنه محذوف، وقال الفراء: جواب لَمَّا الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب لما الثانية كَفَرُوا.
«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في «بئس» «بيس» اتباعا للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح، واختلف النحويون في بِئْسَمَا في هذا الموضع، فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة ببئس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: بيس الذي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، كقولك:
بيس الرجل زيد، و «ما» في هذا القول موصولة، وقال الأخفش: «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلا زيد»، فالتقدير «بيس شيئا أن يكفروا»، واشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ في هذا القول صفة «ما»، وقال الفراء «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا»، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و «ما» إنما تكف أبدا حروفا، وقال الكسائي: «ما»، واشْتَرَوْا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير، وقال الكسائي أيضا: إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم، وأَنْ يَكْفُرُوا في هذا القول بدل من «ما» المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خفض بدلا من الضمير في بِهِ، وأما في القولين الأولين ف أَنْ يَكْفُرُوا ابتداء وخبره فيما قبله، واشْتَرَوْا بمعنى باعوا، يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، وبِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل، وبَغْياً مفعول من أجله، وقيل نصب على المصدر، وأَنْ يُنَزِّلَ نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل» بالتخفيف في النون والزاي، ومِنْ فَضْلِهِ يعني من النبوة والرسالة. ومَنْ يَشاءُ يعني به محمدا ﷺ لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب.
ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه، و «باؤوا» معناه: مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، وبِغَضَبٍ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد ﷺ على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
وقال قوم: المراد بقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، ومُهِينٌ مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: اليهود أنهم إذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد ﷺ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنون التوراة وما وراءه. قال قتادة: أي ما بعده، وقال الفراء: أي ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلا فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، ومُصَدِّقاً حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة. [البسيط] :
أنا ابن دارة معروفا بها حسبي | وهل لدارة يا للنّاس من عار |
وقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على فَلِمَ لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمدا ﷺ من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء تَقْتُلُونَ بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله مِنْ قَبْلُ وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ مضمر].
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه | أن الوليد أحق بالعذر |
وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد ﷺ لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وإِنْ كُنْتُمْ شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة: إِنْ نافية بمعنى ما. صفحة رقم 179