
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الرَّكيَّة، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: (١) "قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة". (٢) ولذلك قيل:"قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، (٣) " إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب:
من اللائي يظل الألف منه | منيخًا من مخافته جهارا |
(٢) قوله"وجهرة"، مصدر لم أجده في اللسان ولا في غيره.
(٣) في المطبوعة: "جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، وليس حسنا أن يقال كذلك. فإن"مجاهرة" لا تكون مصدر"جهر" ألبتة، وإن جاز أن يكون"جهار" مصدرا له كما في اللسان: "جهر بكلامه يجهر جهرا وجهارا". فمن أجل ذلك آثرت أن أضع مكان"جهر""جاهر"، حتى يستقيم على الجادة.

(١)
٩٤٧ - وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى نرى الله جهرة)، قال: علانية.
٩٤٨ - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: (حتى نرى الله جهرة) يقول: عيانا.
٩٤٩ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (حتى نرى الله جهرة)، حتى يطلع إلينا.
٩٥٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (حتى نرى الله جهرة)، أي عيانا.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، (٢) وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله لديهم، (٣) وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة. وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا
عوى، فأثار أغلب ضيغميا | فويل ابن المراغة! ما استثارا؟ |
من النفر اللائي الذين إذا همو | يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا |
هذا، ورواية النقائض والديوان:"نهارا" مكان"جهارا" جاء تفسيرها في النقائض:"قال: نهارا، ولم يقل: ليلا، لأن الأسد أكثر شجاعته وقوته بالليل.
فيقول: هذا الأسد يظل الألف منه منيخا بالنهار، فكيف بالليل! ". رواية الطبري:"جهارا" قريبة المعنى من رواية من روى"نهارا". وهم يقولون: لقيته جهارا نهارا. لأن النهار يكشف كل شيء ويعلنه ويجهره. أي أناخوا يرونه وهم يرونه رأى العين، وذلك في النهار.
(٢) ثلجت نفسه بالشيء (بكسر اللام) تثلج وتثلج (بفتح اللام وضمها) ثلوجا: اشتفت واطمأنت وسكنت إليه، ووثقت به.
(٣) مضى في ص: ٥٨ التعليق على مثل هذه الكلمة، وكانت في المخطوطة: "شيوع آلائه لديهم". وسبوغ النعمة: كمالها وتمامها واتساعها. ولا أزال أستحسن أن تكون هنا"شيوع"، لقوله"لديهم"، فأما إن قال"وسبوغ النعم عليهم"، كما سيأتي في آخر هذه الفقرة، فهي"سبوغ"ولا شك.

قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.
فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا -في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى، مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ﴾
اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما: -
٩٥١ - حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة)، قال: ماتوا.
٩٥٢ - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فأخذتكم الصاعقة) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا، يقول: فماتوا.
* * *
وقال آخرون بما: -
٩٥٣ - حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،

حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتكم الصاعقة)، والصاعقة: نار.
* * *
وقال آخرون بما: -
٩٥٤ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.
* * *
وأصل"الصاعقة" كل أمر هائل رآه [المرء] أو عاينه أو أصابه - (١) حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، (٢) أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا، أو زلزلة، أو رجفا. ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قول الله عز وجل: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: ١٤٣]، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:
وهل كان الفرزدق غير قرد | أصابته الصواعق فاستدارا (٣) |
(٢) قوله"غمور فهم" لم أجد هذا المصدر في كتب اللغة. وكأنه مصدر غمر عليه (بالبناء للمجهول) : أغمى عليه. وفي الحديث أنه أول ما اشتكي بأبي وأمي ﷺ - في بيت ميمونة، اشتد مرضه حتى غمر عليه - أي: أغمى عليه، حتى كأنه غطى على عقله وستر، من قولهم: غمرت الشيء: إذا سترته، وغشي عليه وأغمي عليه من معنى الستر أيضًا (اللسان، الفائق).
(٣) ديوانه: ٢٨١، والنقائض: ٢٥١ وبعده في هجاء الفرزدق، وهو من أشده:
وكنت إذا حللت بدار قوم | رحلت بِخَزْيَةٍ وتركت عارا |