
يقول الحق جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين واعَدْنا مُوسى أن يصوم أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بأيامها متواصلة، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عليه الكتاب فيه بيان الأحكام، ثم لما صامها، وهي: ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وأتى إلى المناجاة، كفرتم، واتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال، فقال لهم هارون عليه السلام: لا يحل لكم، فطرحوه في حفرة، فصاغ منه السامري صورة العجل، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر، فجعل يخور، فقال السامري: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ في عبادته، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، فلا تعصون بنعمة، وَاذكروا أيضاً إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ الذي طلبتم، وهو التوراة، وهو الْفُرْقانَ الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب.
الإشارة: ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضى الله عنه:
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني | مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي |
صارتْ جِبالِيَ دكًا | مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي |
ثم ذكر الحق تعالى كيفية توبة من عبد العجل منهم، فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
قلت: البارئ هو: المقدر للأشياء والمظهر لها. صفحة رقم 106

يقول الحق جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين قالَ موسى لِقَوْمِهِ لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وبخستموها بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلاهكم، فَتُوبُوا إِلى خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون- عليهما السلام- بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمن مات إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي: كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين.
الإشارة: ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه، وعكف على متابعة دنياه: يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ... لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ «١»
وقال الحلاجُ في هذا المعنى:
لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها... إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا
وقال أيضاً:
أُقتُلوني يا ثقاتي... إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي
وحَيَاتي في مَماتِي... وممَاتي في حَياتي
أنا عندي: مَحْوُ ذَاتي... من أجَلِّ المكْرُمَاتِ
وبَقَائِي في صِفاتي... مِنْ قبيح السيّئات