اللذة المحرمة، وتصوّر ما لها من تأثير في نفسه، أو في الأمة، فرّ منها فرار السليم من الأجرب، إلا أن المؤمن بالله واليوم الآخر يرى في انتهاك حرمات الدين، ما يدنس النفس ويبعدها عن الكرامة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
والخلاصة: أن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة، وبعد عنه الحزن، والخوف يوم الحساب، والجزاء والعرض على الملك الديان يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قرأ الأعرج (١): هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين الساكنين كقراءة من قرأ (محياي)، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن أبي عمر ﴿هدي﴾ بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء؛ لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل يقلبون ألف المقصور ياء، ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم | فتخرّموا ولكل قوم مصرع |
أحدهما: أنّ إعمال (لا) عمل ليس قليل جدا.
٣٩ - والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ، ولم تعمل فيهما. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا برسلنا المرسلة
(٢) البحر المحيط.
إليهم، معطوف (١) على من تبع. إلخ قسيم له، كأنه قيل: ومن لم يتبعه. الخ، وإنما أوثر عليه ما ذكر؛ تفظيعا لحال الضلالة؛ وإظهارا لكمال قبحها، وإيراد الموصول بصيغة الجمع؛ للإشعار بكثرة الكفرة.
﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة عليهم، أو كفروا بالآيات جنانا، وكذبوا بها لسانا ﴿أُولئِكَ﴾ إشارة إلى الموصول، باعتبار إتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها، وفي الصحبة معنى الوصلة، فسموا أصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها، فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها ﴿هُمْ فِيها﴾؛ أي: في النار ﴿خالِدُونَ﴾؛ أي: دائمون، والجملة في حيز النصب على الحالية.
وعبارة أبي حيان هنا قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (٢) قسيم لقوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ﴾؛ أي: وهو أبلغ من قوله: (ومن لم يتبع هداي) وإن كان التقسيم يقتضيه؛ لأنّ نفي الشيء يكون بوجوه: منها: عدم القابليّة بخلقة، أو غفلة. ومنها: تعمد ترك الشيء فأبرز القسيم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في صورة ثبوتية، ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني به كفر النعمة، وكفر المعصية، بين أن المراد هنا الشرك بقوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ وبآياتنا متعلق بقوله:
﴿وَكَذَّبُوا﴾ وهو من إعمال الثاني، إن قلنا إن كَفَرُوا يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال.
والآيات هنا الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليه السلام، أو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته أقوال، وفي قوله: ﴿أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ﴾ (٣) دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة، وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
النار، فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قول الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك هزّة | كما انتفض العصفور بلّله القطر |
وفي هاتين الآيتين (١)، دلالة على أن الجنة في جهة عالية، دل عليه قوله: ﴿اهْبِطُوا مِنْها﴾ وأن متّبع الهدى مأمون العاقبة، لقوله تعالى فلا خوف. إلخ. وأن عذاب النار دائم، والكافر مخلد فيه، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: ﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ فإنه يفيد الحصر. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي: أن رجلا قال: يا رسول الله! أنبيّ كان آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح. قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وبين إبراهيم. قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال: يا رسول الله! كم كانت الرسل في ذلك؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا.
الإعراب
﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، والظرف متعلق بمحذوف جوازا، تقديره: واذكر يا محمد لأمتك قصة إذ قال ربك.. إلخ.
والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بقال ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، إن حرف نصب وتوكيد مبني بفتحة مقدرة على الأخير منع
من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن ما قبل الياء لا يكون إلا مكسورا، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها ﴿جاعِلٌ﴾ خبرها، وجملة إن في محل النصب مقول قال: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بجاعل إن كان بمعنى خالق، أو في محل المفعول الثاني إن كان من الجعل بمعنى التصيير ﴿خَلِيفَةً﴾ مفعول به لجاعل؛ لأنه اسم فاعل ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أَتَجْعَلُ﴾ الهمزة للاستفهام التعجبيّ المجرد، كأنهم يطلبون استكناه ما خفي عليهم من الحكمة الباهرة ﴿تجعل﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: أنت، والجملة في محل النصب مقول قالوا ﴿فِيها﴾ جار ومجرور متعلق بتجعل إن كان بمعنى تخلق، أو في موضع المفعول الثاني المقدم على الأول، إن كان بمعنى تصيّر ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به أول لتجعل ﴿يُفْسِدُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على من الموصولة، والجملة الفعلية صلة الموصول؛ والتقدير: أتجعل من يفسد خليفة فيها، كمن كان فيها من قبل، كما ذكره العكبري ﴿وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على من الموصولة، والجملة معطوفة على جملة يفسد على كونها صلة لمن.
﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَنَحْنُ﴾ الواو حالية نَحْنُ ضمير منفصل لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ ﴿نُسَبِّحُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر وجوبا، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ ﴿بِحَمْدِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل نسبح، والتقدير: ونحن مسبحون إياك ملتبسين بحمدك، والجملة الإسمية حال من مفعول فعل محذوف، تقديره: وتركتنا عن الخلافة حالة كوننا مسبحين إياك بحمدك ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على نسبح ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بنقدس، ويجوز أن تكون زائدة زيدت؛ لبيان المفعول به؛ أي: ونقدسك كاللام في سقيا لك. قال العكبري: ويجوز أن تكون اللام زائدة؛ لتأكيد التخصيص؛ أي: نقدسك. وقال الصاوي: ويحتمل أنها للتعدية والتعليل؛ أي: ننزهك لا طمعا في عاجل ولا آجل، فتنزيهنا لذاتك فقط. اه.
﴿قالَ﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، إن حرف نصب وتوكيد، والياء في محل النصب اسمها. قال العكبري: والأصل: إنني بثلاث نونات فحذفت النون الوسطى لا نون الوقاية على الصحيح. اه. ﴿أَعْلَمُ﴾ فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنا ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به لأعلم، لأن علم هنا بمعنى عرف يتعدى إلى مفعول واحد ﴿لا﴾ نافية ﴿تَعْلَمُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة أعلم في محل الرفع خبر إن، تقديره: إني عالم ما لا تعلمونه، وجملة إن في محل النصب مقول قال.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)﴾.
﴿وَعَلَّمَ﴾ الواو استئنافية ﴿عَلَّمَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ﴿آدَمَ﴾ مفعول أول لعلم ﴿الْأَسْماءَ﴾ مفعول ثان له كُلَّها تأكيد للأسماء، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿عَرَضَهُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قال ﴿عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بعرض ﴿فَقالَ﴾ الفاء عاطفة (قال) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة عرض ﴿أَنْبِئُونِي﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو ضمير المخاطبين يعود على الملائكة في محل الرفع فاعل، والنون نون الوقاية، والياء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول ﴿بِأَسْماءِ﴾ جار ومجرور متعلق بأنبئوني على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال: ﴿أسماء﴾ مضاف ﴿هؤُلاءِ﴾ ﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿أولاء﴾ اسم إشارة للجمع المطلق في محل الجر مضاف إليه مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿صادِقِينَ﴾ خبر كان منصوب بالياء، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، وجملة إن الشرطيّة في محل النصب مقول قال ﴿قالُوا﴾ فعل
وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿سُبْحانَكَ﴾ سبحان منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبا، تقديره: نسبحك سبحانا وهو مضاف، والكاف ضمير متصل في محل الجر مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا ﴿لا﴾ نافية للجنس تعمل عمل إن ﴿عِلْمَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿لَنا﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، تقديره: لا علم موجود لنا، وجملة لا في محل النصب مقول قالوا ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الرفع بدل من محل لا واسمها؛ لأن محلهما رفع بالابتداء، أو من الضمير المستتر في خبر لا نظير قولك لا إله إلا الله، أو في محل النصب على الاستثناء ﴿عَلَّمْتَنا﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إلا ما علمتناه، وهو العائد على ما الموصولة، والجملة صلة لما الموصولة وما واقعة على معلوم، وعلم بمعنى معلوم، والمعنى: لا معلوم لنا إلا معلوما، أو معلوم علمتنا إياه، ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: لا تعليم لنا إلا تعليمك إيانا ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿أَنْتَ﴾ أن ضمير فصل حرف لا محل له، أو حرف عماد، والتاء حرف دال على الخطاب ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر أول، لأنّ ﴿الْحَكِيمُ﴾ خبر ثان له، وجملة إن في محل النصب مقول قالوا مسوقة لتعليل ما قبلها، ويحتمل كون ﴿أَنْتَ﴾ مبتدأ و ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبره، والجملة الإسمية خبر إن، ويجوز كونه تأكيدا لاسم إن مستعارا عن إياك.
﴿قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿يا آدَمُ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء للمتوسط ﴿آدَمُ﴾ منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم، وجملة النداء في محل النصب مقول قال ﴿أَنْبِئْهُمْ﴾ فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على الله، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول ﴿بِأَسْمائِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بأنبئهم على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال. ﴿فَلَمَّا﴾ الفاء فاء الفصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال الرب جل جلاله لآدم، وأردت بيان ما قال للملائكة بعد ذلك فأقول لك لما أنبأهم.
﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم ﴿أَنْبَأَهُمْ﴾ أنبأ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على آدم، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول ﴿بِأَسْمائِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأنبأهم على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية فعل شرط للمّا لا محل لها من الإعراب ﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية جواب شرط للمّا لا محل لها من الإعراب، وجملة لما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري ﴿لَمْ﴾ حرف جزم ﴿أَقُلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بلم، وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بأقل، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول قال ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَعْلَمُ﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول لأقل ﴿غَيْبَ السَّماواتِ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات ﴿وَأَعْلَمُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على أعلم الأول ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿تُبْدُونَ﴾ صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره ما تبدونه ﴿وَما﴾ اسم موصول في محل النصب معطوف على ما الأولى ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكْتُمُونَ﴾ في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لما الموصولة لا محل لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: وما كنتم تكتمونه، وإن شئت قلت إن قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لأقل؛ لأن مرادنا لفظه لا معناه، والمقول منصوب بالقول وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية.
﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة أو استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ قلنا، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة سابقا، أو مستأنفة. ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ متعلق بقلنا.
﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾.
﴿اسْجُدُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل ﴿لِآدَمَ﴾ اللام حرف جر ﴿آدم﴾ مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة، والجار والمجرور متعلق باسجدوا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا ﴿فَسَجَدُوا﴾ الفاء حرف عطف وتفريع (سجد) فعل ماض والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة قلنا ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿إِبْلِيسَ﴾ مستثنى بإلا متصل إن كان إبليس في الأصل من الملائكة، وقيل: منقطع؛ لأنه ليس من الملائكة، وهو منصوب بالفتحة الظاهرة ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة ﴿أَبى﴾ فعل ماض معتل بالألف مبني بفتحة مقدرة، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة الفعلية في محل النصب حال من إبليس؛ أي: حالة كونه آبيا وممتنعا من السجود ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ فعل وفاعل مستتر معطوف على أبى؛ أي: ومستكبرا ﴿وَكانَ﴾ الواو عاطفة، أو حالية، أو استئنافية ﴿كانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على إبليس ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة أبى، أو حالية، أو مستأنفة.
﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَقُلْنا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على قلنا الأول، واختلاف الزمانين ليس علة مانعة من عطف الفعل على الفعل ﴿يا آدَمُ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: ﴿يا آدَمُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول قلنا ﴿اسْكُنْ﴾ فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره ﴿أنت﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا أَنْتَ أن ضمير رفع منفصل في محل الرفع مؤكد للضمير المستتر في اسكن، ليصح العطف عليه ﴿وَزَوْجُكَ﴾ معطوف على الضمير المستتر في اسكن، كما قال ابن مالك:
وإن على ضمير رفع متصل | عطفت فافصل بالضمير المنفصل |
وإن لحرفين ذا الإعلال استحقّ | صحّح أوّل وعكس قد يحق |
ومذهب الكسائي: أن آية أصله آيية بوزن فاعلة، حذفت الياء الأولى؛ لئلا تدغم صفحة رقم 344
في الثانية، كما فعلوا في دابّة، وكافّة. ومذهب سيبويه: أن أصلها أوية، حكاه عن الجوهري، وقيل في أصلها غير ذلك، ومذهب الخليل أصوب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعريض بعنوان الربوبية في قوله: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ﴾ مع الإضافة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتشريف والتكريم لمقامه العظيم.
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ على المقول؛ للاهتمام بما قدم؛ وللتشويق إلى ما أخر.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ﴾.
ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾؛ لأن المراد بهم هنا، سكان الأرض من الملائكة بعد الجان على ما قيل.
ومنها: عطف الخاص في قوله: ﴿وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ على العام في قوله:
﴿مَنْ يُفْسِدُ﴾؛ اهتماما بشأن الدماء.
ومنها: العطف للتأكيد في قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾؛ لأنه كالتوكيد للتسبيح؛ لأن التقديس هو التطهير، والتسبيح هو التنزيه والتبرئة من السوء، فهما متقاربان في المعنى ذكره في «البحر».
ومنها: الأمر الذي أريد به التعجيز في قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ مبالغة في التبكيت.
ومنها: إطلاق الأسماء مرادا بها المسميات في قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ﴾؛ أي: مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ﴾؛ لأن قبله محذوف، تقديره: فأنبأهم بها، فلما أنبأهم بأسمائهم.
ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾؛
لأن الميم في هم علامة لجمع الذكور العقلاء، ولو لم يغلب لقال: ثمّ عرضها، أو عرضهن.
ومنها: الحذف في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾؛ لأن جوابه محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، يدل عليه أنبئوني السابق.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا﴾.
ومنها: إبراز الفعل في قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ﴾ ثمّ قال: ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ للاهتمام بالخبر، والتنبيه على إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإطناب.
ومنها: الطباق بين السموات وبين الأرض في قوله: ﴿غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبين ﴿ما تُبْدُونَ﴾ وبين ﴿ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هذا وإنّ الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها، ولذلك سماه بعضهم بالتضادّ والتكافؤ، وهو الجمع بين معنيين متضادين، ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، وبين معناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة يقال: طابقت بين الشيئين، إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وابن الأثير يعجب من هذه التسمية؛ لأنه لا يعرف من أين اشتقت هذه التسمية، إذ لا مناسبة بين الاسم ومسماه، وابن قدامة يسميه التكافؤ، ولا فرق بين أن يكون التقابل حقيقيا، أو اعتباريا، أو تقابل السلب والإيجاب، ومن طباق السلب، قول السموءل اليهوديّ:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم | ولا ينكرون القول حين نقول |
فإذا حاربوا أذلّوا عزيزا | وإذا سالموا أعزّوا ذليلا |
ومنها: إفادة الفاء في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ التعقيب؛ لأنها دلت على أنهم سارعوا في الامتثال، ولم يثبّطوا فيه، وفيه أيضا: الإيجاز بالحذف؛ لأن التقدير فسجدوا له، وكذلك قوله: ﴿أَبى﴾ مفعوله محذوف تقديره؛ أي: أبى السجود.
ومنها: التعبير في النهي عن الأكل بالنهي عن القربان في قوله: ﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ، كقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى﴾ فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿مِمَّا كانا فِيهِ﴾ فإنه أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات، مما لو قيل من النعيم أو الجنة؛ لأنّ من أعظم أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء وفخامته، أن يعبّر عنه بلفظ مبهم، كما هنا، لتذهب نفس السامع في تصوّر عظمته إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه.
ومنها: التعبير بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾؛ أي: كثير التوبة واسع الرحمة؛ لأن فعالا وفعيلا من صيغ المبالغة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا﴾ تأكيدا لما قبله، وتوطئة لما بعده.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فائدة: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحطّ عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة، لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية، فقال: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ﴾.
وقال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد | جاءت محاسنه بألف شفيع |
* * * صفحة رقم 347
قال الله سبحانه جل وعلا:
﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) خطاب المكلفين عموما في أول السورة، ثم ثنّى بمبدأ خلق آدم عليه السلام، وقصته مع إبليس اللعين، ثلّث هنا بذكر بني إسرائيل، سواء كانوا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أو قبله، وما يتعلق بهم من هنا إلى قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ فعدّد عليهم نعما عشرا، وقبائح عشرا، وانتقامات عشرا.
والحكمة في ذكر بني إسرائيل (٢)، الذين تقدموا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنهم لم يخاطبوا بالإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ من كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم يدّعي أنه على قدمهم، وأنه متبع لهم، وأن أصولهم كانوا على شيء، فلذلك تبعوهم. فبين
(٢) الصاوي.
سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على أصولهم، وبين لهم أنهم قابلوا تلك النعم بالقبائح، وبين أنه أنزل عليهم العقاب؛ ليعتبر من يأتي بعدهم.
وحكمة تخصيصهم بالخطاب: أن السورة أول ما نزل بالمدينة، وأهل المدينة كان غالبهم يهودا، وهم أصحاب كتاب وشوكة، فإذا أسلموا، أو انقادوا، انقاد جميع أتباعهم، لذلك توجّه الخطاب لهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى أولا نعمه على بني إسرائيل إجمالا، ذكر هنا أنواع تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في ذكرها وأدعى لشكرها، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم، واذكروا إذ فرقنا بكم البحر، واذكروا إذ واعدنا موسى، وإذ آتينا موسى الكتاب، إلى آخر ما عدده من النعم عليهم، وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا، لا كفرانه وعصيانه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الواحدي، والثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: (نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذوي قرابته، ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين، أثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل، فإنّ أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه).
وعبارة أبي حيان هنا قوله تعالى: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ...﴾ الآيات، هذا (٢) افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن إلى غير ذلك مما ذكره،
(٢) البحر المحيط.