آيات من القرآن الكريم

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْخِبْرَةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ، يُقَالُ خَبِرْتُهُ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَجَدْتُ النَّاسَ أَخْبِرْ تَقْلَهُ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ خَبِرَةٌ. أَيْ غَزِيرَةُ اللَّبَنِ، فَكَانَ الْخَبَرُ هُوَ غَزَارَةَ الْمَعْرِفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ نَاقَةٌ خَبِرَةٌ: هِيَ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِغَزَارَتِهَا. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّأْيُ، وَهُوَ إِحَاطَةُ الْخَاطِرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا إِنْتَاجُ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَضِيَّةِ الْمُسْتَنْتَجَةِ مِنَ الرَّأْيِ رَأْيٌ، وَالرَّأْيُ لِلْفِكْرِ كَالْآلَةِ لِلصَّانِعِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِيَّاكَ وَالرَّأْيَ الْفَطِيرَ، وَقِيلَ: دَعِ الرَّأْيَ تُصِبْ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْفِرَاسَةُ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَقِّ الظَّاهِرِ عَلَى الْخُلُقِ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ هَذَا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحِجْرِ: ٧٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّدٍ: ٣٠] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسَ السَّبُعُ الشَّاةَ، فَكَأَنَّ الْفِرَاسَةَ اخْتِلَاسُ الْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عَنْ خَاطِرِهِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْهَامِ بَلْ ضَرْبٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِيَّاهُ عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ»
وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَيْضًا النَّفْثَ فِي الرَّوْعِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْفِرَاسَةِ مَا يَكُونُ بِصِنَاعَةٍ مُتَعَلَّمَةٍ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ وَقَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هُودٍ: ١٧] إِنَّ الْبَيِّنَةَ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَاءِ جَوْهَرِ الرُّوحِ وَالشَّاهِدُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ عَلَى الْأَحْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وَقَوْلُهُ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وقوله:
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُعَلِّمٌ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعَارُفٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ يَحْتَرِفُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلْمُدَرِّسِ مُعَلِّمٌ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْمُتَعَلِّمِينَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُدَرِّسُ فَكَذَا لَا يُقَالُ لِلَّهِ إِنَّهُ مُعَلِّمٌ إِلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ وَلَوْلَا هَذَا التَّعَارُفُ لَحَسُنَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِيهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي غَيْرِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا اللَّهَ تعالى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَتَوْا بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قَالُوا: إِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا خَطَأَهُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ رَجَعُوا وَتَابُوا وَاعْتَذَرُوا عَنْ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا مَعْصِيَتَهُمْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا سُئِلُوا عَنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فَإِذَا لَمْ تُعَلِّمْنَا ذَلِكَ فَكَيْفَ نَعْلَمُهُ، الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّكَ أَعْلَمْتَنَا أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَقُلْنَا لَكَ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها. وهاهنا مسائل:

صفحة رقم 424

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ إِمَّا بِالتَّعْلِيمِ وَإِمَّا بِنَصْبِ الدَّلَالَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعْلِيمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ كَالتَّسْوِيدِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ السَّوَادِ فِي الْغَيْرِ لَا يُقَالُ التَّعْلِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَادَةِ عَلَيْهِ الْعِلْمُ هُوَ وَضْعُ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ ذَاتَ الدَّلِيلِ بَلِ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ وَذَلِكَ النَّظَرُ فِعْلُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ حُصُولُ ذَلِكَ الْعِلْمِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تعالى وأنه يناقص قَوْلَهُ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِعِلْمِ النُّجُومِ وَالْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنِّ: ٢٦، ٢٧] وَلِلْمُنَجِّمِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْتَزِلِيِّ إِذَا فَسَّرْتَ التَّعْلِيمَ بِوَضْعِ الدَّلَائِلِ فَعِنْدِي حَرَكَاتُ النُّجُومِ دَلَائِلُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِذَا اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى هَذِهِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ فَلَأَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ أَحَدُنَا كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَلِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُبَالَغَةُ التَّامَّةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَيْسَ الْعَلِيمُ الْمُطْلَقُ إِلَّا هُوَ، فَلِذَلِكَ قَالَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَكِيمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْعَلِيمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي الْأَزَلِ. الْآخَرُ: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ فَاعِلًا لِمَا لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَلَا نَقُولُ إِنَّهُ حَكِيمٌ في الأزل والأقرب هاهنا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَكَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: أَنْتَ الْعَالِمُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَأَمْكَنَكَ تَعْلِيمُ آدَمَ، وَأَنْتَ الْحَكِيمُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمُصِيبُ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُرَادَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْحَكِيمِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِهَا فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَإِنْ قِيلَ الْإِيمَانُ هُوَ العلم، فقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَيْفَ قال هاهنا: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا لِي وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَايَ فَهُمْ خَالُونَ عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَقَوْلَهُ: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَرَادَ بِهِ مَا أسر

صفحة رقم 425

إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ لَا يَسْجُدَ: وَثَانِيهَا: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُظَنُّ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا وَلَكِنِّي لِعِلْمِي بِالْأَسْرَارِ الْمُغَيَّبَةِ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ خَلْقًا عَجِيبًا فَقَالُوا لِيَكُنْ مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَهَذَا الَّذِي كَتَمُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ سِرًّا أَسَرُّوهُ بَيْنَهُمْ فَأَبْدَاهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَأَسَرُّوهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْوَاحِدِ إِبْدَاءٌ وَكِتْمَانٌ. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْأَقْسَامَ خَمْسَةٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أَوْ شَرًّا مَحْضًا أَوْ مُمْتَزِجًا وَعَلَى تَقْدِيرِ الِامْتِزَاجِ فإما أن يعتدل الأمران أَوْ يَكُونَ الْخَيْرُ غَالِبًا أَوْ يَكُونَ الشَّرُّ غَالِبًا أَمَّا الْخَيْرُ الْمَحْضُ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ غَالِبًا فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا الْفَسَادَ وَالْقَتْلَ وَهُوَ شَرٌّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَأَعْرِفُ أَنَّ خَيْرَهُمْ غَالِبٌ عَلَى هَذِهِ الشُّرُورِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُمْ وَتَكْوِينَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفًا عَظِيمًا وَفَرَحًا عَظِيمًا أَمَّا الْخَوْفُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الضَّمَائِرِ فَيَجِبُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي تَصْفِيَةِ بَاطِنِهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ/ بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ لِاطِّلَاعِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا عِنْدَ اطِّلَاعِ الْخَالِقِ عَلَيْهَا وَالْأَخْبَارُ مُؤَكِّدَةٌ لِذَلِكَ. أَحَدُهَا:
رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يُؤْتَى بِنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا فَيَرْجِعُونَ عَنْهَا بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِهَا وَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا: فَنُودُوا ذَاكَ أَرَدْتُ لَكُمْ كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ مُخْبِتِينَ تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا تُضْمِرُونَ عَلَيْهِ فِي قُلُوبِكُمْ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي تَرَكْتُمُ الْمَعَاصِيَ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوهَا لِأَجْلِي كُنْتُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ عَلَيْكُمْ فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ النَّعِيمِ
وَثَانِيهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ لِحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: عِظْنِي فَقَالَ إِنْ كُنْتَ إِذَا عَصَيْتَ اللَّهَ خَالِيًا ظَنَنْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ فَلَقَدْ كَفَرْتَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: طَهِّرْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِذَا كُنْتَ عَامِلًا بِالْجَوَارِحِ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَإِذَا كُنْتَ قَائِلًا فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا كُنْتَ سَاكِتًا عَامِلًا بِالضَّمِيرِ فاذكر على اللَّهِ بِكَ إِذْ هُوَ يَقُولُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦]. وَرَابِعُهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى أَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَلَائِكَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ فَاسْتَحْقَرُوا الْبَشَرَ. وَوَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى طَاعَةِ إِبْلِيسَ فَاسْتَعْظَمُوهُ، أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنه وَإِنْ أَتَوْا بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ لَكِنَّهُمْ سَيَأْتُونَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَإِنْ أَتَى بِالطَّاعَاتِ لَكِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَقْلِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَأَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ معناه أن الَّذِي أَعْرِفُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْوَاقِعَ وَالْمُتَوَقَّعَ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا تَرَوْنَهُ عَابِدًا مُطِيعًا سَيَكْفُرُ وَيَبْعُدُ عَنْ حَضْرَتِي، وَمَنْ تَرَوْنَهُ فَاسِقًا بَعِيدًا سَيَقْرُبُ مِنْ خِدْمَتِي، فَالْخَلْقُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ حِجَابِ الْجَهْلِ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَخْرِقُوا أَسْتَارَ الْعَجْزِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّقَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَعَجْزِ الْمَلَائِكَةِ أَنْ أَظْهَرَ مِنَ البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة

صفحة رقم 426
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية