آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ

فاعله، وأصل يُضَارَّ على القول الثاني «يضارر» بفتح الراء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارر» بالفك وفتح الراء الأولى، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضار» بجزم الراء، قال أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى «كاتبا ولا شهيدا» بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه المضارة لا تنحصر، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضار» بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ ابن محيصن «ولا يضار» برفع الراء مشددة، قال ابن مجاهد: ولا أدري ما هذه القراءة؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف، وذلك على أن تجعل لا نفيا أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر: [الطويل]

على الحكم المأتيّ يوما إذا انقضى قضيّته أن لا يجوز ويقصد
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارّ» على معنى وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من النظر الأول.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه إبطال الحق، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع، وقوله بِكُمْ تقديره فسوق حال بكم، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال

صفحة رقم 385

الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.
وقد رهن النبي ﷺ درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي ﷺ «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي».
وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام.
قال القاضي أبو محمد: ومثله صاحب وصحاب، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا».
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر: [السريع]
اللحم والخبز لهم راهن... وقهوة راووقها ساكب
أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة: [البسيط]

صفحة رقم 386

يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا... عيدية أرهنت فيها الدّنانير
العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق:
أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر، تقول: رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا، لا كما تقول: رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا، قال أبو علي: وقد يقال في هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
يراهنني ويرهنني بنيه... وأرهنه بنيّ بما أقول
وقال الأعشى: [الكامل]
حتّى يقيدك من بنيه رهينة... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة: [المتقارب]
ولمّا خشيت أظافرهم... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.
قال القاضي أبو محمد: فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن، ك «كبش» و «كباش»، و «كعب» وكعاب، ونعل ونعال، وبغل وبغال، ومن قرأ «فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن، ك «سقف وسقف، وأسد وأسد، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك، قال أبو علي: وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى: [الكامل]
آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
قال الطبري: تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة: [الطويل]
وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر

صفحة رقم 387

ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.
وقوله عز وجل: مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: ليس قبض العدل بقبض، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، وقوله فَلْيُؤَدِّ أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله أَمانَتَهُ مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال:
فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضا لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله.
وقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق، وآثِمٌ معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن»، وقَلْبُهُ فاعل ب آثِمٌ، ويجوز أن يكون ابتداء وقَلْبُهُ فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون قَلْبُهُ بدلا على بدل البعض من الكل.
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء، قال مكي هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة.
وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد.

صفحة رقم 388
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية