آيات من القرآن الكريم

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ أُلْغِيَتْ مِنْ هاهنا جَازَ فِي فِئَةٍ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْخَفْضُ، أَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّ (كَمْ) بِمَنْزِلَةِ عَدَدٍ فَنَصْبُ مَا بَعْدَهُ نَحْوُ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَمَّا الْخَفْضُ فَبِتَقْدِيرِ دُخُولِ حَرْفِ (مِنْ) عَلَيْهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى نِيَّةِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَمْ غَلَبَتْ فِئَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَعُونَةُ وَالنُّصْرَةُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا لِلَّذِينِ قَالُوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٠]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُبَارَزَةُ فِي الْحُرُوبِ، هِيَ أَنْ يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ وَقْتَ الْقِتَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الْأَرْضَ الْفَضَاءَ الَّتِي لَا حِجَابَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا الْبَرَازُ، فَكَانَ الْبُرُوزُ عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْضِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَرَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَرَى صَاحِبَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَقْوِيَاءَ مِنْ عَسْكَرِ طَالُوتَ لَمَّا قَرَّرُوا مَعَ الْعَوَامِّ وَالضُّعَفَاءِ أَنَّهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَوْضَحُوا أَنَّ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، لَا جَرَمَ لَمَّا بَرَزَ عَسْكَرُ طَالُوتَ إِلَى عَسْكَرِ جَالُوتَ وَرَأَوُا الْقِلَّةَ فِي جَانِبِهِمْ، وَالْكَثْرَةَ فِي جَانِبِ عَدُوِّهِمْ، لَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَنَظِيرُهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ الِالْتِقَاءِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦] / إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٧] وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ،
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي وَيَسْتَنْجِزُ مِنَ اللَّهِ وَعْدَهُ، وَكَانَ مَتَى لَقِيَ عَدُوًّا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَبِكَ أَجُولُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِفْرَاغُ الصَّبُّ، يُقَالُ: أَفْرَغْتُ الْإِنَاءَ إِذَا صَبَبْتَ مَا فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرَاغِ، يُقَالُ: فُلَانٌ فَارِغٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالٍ مِمَّا يَشْغَلُهُ، وَالْإِفْرَاغُ إِخْلَاءُ الْإِنَاءِ مِمَّا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَخْلُو بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ الصَّبْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ إِذَا صَبَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ فَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالثَّانِي: أَنَّ إِفْرَاغَ الْإِنَاءِ هُوَ إِخْلَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ، فَمَعْنَى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا: أَيِ اصْبُبْ عَلَيْنَا أَتَمَّ صَبٍّ وَأَبْلَغَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَطْلُوبَةَ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ صَبُورًا عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمَخَاوِفِ وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْلَى لِلْمُحَارِبِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جَبَانًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودٌ أَصْلًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَدَ مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالِاتِّفَاقَاتِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَقِفَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَصِيرَ مُلْجَأً إِلَى الْفِرَارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَزْدَادَ قُوَّتُهُ عَلَى قُوَّةِ عَدُوِّهِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَقْهَرَ العدو.

صفحة رقم 514
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية