آيات من القرآن الكريم

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ؟ قلت: معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أو قدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك- أعاذنا اللَّه منها برحمته الواسعة- توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنار، وبأنها لإفراط حرّها وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار، اشتعلت وارتفع لهبها. فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت: بل هي نيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة، يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)، (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى). ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين، كما أنّ لكفرة الإنس ناراً وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. فإن قلت: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً. قلت: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما وجعلوها للَّه أنداداً أو عبدوها من دونه: قال اللَّه تعالى: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه.
فقوله: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) في معنى الناس والحجارة، و (حَصَبُ جَهَنَّمَ) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون اللَّه أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها اللَّه عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغا في إيلامهم وإعراقا في تحسيرهم «١»، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم. وقيل: هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل أُعِدَّتْ هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم. وقرأ عبد اللَّه، أعتدت، من العتاد بمعنى الغدة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)

(١). قوله «وإعراقا في تحسيرهم» لعله: وإغراقا، بالغين المعجمة. (ع)

صفحة رقم 103

من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب. فإن قلت:
من المأمور بقوله تعالى: وَبَشِّرِ؟ قلت: يجوز أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة «١» » لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطفه عليه؟
قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق.
ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فَاتَّقُوا) كما تقول: يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم. وفي قراءة زيد بن علىّ رضى اللَّه عنه: (وَبَشِّرِ) على لفظ المبنىّ للمفعول عطفاً على: (أُعِدَّتْ). والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرنى» «أخبرنى» عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك. ومنه قوله:

(١). أخرجه أبو داود. والترمذي والبزار. من طريق إسماعيل بن سليمان عن عبد اللَّه بن أوس عن بريدة وقال الدارقطني: تفرد به إسماعيل. وله شاهد من رواية ثابت عن أنس وسهل بن سعد رضى اللَّه عنهما، أخرجه ابن ماجة والحاكم. وأخرجه ابن حبان عن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه، والطبراني من رواية ابن عباس وابن عمر وزيد بن حارثة وأبى موسى وأبى أمامة رضى اللَّه عنهم بأسانيد ضعيفة. وحديث زيد في الكامل لابن عدى. وحديث أبى موسى عند البزار. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة. وقال: تفرد به قتادة بن الفضل عن الحسن بن على البيروتى. ورواه الطيالسي وأبو يعلى من حديث أبى سعيد وإسناده ضعيف أيضا. ورواه عمر بن شاهين في الترغيب له من حديث حارثة بن وهب الخزاعي.

صفحة رقم 104

فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ «١»
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة:

كيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لَأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِى «٢»
والصالحات: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة، واللام للجنس.
فإن قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه. وإذا دخلت على المجموع، صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت:
الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير
تَسقِى جَنَّةً سُحُقَا «٣»
(١).
غضبت تميم أن نقتل عامراً يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
لبشر بن أبى حازم الأسدى. وتميم، وعامر: قبيلتان. وهل: استفهام إنكارى. أى ليس المجرب للأمور مثلهما كمن لم يجربها. ويجوز أنه أمره بالسؤال لأن الذي يسأل ويعلم ليس كمن لم يعلم. وأن نقتل: أى من أن نقتل.
وروى: تقتل عامر، بالباء للمجهول. والنسار اسم ماء لبنى عامر، أى غضبت علينا تميم من قتل حلفائهم فكأنها عتبت علينا لضعفها. فأعتبناهم، أى أزلنا عتابهم بالصيلم: وهو السيف الكثير القطع، من صلمه إذا قطعه. وشبه إجابتهم بالمحاربة بالسيف باجابة من يزيل العتاب على سبيل التصريحية التهكمية. لأن الأول مكروه والثاني محبوب.
(٢). للحطيئة واسمه جرول بن أوس بن حومة بن مخذوم بن مالك الغطفاني، حين وفدت العرب على النعمان بن المنذر فأحضر حللا عظيمة وقال: إنى ملبسها غداً لمن شئت، فلما كان الغد تخلف ابن سعدى خوف إلباسها غيره وهو حاضر فطلبه الملك وألبسه الحلل، فحسدته سادات العرب من قومه، وضمنوا للحطيئة مائة بعير لو هجاه، فقال: كيف الهجاء له، والحال أن لا تنفك فعلة صالحة تأتينى من آل لأم حال كوني ملتبسا بظهر الغيب، أو حال كونهم ملتبسين بظهر الغيب. وأقحم الظهر لأن الغائب كأنه وراء الظهر، أو لتقوية الغيب، لأنهم إذا أرادوا تقوية شيء أسندوا له الظهر لقوته، وكثيراً ما يجرون الصفة مجرى الاسم، إما لعدم الاحتياج إلى ذكره كما في صالحة، أو لأنها كافية في تعيين الموصوف إن احتيج إليه.
(٣).
إن الخليط أجدوا البين فافترقا وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
كأن عينى في غربي مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا
لزهير بن أبى سلمى. والخليط المعاشر. والبين: الانفصال والبعد، وأسماء: اسم محبوبته. وأصله من الوسامة وهي علامة الحسن. وقيل أصله جمع اسم. وعلق: مبنى للمجهول. والقلب: نائب فاعل. وما علق- بالتخفيف-:
مفعوله، أى ما تعلق به منها وهو الحب والتحسر والتحزن على سفرها. ولم يعينه دلالة على التكثير والتهويل ولما اشتغل قلبه بها، فكأنها أخذته معها ولذلك ادعى أنها أخذته رهنا على سبيل الاستعارة المصرحة، ورشحها بقوله:
لا فكاك له: وغلق الرهن- بالكسر-: إذا امتلكه الدائن ويأس صاحبه من رجوعه إليه، ثم قال: كأن عينى من شدة البكاء وكثرة الدموع عينان في دلوين عظيمتين ممتلئتين ماء، تحملهما ناقة مقتلة مذللة معتادة على العمل من الإبل النواضح التي يستقى عليها، تسقى تلك الناقة جنة «سحقا» بضمتين: جمع سحوق، أى نخلا طوالا جهة السماء، أو بعيدة عن محل الماء، فهي دائمة ذاهبة آئبة. ولقد خاطب نفسه أولا كأنه يخبرها بسفر أسماء لفرط جزعه، ثم التفت كأنه يشتكى للناس في قوله: كأن عينى.

صفحة رقم 105

أى نحلا طوالا. والتركيب دائر على معنى الستر، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة، من مصدر جنه إذا ستره، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها. وسميت دار الثواب «جنة» لما فيها من الجنان. فإن قلت: الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت: قد اختلف في ذلك. والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها. فان قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان. فان قلت:
أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت: لما جعل الثواب مستحقا بالإيمان والعمل الصالح، والبشارة مختصة بمن يتولاهما، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً، وأعلم بقوله تعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وقال تعالى المؤمنين: (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر. فان قلت: كيف صورة جرى الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية

صفحة رقم 106

والنشاط حتى يجرى فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتا، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء اللَّه تعالى بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى:
نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهر» بفتح الهاء. ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازى كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وصيد عليه يومان. فإن قلت: لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار. قلت: أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً). أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) - الآية.
وقوله كُلَّما رُزِقُوا لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا اللَّه. فان قلت:
ما موقع مِنْ ثَمَرَةٍ؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك.
فموقع (مِنْ ثَمَرَةٍ) موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من رمّان. وتحريره أن «رزقوا» جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيدا بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من ثمرة، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
ووجه آخر: وهو أن يكون (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسداً. تريد

صفحة رقم 107

أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة. فإن قلت:
كيف قيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل «١». وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابها، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وَأُتُوا بِهِ؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأنّ قوله: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنيا أو فقيرا على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملى تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة

(١). قال محمود رحمه اللَّه: «معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من التشبيه بغير الأداة، وهو أبلغ مراتب التشبيه، كقولهم: أبو يوسف أبو حنيفة.

صفحة رقم 108

ذراعا». ويجوز أن يرجع الضمير في: (أُتُوا بِهِ) إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه، ويكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى اللَّه عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده»
، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل اللَّه مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأوّل هو هو. فإن قلت: كيف موقع قوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقاً: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهنّ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهنّ ومثالبهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ. فان قلت: فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان.
يقال: النساء فعلن، وهنّ فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة:

وإذَا العَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ «٢»
(١). أخرجه الطبراني والبزار والحاكم من حديث ثوبان بلفظ «لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها شيئا إلا أخلف اللَّه مكانها مثلها» ولفظ البزار: «إلا أعيد في مكانها مثليها» على التثنية. وسيأتى في آخر الزخرف.
(٢).
وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت
دارت بأرزاق العناة مغالق بيدي من قمع العشار الجلة
ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها وكفيت جانبها اللتيا والتي
لسلمى بن ربيعة بن جفنة الضبي وشبه استتار الأبكار بالدخان أو سوادهن به باستتارهن بالقناع على طريق التصريح أو شبه الدخان به على طريق المكنية. وملت: شوت المليل بأن تضع اللحم أو الخبز على الجمر فينضج. ويروى «درت» بدل «دارت» أى كثر بذلها. والعفاة: طلاب الرزق. والمغالق: سهام الميسر التي تغلق الحظر وتثبته للغالب. والقمع: قطع السنام جمع قمع. والعشار: النوق التي مضى على حملها عشرة أشهر. والجملة: السمان العظيمات السنام، جمع جليل كصبية جمع صبى، أى إذا جدب الزمان، حتى أن الأبكار مع فرط حيائهن وصونهن، يقبلن على الدخان ويشتوين على الجمر، ويأكلن ولا يصبرن لنضج القدور من الجوع بذلت للناس بكثرة. ويحتمل أن مخدراته تباشر تنضيج قرى الضيفان بأنفسهن فيبذله لهم. والأول أبلغ. ورأيت: أصلحت. والثأى الفساد وكفيت من جنى منها. ويروى «جانبها» بالموحدة الداهية الصغيرة والكبيرة. واللتيا: تصغير التي كغيرها من الموصولات التي سمع تصغيرها، وزيدت الألف في آخرها عوضا عن ضم التصغير، وهي بفتح اللام. وقال الأخفش بضمها على قياس التصغير وإن كان شاذا في الأسماء المبنية كما هنا. واستغنت عن الصلة لنقلها بالتصغير عن معنى الموصولية وحمل عليها «التي» لأنها لما ذكرت في مقابلتها كان معناها الداهية العظيمة فلم يكن قصد إلى معنى الموصولية أيضا. وقيل يجوز حذف الصلة لدليل، فيقدر هنا: اللتيا صغرت، والتي عظمت. ثم إن هذا من قبيل الأمثال السائرة. وأصله أن رجلا تزوج امرأة قصيرة فقاسى منها الشدائد، ثم زوج طويلة أيضا فقاسى ضعف ذلك، فطلقهما وقال: بعد اللتيا والتي لا أتزوج أبداً.

صفحة رقم 109
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشريّ، جار الله، أبو القاسم
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة
الثالثة - 1407 ه
عدد الأجزاء
4
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية