وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب القرظي: «هذا في كتاب الله» فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟
قال: قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: «إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد». قال ابن كثير: وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح «١».
الدعوة إلى قبول الإسلام واتباع أحكامه وجزاء المخالف
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
الإعراب:
كَافَّةً منصوب على الحال من ضمير ادْخُلُوا.
سَلْ فعل أمر، وأصله «اسأل» إلا أنه حذفت الهمزة تخفيفا، ونقلت حركتها إلى السين قبلها، فاستغنى عن همزة الوصل. وكَمْ منصوب على الظرف، وتقديره: كم مرة، وعامله: آتَيْناهُمْ. وجملة آتَيْناهُمْ مع كَمْ في موضع نصب مفعول ثان لفعل سَلْ. ولا يجوز أن يكون العامل في كَمْ هو سَلْ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
زُيِّنَ لم يقل «زينت» وإن كانت الْحَياةُ مؤنثة لسببين، لوجود الفاصل بينهما، ولأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، فيجوز ترك علامة التأنيث، مثل: حسن الدار، واضطرم النار.
البلاغة:
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام إنكاري في معنى النفي، بدليل مجيء إِلَّا بعدها، أي ما ينتظرون. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ التنكير للتهويل. وَقُضِيَ الْأَمْرُ عطف على المضارع:
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ للدلالة على تحققه، فكأنه قد كان. فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أظهر لفظ الجلالة لتربية المهابة والروعة.
زُيِّنَ أورد بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مستقرا في طبعهم. وَيَسْخَرُونَ عطف بالمضارع لإفادة استمرار السخرية منهم.
المفردات اللغوية:
السِّلْمِ: التسليم والانقياد، ويطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والمراد هنا الإسلام. كَافَّةً في اختيار السيوطي: حال من السلم، أي في جميع شرائعه، وقال أهل اللغة:
حال من ادْخُلُوا أي جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق، جمع خطوة، والمراد تزيينه ووساوسه بالتفريق. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. زَلَلْتُمْ ملتم عن الدخول في الإسلام جميعه، والزلل في الأصل: عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحق. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرة والأدلة التي ترشد إلى أن الإسلام الذي دعيتم إليه هو الحق. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام منكم. حَكِيمٌ في صنعه، يعاقب المسيء، ويكافئ المحسن. هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون أي تاركو الدخول فيه. يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم عذابه أو أمره كقوله: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي عذابه. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة، وهي ما أظلك. مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض الرقيق. وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي في لا حرة فيجازي الناس.
وقال أهل السلف: الإتيان في ظلل من الغمام كالمجيء في آيات أخرى: مما وصف به الله تعالى نفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة لا يخفى أنها من عند الله، كالعصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى، فبدلوها كفرا. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ التبديل: تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله: آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه، وجعلها مصدر الهداية والنجاة. الْعِقابِ العذاب.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا حسّن لأهل مكة. الْحَياةُ الدُّنْيا بالتمويه، فأحبوها.
وَيَسْخَرُونَ يستهزئون من الذين آمنوا لفقرهم، كبلال وعمار وصهيب، ويتعالون عليهم بالمال. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك وهم هؤلاء. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقدير ولا حصر ولا تعداد على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور، أو أنه كناية عن السعة، فيرزقهم رزقا واسعا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالتسلط على أولئك الساخرين، وأما في الآخرة فبالفوز بالجنة والرضوان الإلهي، وهذا كما يقال: «هو ينفق بغير حساب» على معنى أنه ينفق كثيرا.
سبب النزول:
نزلت الآية (٢٠٨) في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.
وروى عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فأمرهم بقوله: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب انقادوا إلى الله تعالى في كل شيء، وادخلوا في الإسلام كله، وخذوا الإسلام بجملته، ولا تخلطوا به غيره، وافعلوا كل ما أمركم به الإسلام من أصول وفروع وأحكام دون تجزئة أو اختيار «١»، كالعمل بالصلاة والصيام مثلا، وترك الزكاة والحدود، وتناول الخمر، وأخذ الربا، وفعل الزنى، ونحوه مما نراه الآن.
وحافظوا على وحدة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، كما قال الله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.. [آل عمران ٣/ ١٠٣] واحذروا التنازع والاختلاف، كما قال عز وجل: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم [الأنفال ٨/ ٤٦] وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
ولا تتبعوا طرق الشيطان في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، فهذه
وسائله ووساوسه التي يزخرفها أو يزينها للناس، يسوّل لهم المنافع والمصالح.
ويصرف الشخص عن الحق والهداية، ويفرق بين الجماعة، كما حدث من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وحرفوا وبدلوا، ونقصوا وزادوا، فتمزقت وحدتهم، وسلّط الله عليهم الأعداء.
والسبب في تحذيرنا من اتباع خطوات الشيطان: أنه العدو اللدود الظاهر العداوة، فإن جميع ما يدعو إليه هو الضلال والباطل بعينه.
ثم توعد الله من حاد عن جادة الاستقامة، فأعلمهم أنكم إن ملتم عن الحق، وابتعدتم عن صراط الله وهو الإسلام، بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات القاطعات، وسرتم في طريق الشيطان، طريق الخلاف والنزاع والتفريق، فإن الله عزيز لا يغلب، أو غالب على أمره، لا يعجزه الانتقام منكم، حكيم في صنعه، لا يهمل المذنب، وإنما يعاقبه ويؤاخذه في الدنيا والآخرة.
وهكذا الحكم في كل الأفراد، إذا لم يلتزموا طريق الاستقامة، ولم يتحصنوا بدرع متين من الأخلاق، وأهملوا شرع الله كله أو بعضه، فلن يوفقوا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم زاد في التهديد والوعيد، فأورد هذا الاستفهام: ما ينتظر هؤلاء المكذبون دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إثباتها بالأدلة والبراهين الساطعة، وأولئك الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من العذاب في ظلل من الغمام (السحاب) حيث ينتظرون الخير، تنكيلا بهم، وتأتيهم الملائكة وتنفذ ما قدره الله وأراده لهم، وهو أمر قضاه الله وأبرمه، فلا مفرّ منه، والمرجع في كل الأمور في النهاية إلى الله يوم القيامة، فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول مبدئ الخلائق، وهو الآخر تصير إليه الأمور.
وحكمة إنزال العذاب في الغمام الذي هو مظنة الرحمة والأمل في الخير، هو إنزاله فجأة من غير سابق إنذار، كما في آية أخرى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٥].
وهذا يومئ للمؤمن بأن يبادر إلى التوبة وإصلاح الحال، حتى لا يفاجئه العذاب، ويأتيه بغتة وهو لا يشعر، فإذا لم تفاجئه القيامة، فاجأه الموت، أو المرض الذي يعجزه عن العمل الصالح، كما جاء في آية أخرى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر ٣٩/ ٥٤- ٥٥].
ثم فتح الله سبيل الحوار والمناقشة مع بني إسرائيل عن الآيات العديدة التي حدثت على يد رسلهم، كي يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي قامت على مثل تلك الآيات أو المعجزات. فقال:
سل يا محمد بني إسرائيل سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ لهم عن الآيات الكثيرة التي جاءت على أيدي رسلهم الكرام، مثل موسى وعيسى عليهما السلام، فهي تدل دلالة قاطعة على صدقهم، ومثلها المعجزات الدالة على صدقك، فهي متنوعة وكثيرة تؤدي إلى الاقتناع والتصديق بالنبوات. فهل لهم أن يتعظوا ويتدبروا، ويقلعوا عن جحودهم بالحق وطغيانهم؟ وإلا حلّ بهم من النكال مثل ما حلّ بأسلافهم.
ثم هدد كل من يغيّر سنن الله، فقال: ومن يغير نعمة الله وهي الأدلة والبراهين الدالة على الحق والخير والهداية، من بعد ما وصلت إليه وعرفها، ويجعلها من أسباب ضلاله وكفره وعصيانه، فله العذاب الشديد، والعقاب الصارم، والجزاء المحتم، لأنه من سنن الله العامة القائمة على العدل والإنصاف،
تمييزا بين المحسن والمسيء، والله شديد العقاب لمن خالف وأساء، رؤف رحيم بمن أطاع وأحسن.
ولكن طبيعة الكافرين الجاحدين قائمة على حب الدنيا حبا شديدا، وتحسينها في أعينهم، وتمكّن محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بمباهجها وزخارفها، وآثروها على كل شيء، حتى ما عند الله من نعيم مقيم، لأنهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا بالآخرة، ثم يتبعون التأويلات والأوهام والآمال الكاذبة التي علقت في خواطرهم.
وتراهم يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بالفقراء منهم، كابن مسعود وعمار وصهيب، ويعجبون: كيف ترك هؤلاء لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات؟ كما يعجبون من الأغنياء، كيف لا يتقلبون في النعيم، ويستعدون لما بعد الموت، بتصحيح الاعتقاد، وإصلاح الأعمال، والتخلق بفضائل الأخلاق؟
ويتلخص موقفهم أو نظرتهم بأنه موقف مادي، لا أثر فيه للروحانية.
ثم ردّ الله على هؤلاء الساخرين الذين يظنون أنهم في لذاتهم ودنياهم خير من أهل اليقين والإيمان، ومفاد الرد:
إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين فترة من الدهر، بالمال أو المنصب والجاه، أو العزة والسلطان وكثرة الأنصار والأتباع، فإن المتقين سيكونون أعلى رتبة منهم في الآخرة، وأعلى مقاما عند ربهم، فهم في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم ١٩/ ٦٣].
وقد تساءل الزمخشري عن السبب في قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا؟ ثم أجاب: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن
التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك «١».
هذا هو الجزاء المفضل الخالد في الآخرة، أما الدنيا فليس الارتفاع فيها خالدا، وإنما هو موقوت، بل هو في الحقيقة شيء حقير، يغتر بها سذاج الناس، أو السطحيون العاديون، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء.
والله سبحانه يرزق من فضله من يشاء، ولو كان كافرا فاسقا، ويقدر الرزق أو يقلله على من يشاء، ولو كان مؤمنا طائعا، ويعطي الرزق عطاء كثيرا جزيلا، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما
جاء في الحديث: «ابن آدم، أنفق أنفق عليك»
«٢»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا، ولا تخش من الله ذي العرش إقلالا»
«٣» وقال الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٩] فيكون لكلمة الحساب في الآية (٢١٢) وجهان: التقدير أي من غير تقدير له، أو كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي ينفق كثيرا.
وتكرر معنى هذه الآية في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء ١٧/ ١٨- ٢١]. ويلاحظ أنه لم يسترط السعي لرزق الدنيا، لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز أو ارتفاع أثمان ما يملك من عقار
(٢) حديث قدسي متفق عليه عن أبي هريرة بلفظ «أنفق أنفق عليك».
(٣) رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده عن ابن مسعود، وكذا البزاز.
وعروض، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان، كما خصّها هنا بالذين اتقوا من المؤمنين «١».
والرزق بلا حساب في الدنيا يكون بالنسبة إلى الأفراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار، وكثيرا من الفجار أغنياء أو فقراء، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر، كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق، ويرى من عناية الله به رزقا غير محتسب.
أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، وسنته فيها أن يرزقها بعملها، ويسلبها بزللها، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تتدبر «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
الإسلام كلّ لا يتجزأ، فمن آمن به وجب عليه الأخذ به كله، فلا يختار منه ما يرضيه، ويترك ما لا يرضيه، أو يجمع بينه وبين غيره من الأديان، لأن الله تعالى أمر باتباع جميع تعاليمه وتطبيق كل فرائضه، واحترام مجموع نظامه، بالحل أو الإباحة، وبالحظر أو الحرمة، فهو دليل الإيمان الحق به، فضلا عن القول بأن شرائعه نسخت كل الشرائع السماوية السابقة حال تعارضها معه. واختيار غير هذا المنهاج أو الخطة يكون اتباعا لخطوات الشيطان ووساوسه وأباطيله.
وقد دلت آية فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع.
(٢) تفسير المنار، المرجع والمكان السابق.
وأرشدت آية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ إلى أن مصير المخالفين أو العصاة هو الهلاك والعذاب، وهو أمر محتم نافذ لا مردّ له، وهذه النتيجة يقدرها كل عاقل، وهي التي قررها القرآن، فذكر تعالى: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه، يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض. وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء، كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وما أكثر الأدلة التي ترشد الناس إلى اتباع الحق والإسلام، لذا سئل بنو إسرائيل سؤال تقريع وتوبيخ: كم جاءهم من الآيات التي أيد الله بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظّلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك؟ كما قال مجاهد والحسن البصري وغيرهما، وقال غيرهم: كم جاءهم في أمر محمد عليه الصلاة والسلام من آية معرّفة عليه دالة عليه؟ ولا مانع من الجمع بين التفسيرين، كما فعلت. فإن بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومثلهم كل مبدّل نعمة الله، فلهم العقاب الشديد.
وأما الماديون الكفار الذين فتنوا بالدنيا، وهم رؤساء قريش وأمثالهم، وصنفوا الناس على حسب الغنى والترف، وسخروا من المؤمنين الفقراء، وأقبلوا على الدنيا، وكانت موازينهم مادية محضة، وأعرضوا عن الآخرة بسبب الدنيا، فإنهم قصيرو النظر، لأن الله جعل ما على الأرض زينة لها، ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملا، ولأنهم لا يعتقدون غير الدنيا، وأما المؤمنون الذين هم على سنن الشرع، فلم تفتنهم زينة الدنيا، وسيكونون أرفع درجة من الكفار، لأنهم في الجنة، والكفار في النار، وسيلقون جزاء سخريتهم بالمؤمنين، كما قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين ٨٣/ ٣٤- ٣٦].
وروى عليّ رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة، أو حقّره لفقره وقلة ذات يده، شهره الله يوم القيامة، ثم فضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى على تلّ من نار يوم القيامة، حتى يخرج مما قال فيه. وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرّب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة. وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء، كما يعرف الرجل أهله وولده».
ومع جدارة الكافر لاستحقاق العقاب في الآخرة، فإن الله تعالى من باب العدالة والرحمة لا يحجب عنه الرزق والعطاء الذي يستمتع به في الدنيا، ويضمن له معيشته وكرامته، والله يرزقه ويرزق كل دابة في الأرض، ويعطي الإنسان عطاء بغير حساب أي بغير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى، والكفر والفجور، أو أن عطاءه واسع خصب كثير، لا حدود له، فهو جلت قدرته لا ينفق بعدّ، وفضله كله بغير حساب، أما الذي بحساب فهو ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ ٧٨/ ٣٦] لذا كان رزق المؤمن التقي في الآخرة أوسع من رزقه في الدنيا، وحينئذ يتميز المؤمن عن الكافر في زيادة الرزق واستمراره في الآخرة، وأما الكافر فلا رزق له هناك، وإنما جزاؤه العذاب في جهنم. قال الله تعالى عن المؤمنين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات ٧٧/ ٤١- ٤٤] وقال الله سبحانه عن الكافرين:
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الحاقة ٦٩/ ٣٥- ٣٧].