
فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا او لغير ذلك كما ذكر في التفاسير وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفات لان الاضافة مأمور بها وهي موقوفة على الحضور فيها والوقوف بها وما لم يتم الواجب الا به فهو واجب فيكون الوقوف واجبا فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل والتسبيح والتحميد والثناء والدعوات عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الامام وعلى الميقدة وفي المغرب الميقدة هو موضع بالمشعر الحرام على قزح كان اهل الجاهلية يوقدون عليها النار وتقييد محل الذكر والوقوف بقوله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ للتنبيه على ان الوقوف فيما يقرب من جبل قزح أفضل من الوقوف في سائر مواضع ارض مزدلفة وذلك لا ينافى صحة الوقوف فى جميع مواضعها كما ان عرفات كلها موضع الوقوف لكن الوقوف بقرب جبل الرحمة أفضل واولى والمشعر العلم اى للعبادة. والشعائر العلامات من الشعار وهو العلامة ووصفه بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ اى كما علمكم كيف تذكرونه مثل كون الذكر ذكرا كثيرا وعلى وجه التضرع والخيفة والطمع ناشئا عن الرغبة والرهبة ومشاهدة جلال المذكور وجماله كما قال عليه السلام (الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه) فالمقصود من الكاف مجرد التقييد لا التشبيه اى اذكروه على الوجه الذي هداكم اليه لا تعدلوا عما هديتم اليه كما تقول افعل كما علمتك وليس هذا تكرارا لقوله فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ لان الاول لبيان محل الذكر والوقوف وتعليم النسك المناسب لذلك المحل وأوجب بالثاني ان يكون ذكرنا إياه كهدايته إيانا اى موازيا لها في الكم والكيف وَإِنْ هى المخففة واللام هي الفارقة كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ما ذكر من هدايته إياكم لَمِنَ الضَّالِّينَ غير العالمين بالايمان والطاعة قال القاشاني ان الله تعالى هدى اولا الى الذكر باللسان في مقام النفس. ثم الى الذكر بالقلب وهو ذكر الافعال اى تصور آلاء الله ونعمائه ثم الى ذكر السر وهو معاينة الافعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات.
ثم الى ذكر الروح وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم الى ذكر الخفي وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الاثنينية. ثم الى ذكر الذات وهو الشهود الذاتي بارتفاع البعد وان كنتم من قبل الهدى الى هذه المقامات لمن الضالين عن طريق هذه الاذكار انتهى ولما امر بذكر الله تعالى إذا فعلت الافاضة امر بان تكون الافاضة من حيث أفاض الناس مرتبا الأمر الثاني على الاول بكلمة ثم فقال ثُمَّ أَفِيضُوا اى ارجعوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ اى من عرفة لا من المزدلفة كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن اهل الله وسكان حرمه فلا نخرج من الحرم ويستعظمون ان يقفوا مع الناس بعرفات لكونها من الحل وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات اتباعا لملة ابراهيم عليه السلام فاذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فانزل الله هذه الآية فأمرهم ان يقفوا بعرفات وان يفيضوا منها كما يفعله سائر الناس والمراد بالناس العرب كلهم غير الحمس. والحمس في الأصل جمع احمس وهو الرجل الشجاع والأحمس ايضا الشديد الصلب في الدين والقتال وسميت قريش وكنانة وجديلة وقيس حمسا لتشددهم في دينهم وكانوا لا يستظلون ايام منى ولا يدخلون البيوت من ابوابها وكذلك كان من حالفهم او تزوج منهم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك ومخالفتكم

فى الموقف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فامر النبي عليه السلام أبا بكر رضي الله تعالى عنه ان يخرج بالناس جميعا الى عرفات فيقف بها- روى- ان الله تعالى يباهى ملائكته باهل عرفات ويقول (انظروا الى عبادى جاؤا من كل فج عميق شعثا غبرا اشهدوا انى غفرت لهم) ويروى ان الشيطان ما رؤى في يوم هو أصغر واحقر وأذل منه يوم عرفة وما ذلك الا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إذ يقال ان من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الا الوقوف بعرفة وفي الحديث (أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن ان الله تعالى لا يغفر له) والحجة الواحدة أفضل من عشرين غزوة في سبيل الله وقيل ان البعير إذا حج عليه مرة بورك في أربعين من أمهاته وإذا حج عليه سبع مرات كان حقا على الله ان يرعاه في رياض الجنة ومصداق ذلك ما قال النهرانى رحمه الله بلغني ان وقاد تنور حمام اتى بسلسلة عظام حمل ليوقدها قال فألقيتها في المستوقد فخرجت منه فألقيتها فعادت فخرجت فعدت فألقيتها الثالثة فعادت فخرجت بشدة حتى وقعت في صدرى وإذا بصوت هاتف يقول ويحك هذه عظام جمل قد سعى الى مكة عشر مرات كيف تحرقها بالنار وإذا كانت هذه الرأفة والرحمة بمطية الحاج فكيف به ثم ان الفضل على ثلاثة اقسام بالنسبة الى احوال العبد فان التنوع راجع الى تغيير احوال العباد لا الى تغيير صفة من صفات الحق تعالى. فالاول منها ما يتعلق بالمعاش الإنساني من المال والجاه ونوع يتعلق بالغذاء واللباس الضروري وهذا الفضل مفسر بالرزق قال الله تعالى وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
والثاني منها ما يتعلق بالمصالح الاخروية للعبد وهو نوعان ما يتعلق باعمال البدن على وفق الشرع ومتابعة الشارع ومجانبة طريق الشيطان المنازع قال تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وما يتعلق باعمال القلب وتزكية النفس قال تعالى وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً. والقسم الثالث منها ما يتعلق بالله تعالى وهو نوعان ما يتعلق بمواهب القربة قال تعالى وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً اى قربا كبيرا فانه اكبر من الدنيا والآخرة وما يتعلق بمواهب الوصلة قال تعالى ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعنى فضل مواهب الوصلة أعظم من الكل ولكل قسم من هذه الاقسام الثلاثة مقام في الابتغاء. اما الذي يتعلق بالمصالح الاخروية وهو فضل الرحمة فمقام ابتغائه بترك الموجود وبذل المجهود وهو فى السير الى عرفات. واما الذي يتعلق بالله وهو فضل المواهب فمقام ابتغائه عند الوقوف بعرفات وعرفات اشارة الى المعرفة وهي معظم اركان الوصلة. واما الذي يتعلق بالمصالح الدنيوية وهو فضل الرزق فمقام ابتغائه بعد استكمال الوقوف بعرفات المعرفة عند الافاضة. ففى الآية تقديم وتأخير اى إذا أفضتم من عرفات فليس عليكم إلخ وذلك لان حال اهل السلوك في البداية ترك الدنيا والتجريد عنها. وفي الوسط التوكل والتفريد. وفي النهاية المعرفة والتوحيد فلا يسلم الشروع في المصالح الدنيوية الا لاهل النهاية لقوتهم في المعرفة وعلو همتهم بان يطهر الله قلوبهم من رجز حب الدنيا الدنية ويملأها نورا بالالطاف الخفية فلا اعتبار للدنيا وشهواتها ونعيم الآخرة ودرجاتها عند الهمم العالية فلا يتصرفون في شىء منها وتصرفهم بالله وفي الله ولله لا لحظوظ النفس بل لمصالح الدين وإصابة الخير الى الغير كذا في التأويلات النجمية: قال في المثنوى

المحبة والخلوص بدون المواطأة من فعل الملاحدة والزنادقة والمحب لا يفعل الا ما يحب محبوبه قال الشاعر تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرى في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ان المحب لمن أحب مطيع قال الحافظ
بصدق كوش كه خورشيد زايد از نفست | كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست |

فى هذه الآية من يبذل دنياه ونفسه لطلب الدين وما عند الله يوم الدين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اى يبيعها ويبذلها فان المكلف لما بذل نفسه في طاعة الله من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك الى وجدان ثواب الله صار المكلف كأنه باع نفسه من الله تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما أعطاه من ثوابه وفضله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ اى طلبا لرضاه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده ان ما اشتراه منهم من أنفسهم وأموالهم انما هو خالص ملكه وحقه ثم انه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة وإحسانا وفضلا وإكراما وقيل نزلت في صهيب بن سنان الرومي خرج من مكة يريد الهجرة الى النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركى قريش وقتلوا نفرا كانوا معه وكان معه كنانة
فيها سهامه وكان راميا مصيبا فقال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا والله لا أضع سهمى الا في قلب رجل وايم الله لا تصلون الى حتى ارمى بكل سهم في كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقي في يدى ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كونى فيكم فانى شيخ كبير ولى مال في دارى بمكة فارجعوا وخذوه وخلونى وما انا عليه من الإسلام ففعلوا وسار هو الى المدينة فلما دخلها لقيه ابو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشراء لانه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم واعلم ان المؤمنين باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة اما الأولياء فانهم باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس الأولياء مرضاة الله تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك ان يخرج من أوطان البشرية ويغترب عن ديار الاقران حتى يكون مجاهدا حقيقيا وشهيدا معنويا قال عليه الصلاة (والسلام طوبى للغرباء) وقال ايضا (من مات غريبا فقد مات شهيدا) يشير بذلك الى الانقطاع من الخلق الى الخالق وذلك لا يكون الا بمخالفة الجمهور في العادات والشهوات وفي الحديث (يا انس ان استطعت ان تكون ابدا على وضوء فافعل فان ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة) وذلك لان الوضوء واشارة الى الانفصال عما سوى الله تعالى كما ان الصلاة اشارة الى الاتصال بالله تعالى وفي الحديث ايضا (دم على الطهارة يوسع عليك الرزق) فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصوري وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوي من المعارف والإلهامات والواردات وعند ذلك يحيى القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك الا اثر الجهاد الحقيقي فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حى ابدا: وفي المثنوى
اى بسا نفس شهيد معتمد | مرده در دنيا وزنده مى رود |