
تحليل الطيبات ومنشأ تحريم المحرمات
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
الإعراب:
حَلالًا طَيِّباً منصوب إما لأنه وصف لمفعول محذوف، وتقديره: كلوا شيئا حلالا طيبا، أو لأنه وصف لمصدر محذوف، وتقديره: كلوا أكلا حلالا طيبا.
أَوَلَوْ همزة استفهام ومعناه التوبيخ، والواو حرف عطف، وجواب لَوْ محذوف، وتقديره: «يتبعونهم» للعلم به. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل... إلخ أو تقديره: مثل دعاء الذين كفروا كمثل دعاء الذي ينعق، فحذف المضاف في الحالين وأقيم المضاف إليه مقامه. ودعاء ونداء: منصوب ب يسمع.
البلاغة:
خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره.
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ من عطف الخاص على العام، لأن السوء أعم يشمل جميع المعاصي، والفحشاء: أقبح المعاصي وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة، وتشبيه مجمل لحذف وجه الشبه.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ تشبيه بليغ حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه، أي هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالعمي والبكم في عدم الانتفاع بالقرآن.

المفردات اللغوية:
حَلالًا طَيِّباً الحلال: هو ما أباحه الشرع، والحرام: ما حرمه الشرع وطَيِّباً صفة مؤكدة، أي مستلذا خُطُواتِ جمع خطوة أي طرق الشيطان أي تزيينه والسير على طريقته عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة لذوي البصائر يَأْمُرُكُمْ أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بِالسُّوءِ: ما يسوء وقوعه أو عاقبته أي السيء القبيح وَالْفَحْشاءِ كل ما يقبح شرعا أو في أعين الناس من المعاصي: وهي ما تجاوز الحد في القبح، مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع، فهي أقبح وأشد من كلمة بِالسُّوءِ. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره.
ما أَنْزَلَ اللَّهُ من التوحيد وتحليل الطيبات أَلْفَيْنا وجدنا لا يَعْقِلُونَ عقل الشيء:
عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه وَمَثَلُ صفة يَنْعِقُ يصيح أو يصوت بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي صوتا ولا يفهم معناه، أي هم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم، تسمع صوت راعيها ولا تفهمه، فهم لا يعقلون الموعظة. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب.
سبب نزول الآية (١٦٨) :
قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
المناسبة:
بعد بيان أن أوضاع الشرك خبيثة المنافع، أمر الله بالطيب النافع، ولما أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بيّن لهم ما حرم عليهم.
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى حال متخذي الأنداد وما يرونه من العذاب، وانقطاع الأسباب والصلاة بين التابعين والمتبوعين، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين، أوضح أن تلك الصلات محرمة، لأنها أكل الخبائث، واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب الضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا برهان.

وجاء الخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ليشمل المؤمن والكافر، وأن إنعام الله يعم كل الناس، وأن الكفر لا يحجب الإنعام الإلهي. وناداهم جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لهم، طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يتعلق به حق الغير، وألا يأكلوا الخبائث التي منها ما يأخذه الرؤساء من الأتباع، فهو حرام خبيث لا يحل أكله. ودل ذلك على أن بقاء رجال الدين من أهل الكتاب على ملتهم وعدم إيمانهم بالإسلام: هو للحفاظ على مراكزهم، ورياستهم الباطلة، وأخذهم الأموال بالباطل.
فلا تتبعوا أيها الناس طريقة الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة، فهو إنما يوسوس بالشر والمنكر، وإنه للإنسان بدءا من أبينا آدم عليه السّلام عدو ظاهر العداوة، فلا يأمر بالخير أصلا، ولا يأمر إلا بالقبيح، فهو مصدر الخواطر السيئة والمزين للمعاصي، فاحذروه ولا تتبعوه، وكأنه بوسوسته وتسلطه عليكم كأنه آمر مطاع، بأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم وآخرتكم.
ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون يقينا أنه شرع الله في العقائد والشعائر الدينية، أو تقدموا على تحليل الحرام وتحريم الحلال، ليتوصل بذلك إلى إفساد العقيدة وتحريف الشريعة.
ثم حكى القرآن عن المشركين وبعض اليهود: أنه إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الوحي، لأنه خير لكم وأجدى، ولا تتبعوا من دونه أولياء، انقادوا إلى تقليد الآباء تقليدا أعمى، اعتمادا على المألوف فقط، فرد الله عليهم:
أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في تقاليدهم وعاداتهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الحق في أمور العقائد والعبادات، بل ولو تجردوا من أي دليل منطقي، وحادوا عن الصواب. وهذا يدل على ذم التقليد بدون دليل. أما

اتباع المجتهدين أي تقليدهم بعد معرفة دليلهم، فهو جائز، لقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء ٢١/ ٧].
وصفة أو حال داعي الكافرين إلى الإيمان، المقلدين آباءهم ورؤساهم، وما هم عليه من الضلال والجهل، وعدم التأمل في صحة المواقف، مثل حال الذي يدعو بهائمه ويسوقها إلى المرعى والماء ويزجرها عن الممنوع، وهي لا تعقل مما يقول شيئا ولا تفهم له معنى، فكل واحد من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما ينقاد للأصوات والأجراس، لأن الكفار قد حجبوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم نور الهداية، فختم الله عليها بالغشاوة، وأصبحت لا ينفذ إليها شيء من الخير، وكأنهم صم لا يسمعون، خرس أو بكم لا ينطقون، عمي لا ينظرون في آيات الله تعالى وفي أنفسهم، مما يرشدهم إلى الإيمان، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان. قال القرطبي: شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم إلى الإيمان وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول.
فقه الحياة أو الأحكام:
أباح الله تعالى للناس أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.
روى ابن عباس: أنه تليت هذه الآية عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبي وقاص، فقال:
يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: «يا سعد، أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف

اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبلّ منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا، فالنار أولى به».
والحلال الطيب: هو الذي لا شبهة فيه ولا إثم، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان.
وهذا يدل على أنه لا يحل للمسلم أن يأخذ مالا يتعلق به حق الغير، أو يأخذه على وجه غير شرعي.
وتدل آية وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.. على تحريم اتباع طرائق الشيطان ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم، كما
في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي، فهو لهم حلال- وفيه:
وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم».
وتدل الآية على أنه يجب على المسلم أن يجاهد نفسه وهواه، وأن يخالف الشيطان، فإنه داع للشر والسوء والمنكر والعصيان. وأخبر الله تعالى بأن الشيطان عدو، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وذلك في آيات كثيرة غير هذه الآية، مثل الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة ٢/ ٢٦٨] وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء ٤/ ٦٠] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر ٣٥/ ٦].

ويدخل في اتباع خطوات الشيطان كل معصية لله، وكل نذر في المعاصي، قال ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان «١».
ودلت آية: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ.. أي للناس ومنهم كفار العرب، واليهود، على تحريم التقليد الأعمى، وعلى أنه يجب على المسلم وغيره أن ينظر على قدر طاقته وقوته في إثبات عقيدته وأمور دينه. والتقليد عند العلماء:
قبول قول بلا حجة. وأما الاتّباع: فهو الأخذ بقول الغير بعد معرفة دليله.
وفرض العامي الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من أصولها أن يسأل أهل العلم، ويمتثل فتوى الأعلم، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٤٣].
وأجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد، لأن الله ذم الكفار بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل في قوله: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ.. [الزخرف ٤٣/ ٢٣] ولأنه فرض على كل مكلف (بالغ عاقل) تعلّم أمر التوحيد والقطع به، والتعليم لا يحصل إلا من جهة القرآن والسنة النبوية.
ومثل الذين كفروا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.