آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب- فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر- تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغى للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟
وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع.
كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.
ويروون في ذلك حديثا يدل على أنه ﷺ كان يسرّ بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغى بعمله غير مرضاته، وهو
«عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)

صفحة رقم 28

تفسير المفردات
الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوّة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه، والبينات: هى الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد ﷺ وعلى الرجم، وتحويل القبلة، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا، واللعن: الإبعاد والطرد، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة، واللاعنون:
هم الملائكة والناس أجمعون، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله، تابوا:
أي رجعوا عن الكتمان، وأصلحوا: أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي ﷺ ودينه والهدي الذي جاء به، وبينوا: أي جاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم، خالدين: أي ما كثين في تلك اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلد فيها فقد خلد فى عذاب النار الدائم، ينظرون: أي يمهلون.
المعنى الجملي
لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبى ﷺ ومعاداتهم إياه، ولا سيما اليهود، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.

صفحة رقم 29

وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم:
(١) إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي ﷺ وصفاته مع وجودها في سفر التثنية، فقد جاء فيه: وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم، وأجعل كلامى في فمه، ويكلمهم بكل شىء آمره به. ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره فى سورة المائدة.
(٢) وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم.
وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد ﷺ وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.
وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس، كما
روى في الخبر أنه عليه السلام قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».
وروى أن أبا هريرة قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم، وتلا «إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد

صفحة رقم 30

ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهى عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد ﷺ وأقر بنبوته، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، فى التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً».
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدىّ الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا، ومن بينهم أهل مذهبه، فإنهم إذا

صفحة رقم 31
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية