
الشرك، فهى جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب، وتزكو النفوس أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهو من الصبغة البشرية، والصبغة الإنسانية، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة، والأمة شيعا متنافرة.
(وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ولا نعبد سواه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون فى ديننا وينقصون، ويحلون ويحرّمون، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضى إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له.
وفي الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعوّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحبّ الخير والاعتدال كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٩ الى ١٤١]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
تفسير المفردات
المحاجة: المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك، في الله: أي في دينه.

المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هى ملة إبراهيم وليست هى باليهودية ولا النصرانية، بل هى صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهى بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا ﷺ ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقّن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
روى أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا: يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فردّ الله عليهم بما ستعلم بعد.
الإيضاح
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟) أي أتدّعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية، وتقولون حينا:
(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وحينا آخر تقولون: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربنا وربكم وربّ العالمين، فهو الخالق وجميعنا خلقه، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغى إلا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.

وخلاصة ما سبق- إن روح الدين التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبّر عنه بالإسلام، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شىء من الدين، ولكنّ محمدا ﷺ جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، فهو الذي كمّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلّ زمان ومكان.
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) أي أتقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم، أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدّعون فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقضية العقل شاهدة بكذبكم؟
(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟) أي أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شكّ أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدّقه قبل أن تجىء اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) أي لا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيّا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل.
وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطّلع على التوراة، ويحرّفون على المطلع عليها.
وخلاصة ما سلف- أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادّعوا:
(١) قوله: (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).
(٢) قوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) إلخ.
(٣) قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) إلخ.

(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لا يترك أمركم سدى، بل يعذبكم أشدّ العذاب، وهو محيط بما تأتون وما تذرون.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت، ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة.
وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة- الجزاء على العمل- ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزىّ بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره.
وفّقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين تمّ تصنيف هذا الجزء في الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. فى مدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث ٣ مقدمة التفسير ٥ عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم.
٦ التفسير في عهد الصحابة ٧ التفسير في عهد التابعين ١٠ عصر المعرفة الإسلامية ١٣ آراء العلماء في كتابة المصاحف ١٦ نهجنا الذي سلكناه في هذا التفسير ١٧ أساليب المفسرين ١٨ ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم ١٩ تمحيص الروايات في كتب التفسير ٢٢ تفسير سورة الفاتحة ٢٣ ماحوته سورة الفاتحة من المقاصد ٢٤ نزول القرآن منجما ٢٦ آراء الصحابة والتابعين في البسملة ٣٢ جزاء الأمم والأفراد في الدنيا ٣٣ معنى العبادة شرعا ٣٤ الاستعانة بالله أو التوكل عليه ٣٥ ضروب الهداية ٣٩ تفسير سورة البقرة ٤٠ عقاب الله يتقى باتقاء أسبابه ٤١ الإيمان بالغيب ٤٢ الصلاة التي طلبها الدين ٤٤ ما يحصل به الإيمان على الوجه الصحيح ٤٦ الختم على القلوب ٥٣ المفسدون في كل زمان يدّعون أنهم مصلحون

الصفحة المبحث ٥٧ مثل المنافقين في القرآن ٦٣ الأنداد الذين نهى الله عن اتخاذهم ٧٠ ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها ٧٠ العهد الذي أخذه الله على عباده ٧٣ أمر التكوين وأمر التشريع ٧٥ أخبار النشأة الإنسانية وآراء العلماء في الحوار الذي بين الله وملائكته ٨٥ الخلافة في الأرض ٨٦ عالم الملائكة ٨٧ آراء العلماء في إبليس ٩٠ جنة آدم ٩٢ هبوط آدم وحواء من الجنة، خلق حواء من ضلع آدم ٩٣ عصيان آدم ٩٥ أطوار النوع البشرى ١٠٦ الاستعانة بالصبر والصلاة ١١٠ الشفاعة التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة ١١٣ الزمن الذي بين دخول بنى إسرائيل مصر في عصر يوسف وخروجهم منها فى عصر موسى ١١٦ فرق البحر لموسى وقومه ١٢٢ الأمم متكافلة، فسعادة الفرد بسعادة سائر الأفراد وشقاؤه بشقائهم ١٢٨ الفرق بين المخترعات العلمية والمعجزات ١٣٦ المقصد من الكتب الإلهية العمل بها لا التغني بألفاظها ١٣٩ آراء العلماء في المسخ الذي حدث لبنى إسرائيل ١٥٦ أسباب حبّ الوالدين لولدهما ١٦٢ تمنى الموت ١٨٠ السحر وتأثيره، وما أنزل على الملكين ببابل ١٩٧ تخريب تيطس الرومانى بيت المقدس ٢٠٦ التالي للقرآن وهو معرض عن تدبر معناه كالمستهزئ بربه ٢١٢ الحكمة في التوجه إلى البيت الحرام ٢١٣ أعمال البشر التي تقع باختيارهم لها آثار اضطرارية ٢١٧ قوله ﷺ أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ٢١٨ وصية يعقوب لبنيه ٢٢٦ صبغة الله
صفحة رقم 232
الجزء الثّاني
[تتمة سورة البقرة]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثّاني