
قال عمر بن أبي ربيعة (١):
هُنالك إما تَعُزُّ الهوى | وإما على إثرهم تَكْمدُ (٢) |
١٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ يقال: رغبت عن الشيء أي: تركته عمدًا، وهو ضدُّ قولك: رغبتُ فيه (٦).
قال أبو إسحاق: معنى (مَنْ) التقريرُ والتوبيخُ، ولفظُها لفظُ الاستفهام والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سَفِهَ نَفْسَه (٧)، وذكرنا معنى السفه فيما تقدم (٨).
واختلف النحويون في نصب (نفسَه). فقال الفرَّاءُ: العرب توقع (٩)
(٢) ينظر: "الأغاني" ١٣/ ٨٧.
(٣) ذكره عنه في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٢٠ "عزر".
(٤) ينظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٢٠، "لسان العرب" ٥/ ٢٩٢٥ (عزر).
(٥) تقدم عند قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢].
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٣٢، "تفسير الثعلبي" ١/ ١١٩٤.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بتصرف، ١/ ٢٠٩ "البحر المحيط" ١/ ٣٩٤.
(٨) تقدم عند قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣].
(٩) في (م): (ترفع).

سَفِهَ على النفس، وهى معرفة، وكذلك قوله: ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٥٨] وهو في المعرفة كالنكرة؛ لأنه مفسِّر، والمفسِّر في أكثر الكلام نكرة، كقولك: ضِقْتُ به ذَرْعًا، المعنى: ضاق به ذرعي، فالفعل للذرع، فلما جعلتَ الضيق مسندًا إليك فقلت: ضقت، جاء الذرع مفسرًا؛ ليدل على أنَّ (١) الضيقَ فيه، كما تقول: هو أوسعُكم دارًا، أدخلتَ الدارَ لِيُعْلَمَ أنَّ السعةَ فيها لا في الرجل (٢). ثم أجري على هذا قولهم: قد (٣) وَجِعَ بطنَه، وأَلِمَ رأسَه، وغَبِنَ رأيَه، ورَشِدَ أمرَه، فعند الفرَّاءِ التقدير: سَفِهَتْ نفسُه، فَأُضيفَ الفعلُ إلى صاحب النفس، فخرجت النفس مُفسّرةً، وهذا مذهب الكوفيين.
واعترض الزجاج على هذا بأن قال: معنى التمييز لا يحتمل التعريفَ؛ لأنَّ التمييزَ إنما هو واحدٌ يدل على جنس أو خَلَّة يخلص من خِلال، فإذا عَرَّفته صار مقصودًا قصده، وهذا لم يقُلْهُ أحدٌ ممن تقدَّمَ (٤) من النحويين (٥).
ثم حكى أقوالًا، فحكى عن الأخفش (٦)، عن أهل التأويل، إنهم قالوا: إن المعنى: سَفَّه نفسه. وقال يونس (٧) (٨): أُراها لغةً، ذهب إلى أن
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٧٩، ونقله في "تفسير الثعلبي" ١/ ١٩٩.
(٣) ساقطة من (ش)، (م).
(٤) في (م): (من المتقدمين).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٧٩، وينظر: "التبيان" للعكبري ٩٣.
(٦) "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٤٨.
(٧) نقله عنه الأخفش في "معاني القرآن" ١/ ١٤٨.
(٨) هو يونس بن حبيب الضبي بالولاء، البصري أبو عبد الرحمن، تقدمت ترجمته.

فَعِلَ للمبالغة كفَعُلَ، فذهب في هذا مذهب أهل التأويل، قال: ويجوز على هذا سفِهتُ زيدًا (١)، بمعنى: سَفّهتُ زيدًا.
قال ابن الأنباري: لا يعرف (٢) هذا؛ لأن العرب لا تقول: سَفِهَ زيدٌ عمرًا بمعنى: سَفَّه، وحكى الزجّاج أيضًا، عن أبي عبيدة، أنه قال: معناه: أهلك نفسه، وأوبق نفسه (٣)، وهذا القول مثل ما حكى الأخفش عن أهل التأويل (٤).
وقال أبو بكر: على هذا القول أهلكت في معنى سفه معنًى، وليس بتفسير، وإذا كان كذلك لم يجز نصبُ النفس به، وإيقاعُه عليه؛ لأن سَفِهَ يخالف أهلَكَ في التعدِّي، وإن كان بمعنى خِفْتُ.
وحكى الزجّاج أيضًا عن الأخفش نفسه (٥): أن سَفِهَ نفسَه بمعنى سَفُه في نفسه، إلا أن (في) حذفت كما حُذفت حروف الجر في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، المعنى: أن تسترضعوا لأولادكم (٦)، فحذف حرف الجر من غير ظرف؛ لأن المعنى: لأولادكم، ومثله ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، أي: عليها، ومثلُه قول الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نِيئًا | ونبذُلُه إذا نَضجَ القُدُورُ (٧) |
(٢) في (ش): (نعرف).
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٥٦.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١٠.
(٥) ساقطة من (م).
(٦) ساقطة من (ش).
(٧) البيت لرجل من قيس، في "جمهرة اللغة" ص ١٣١٧، "أساس البلاغة" (غلو) =

المعنى: نغالي باللحم (١).
قال: ومثله: قول العرب: ضُرِبَ زيدٌ الظَهَر والبَطنَ، المعنى (٢): على الظهر والبطن.
قال: وهذا عندي مذهَبٌ صالح، ثم اختار أن يكون معنى سفِه نفسَه: جَهِلَ نفسه، فالمعنى والله أعلم: إلا من جهل نفسه، أي: لم يفكر في نفسه، فوضع سَفِهَ موضع جَهِل، وعُدِّى كما عُدَي (٣). وقد ارتضى هذا القول كثير من العلماء (٤)، وبه قال ابن كيسان فقال في تفسير قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾: إلا من جهِل نفسه (٥)؛ لأن من عبد حجرًا أو قمرًا أو شمسا أو صنمًا (٦) فقد جهل نفسه؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم (٧) ما يحق لله عليه. والعرب تضع سَفِهَ في موضع جَهِل، ومنه الحديث: "الكِبْرُ (٨)
(١) "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٤٨ - ١٤٩، وينظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٥.
(٢) في (ش): (والمعنى).
(٣) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢١٠، وعنده: فحذف حرف الجر في غير الظرف.
(٤) ينظر: "التبيان" ٩٣، "البحر المحيط" ١/ ٣٩٤.
(٥) الثعلبي ١/ ١٢٠٠، والبغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٢. والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤، وهو اختيار الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٢١١.
(٦) في (ش): (ضيًا).
(٧) في (م): (ولا يعلم).
(٨) في (أ) و (م): (الكبير).

أن تسفَهَ الحقَّ وتغمِصَ (١) الناسَ (٢) " أي: تجهل الحق.
ويؤيد هذا القولَ ما روي في الحديث (٣): "مَنْ عرف نفسه فقد (٤) عرف ربه" (٥). قيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنّهم أنهم يملكون الضرّ والنفع دون الله.
(٢) رواه الطبراني في "الكبير" ٢/ ٦٩، عن ثابت بن قيس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٥/ ١٣٣، في طريق عبد الله بن عمرو: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات. اهـ. ورواه أحمد ٤/ ١٣٤ عن أبي ريحانة بلفظ: "إنما الكبر من سفه الحق وغمض الناس" ورواه مسلم (٩١) كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه ولفظه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
(٣) ذكره في "تفسير الثعلبي" ١/ ١٢٠٠، وقال: كما جاء في الخبر فذكره، وينظر: "تفسير البغوي" ١/ ١٥٣.
(٤) ساقطة من (أ).
(٥) ذكره الثعلبي في "تفسيره"، وعنه البغوي ١/ ١٥٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤ قال النووي: ليس بثابت، ينظر: "المقاصد الحسنة" ص ٤٩٠ (١١٤٩)، وقال ابن تيمية: موضوع، ينظر: "المصنوع في معرفة الموضوع" ص ١٨٩ (٣٤٩)، وقال السمعاني: إنه لا يعرف مرفوعًا، ينظر: "المقاصد" ص٤٩٠، "الموضوعات" ص ٣٥١. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" ٢/ ٢٦٢: وقال أبو المظفر ابن السمعاني في "القواطع": إنه لا يُعرف مرفوعًا وإنما يُحْكى عن يحيى بن معاذ الرازي، يعني من قوله. وقال ابن الفرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت، قال: لكن كُتبُ الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث، كالشيخ محيي بن عربي، وغيره. قال: وللحافظ السيوطي فيه تأليف سماه "القول الأشبه في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربه" والكتاب ضمن الكتب الموجودة في "الحاوي للفتاوى" للسيوطي، وذكره أبو نعيم في "الحلية" ١٠/ ٢٠٨، عن سهل التستري.

وحُكي عن أبي بكر الوراق (١) أنه قال في معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقًا رازقًا بالحول والقوة (٢)، وقد أوحى الله إلى داود: كيف عرفتني، وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفتُ نفسي بالعجز والضعف والفناء، فقال: الآن عرفتني (٣). فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه، كان من جهل نفسه جهل ربه حتى يرغب (٤) عن ملة إبراهيم.
ثم بعد هذه الأقوال، قد حكي عن الخليل قول حَسَنٌ، وهو أنه قال: تجيء أفعال تتعدى إلى النفس خاصة، نحو: سَفِه نفسَه وصَبَر نفسَه، ولا يقال: سَفهتُ زيدا (٥) ولا صبرتُه، قال عنترة (٦):
فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً | ترسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ (٧) |
(٢) ذكره في "الوسيط" ١/ ٢١٤.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٥، والبغوي ١/ ١٥٣.
(٤) في (م): (حتى يذهب يرغب).
(٥) في (م): (سفهت نفسه زيدًا).
(٦) هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من أشهر فرسان العرب وشجعانهم، من أصحاب المعلقات، يعد من الطبقة السادسة لفحول شعراء الجاهلية. ينظر: "الشعر والشعراء" ص ١٤٩، "الأعلام" ٥/ ٩١.
(٧) البيت لعنترة، تقدم تخريجه [البقرة: ٤٤].

كأنها فعل واقع في هذا المكان، ولا يقولون: وجعتُ عبدَ الله، ولا خسرتُ عبدَ الله (١).
قال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ قال: خسر نفسه (٢).
وقال بعضهم: سفِه حقَّ نفسه، أي: جهِلَ (٣)، فجعله من باب حذف المضاف.
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ معنى اصطفيناه: اخترناه للرسالة، وهو افتعلنا من الصفوة، قلبت التاءُ طاءً؛ لأنها أشبه بالصاد (٤)، وتأويل: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ أخذناه صافيًا من غير شائب (٥). قال ابن عباس في معنى قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾: يريد: أنه ليس في الأرض خلق إلا وهو (٦) يذكره بخير، وينتحل دينه (٧)، وقيل: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ بالنبوة، وقيل: بالخُلّة.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، قال ابن عباس: يريدُ
(٢) ذكره الثعلبي ١/ ١١٩١، وذكره البغوي في "تفسيره" ١/ ١٥٢، والخازن ١/ ١١٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٣٩٤.
(٣) ذكره الثعلبي ١/ ١٢٠٠، عن المفضل بن سلمة عن بعضهم. وانظر: "البحر المحيط" ١/ ٣٩٤.
(٤) ينظر: "الكتاب" لسيبويه ٤/ ٢٣٩ - ٢٤٠، "تفسير الطبري" ١/ ٥٥٩، "تفسير الثعلبي" ١/ ١١٩٥، "تفسير القرطبي" ٢/ ١٢٢.
(٥) ينظر: "الوسيط" للواحدي ١/ ٢١٥.
(٦) في (م): (إلا ويذكره).
(٧) لعله من رواية عطاء.