إن قيل: إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي، بمعنى أن الميم اسم ل «مه» والعين ل «عَه»، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم، ولكن عجزتم عنه، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدة، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو: «واحد اثنان»، وهذا أصح الأقوال الثلاثة، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال:
أحدها: ما تقدم.
والثاني: أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ.
والثالث: أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ.
أو إن قيل: إنها أسماء السور المفتتحة بها، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله: الميم من «عليهم»، والصاد من «صادق»، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر: فالرفع على أحد وجهين أيضاً: إما بإضمار فعلٍ لائقٍ، تقديره: اقرءوا: «الم»، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر: [الوافر]
٩٧ - إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ | فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ |
٩٩ - نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا، أَلاَ تَاَ | قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا |
وأنشد قُطْرب: [الرجز]
١٠٠ - جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا | تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا |
الثَّامن: بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى.
قال الضَّحاك:» الألف «من الله، و» اللم «من جبريل، و» الميم «من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسلام].
التاسع: ما قاله المبرّد: واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين - أن الله - تعالى - إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار، وذلك أن الرَّسول - عليه الصلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ، أو بسورة، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفَصَاحة، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ.
العاشر: قول أبي روق وقُطْرب: إن الكفَّار لما قالوا:
﴿لاَ
تَسْمَعُواْ
لهذا
القرآن
والغوا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول. صفحة رقم 258
الحادي عشر: قول أبي العَالِيَةِ «إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين».
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يَتْلُو سورة البقرة» الم ذَلِكَ الكِتَابُ «، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب، وكَعْب بن الأَشْرَف، وسألوه عن» الم «وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نعم كذلك نزلت «، فقال حُيَيّ: إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً، فضحك رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال حُيَيّ: فهل غير هذا؟ قال:» نعم المص «فقال حُيَيّ: هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهب غير هذا؟ قال:» نعم الر «قال حُيَيّ: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً، فهل غير هذا؟ قال:» نعم «قال:» المر «قال: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوال نأخذ.
فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة، ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ [آل عمران: ٧] الآية الكريمة.
ورُوي عن ابن عَبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنا أقسام.
وقال الأخفش: أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى.
وقيل فيها غير ذلك.
واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم،
وهي أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والباء، والنون في تسع وعشرين سورة.
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد، فوردت» ص ق ن «على حرف.
و» طه وطس ويس وحم «على حرفين.
و «الم والر وطسم» على ثلاثة أحرف.
و «كهيعص وحم عسق» على خمية أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف، فكذا هاهنا.
قوله: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾
يجوز في «ذلك» أن تكون مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره، والجملة خبر «الم»، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون «الم» مبتدأ.
و «ذلك» خبره، و «الكتاب» صفة ل «ذلك»، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون «الم» نبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثانٍ، و «الكتاب» : إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له.
و «لا ريب فيه» [خبر] عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول.
ويجوز أن يكون «الم» خبر مبتدأه مضمر، تقديره: «هذا الم»، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره.
ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب فيه» هو الخبر عن «ذلك» أو يكون «الكتاب» خبراً ل «ذلك»، و «لا ريب فيه» خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ٢٠]، إذا قيل بأن «تسعى» خبر.
وأما إن جُعِلَ صفة فلا.
و «ذلك» اسم إشارة: الاسم منه «ذا»، و «اللاَّم» للبعد، و «الكاف» للخطاب، ولها ثلاث رُتَب:
دُنْيَا: ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو: «ذا وذي» و «هذا وهذي».
وَوُسْطَى: ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو «ذاك وذيك وتيك».
وقُصْوَى: ولها المتّصل ب «اللام» و «الكاف» نحو: «ذلك وتلك».
ولا يجوز أن تأتي ب «اللام» إلاّ مع «الكاف»، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع «اللاَّم»، فيمتنع للطول.
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين: دُنْيَا وغيرها. واختلف النحويون في «ذا» هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟
الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب «حيي»، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب «غويت» ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين.
وأيَّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه: [الطويل]
١٠١ - أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ | تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا |
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ.
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان: إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة «البقرة» صفحة رقم 261
سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة «البقرة» فقال: «ذلك الكتاب» يعني ما تقدّم «البقرة» من السّور لا شك فيه.
قال ابن الخَطِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد.
بيانه: أن «ذلك» و «هذا» حرف إشارة، وأصلهما «ذا» لأنه حرف الإشارة، قال تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي﴾ لبقرة: ٢٤٥].
ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي: تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل «الكاف» على «ذَا» للمخاطبة، و «اللام» لتأكيد معنى الإشارة، فقيل: «ذلك»، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة «ذلك» لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر.
قال تعالى: ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ [ص: ٤٥]، إلى قوله: ﴿وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾ [ص: ٤٨] ثم قال: ﴿هذا ذِكْرٌ﴾ [ص: ٤٩] وقال: ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ [ص: ٥٢ - ٥٣].
وقال: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩].
وقال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى﴾ [النازعات: ٢٤ - ٢٥].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً﴾ [الأنبياء: ١٠٦].
وقال: ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾ [البقرة: ٧٣] [أي هكذا يحيي الموتى].
وقال: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾ [طه: ١٨] أي ما هذه التي بيمينك.
و «الكتاب» في الأصل مصدر؛ قال تعالى: ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر: [الطويل]
١٠٢ - بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً | أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا |
١٠٣ - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ | كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ |
١٠٤ - وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا | مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ |
١٠٥ - لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ | عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ |
قال ابن الخطيب: «واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: ٢٩].
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه:
أحدها: الفرض ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص﴾ [البقرة: ١٧٨] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣]، ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء: ١٠٣].
ثانيها: الحُجَّة والبُرْهان: ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الصافات: ١٥٧] أي: بِبُرْهانكم وحجّتكم.
ثالثها: الأَجَل: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] أي: أَجَل.
رابعها: بمعي مُكَاتبة السيد عبده: ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور: ٣٣] وهذا المصدر» فِعَال «بمعنى» المُفَاعلة «كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى: المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة. صفحة رقم 263
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء:
أحدها: الكِتَاب كما تقدم.
وثانيها: القُرْآن: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً﴾ [الزخرف: ٣]، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥].
وثالثها: الفُرْقَان: ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان﴾ [الفرقان: ١].
ورابعها: الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠]، ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الحاقة: ٤٨] وقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥].
وخامسها: التَّنْزِيل: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٩٢].
وسادسها: الحديث: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣].
وسابعها: المَوْعِظَة: ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [يونس: ٥٧].
وثامنها: الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ [الرعد: ٣٧]، ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ [القمر: ٥]، ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ [يس: ١ - ٢]، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١].
وتاسعها: الشِّفَاء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ﴾ [الإسراء: ٨٢].
وعاشرها: الهُدَى، والهَادِي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، ﴿قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد﴾ [الجن: ١ - ٢].
وذكروا له أسماء أُخَر منها:
» الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك «.
قوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه.
قال بعضهم: هو خبر بمعنى النّهي، أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا.
قرأ ابن كثير:» فِيهِ «بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ
كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص في قوله: ﴿فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان: ٦٩] فأشبعه.
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و» لا «نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها.
«إنَّ»، واسمها معرب ومبني:
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو «من» الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر: [الطويل]
١٠٦ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ | فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ |
١٠٧ - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً | يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ |
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو: طلا خيراً من زيد «، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله: [الطويل]
١٠٨ - تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ | بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ |
١٠٩ - أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ | نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ |
١١٠ - لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ... وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:» لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ، إذا هلك كِسْرَى، فلا كسرى بَعْدَه «فمؤوَّل.
و» رَيْبَ «اسمها، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو» فيه «إلاّ أن بني» تميم «لا تكاد تذكر خبرها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريب كائن، ويكون الوَقْفُ على» ريب «حينئذ تامَّا، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها، قالوا:» لا عليك «أي: لا بأس عليك.
ومذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ: أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء، ولا عمل لها في الخبر.
ومذهب الأخفش: أن اسمها في مَحَلّ رفع، وهي عاملة في الخبر.
ولها أحكامٌ كثيرة، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو. صفحة رقم 266
واعلم أن» لا «لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين:
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل» ليس «، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧].
و» الرَّيْب «: الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك: [الخفيف]
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري:» قلق النفس واضطرابها «.١١١ - لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
ومنه الحديث:» دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك «.
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال:» لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ «.
فليس قول من قال:» الرَّيب الشك مطلقاً «بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم.
وقال بعضهم: في» الرّيب «ثلاثة معانٍ:
أحدها: الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى: [الخفيف]
١١٢ - لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ...........................
وثانيها: التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ: [الطويل]
١١٣ - بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي... فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها: الحاجات؛ قال: [الوافر]
١١٤ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ | وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا |
فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي: حوادثه، قال تعالى: ﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ [الطور: ٣٠] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر: [الوافر]
١١٥ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ.....................
قلنا: هذا يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ المراد منه: نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته، صفحة رقم 268
ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣].
فإن قيل: لم تأت، قال ها هنا: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» وفي موضع آخر: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] قلنا: لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب.
ولو قلت: «لا فيه ريب» لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا، كما قصد في قوله تعالى ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل: من أين يدلّ قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله: «لا ريب» نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا: «لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وقرأ أبو الشعثاء: «لاَ رَيْبُ فِيهِ» بالرفع، وهو نقيض لقولنا: «ريب فيه»، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض.
والوقف على «فيه» هو المشهور.
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على «ريب»، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: ﴿لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء: ٥٠] وقول العرب: «لا بأس».
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا: إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه.
الجواب: [المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب
فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.
وقيل: في الجواب وجوه أخر:
أحدها: أن النفي كونه متعلقاً للريب، المعنى: أنه منعه من الدلالة، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر، فريبه غير معتدّ به.
والثاني: أنه مخصوص، والمعنى: لا ريب فيه عند المؤمنين.
والثالث: أنه خبر معناه النهي. والأول أحسن.
قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾. يجوز فيه عدة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا: إن خبر «لا» محذوف.
وإن قلنا: «فيه» خبرها، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر «لا»، تقديره: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو هدى، وأن يكون خبراً ثانياً ل «ذلك»، على أن يكون «الكتاب» صفةً أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب» خبر أول، وأن يكون خبراً ثالثاً ل «ذلك»، على أن يكون «الكتاب» خبراً أول، و «لا ريب»، خبراً ثانياً، وأن يكون منصوباً على الحل من «ذلك»، أو من «الكتاب»، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «فيه»، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ، وجعله حالاًَ مما تقدم: إما على المُبَالغة، كأنه نفس الهُدَى، أو على حذف مضاف، أي: ذا هُدَى، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً، أو صفة، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة، أرجحها الأول.
وأجازوا أن يكون «فيه» صفةً ل «ريب»، فيتعلّق بمحذوف، وأن يكون متعلقاً ب «ريب»، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً، واسم «لا» إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه «ريب» لا لنفس «ريب».
وقد تقدّم معنى الهدى «عند قوله تبارك وتعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦].
و» هُدّى «مصدر على وزن» فُعَل «فقالوا: ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا» سُرّى «و» بُكّى «و» هُدّى «، وجاء غيرها، وهو» لَقِيتُهُ لُقًى «؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
١١٦ - وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ | بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا |
١١٧ - سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ | فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ |
١١٨ - فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ | بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ |
الأول: بمعنى» البَيَان «قال تعالى: ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] أي: على بيان، ومثله، ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] أي: لتبين، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] أي: بَيَّنَّا لهم.
الثاني: الهُدَى: دين الإسلام، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ [آل عمران: ٧٣] أي: دين الحق هو دين الله.
وقوله: ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى﴾ [الحج: ٦٧] أي: دين الحق.
الثالث: بمعنى» المَعْرِفَة «قال تعالى: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦] أي: يعرفون، وقوله تعالى: ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١] أي: أتعرف.
الرابع: بمعنى» الرسول «قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ [البقرة: ٣٨] أي: رسول.
الخامس: بمعنى «الرشاد» قال تعالى: ﴿واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ [ص: ٢٢] أي أرشدنا.
وقوله: ﴿عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾ [القصص: ٢٢].
وقوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط﴾ [الفاتحة: ٦].
السادس: بمعنى: «القرآن» قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى﴾ [النجم: ٢٣] أي: القرآن.
السابع: بمعنى: بعثة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي﴾ [الشورى: ٥٢].
الثامن: بمعنى «شرح الصدور» قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ [الأنعام: ١٢٥].
التاسع: التوراة، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى﴾ [غافر: ٥٣] يعني: التوراة.
العاشر: «الجنة» قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ﴾ [يونس: ٩] أي: يدخلهم الجنة.
الحادي عشر: «حج البيت» قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] أي الحج.
الثاني عشر: «التوبة» قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾ [يوسف: ٥٢] أي: لا يصلح.
الثالث عشر: «التوبة» قال تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] أي: تُبْنَا ورجعنا.
فصل في المقصود بالهدى
قال ابن الخطيب «رضي الله تعالى عنه» : الهُدَى عبارة عن الدلالة.
وقال صاحب «الكشاف» : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية.
وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال، وقد ثبت صفحة رقم 274
الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء. واحتج صاحب «الكشَّاف» بأمور ثلاثة:
[أوّلها] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى، قال تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦]، وقال تعالى: ﴿قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤].
وثانيها: يقال: مهديّ في موضع المدح كالمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يَهْتَدِ.
وثالثها: أن «اهتدى» مطاوع «هَدَى» يقال: هَدَيْتُه فَاهْتَدَى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم «الهدى».
والجواب عن الأوَّلِ: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل «الهدى» هو «الإضلال» ومقابل «الاهتداء» هو «الضلال» فجعل «الهدى» في مقابلة «الضلال» ممتنع. وعن الثاني: المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.
وعن الثالث: أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد.
ومما يدل علة فساد قول من قال: الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتَّقى، والوقاية: فرط الصيانة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: التقيّ: من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحجز بين شيئين. صفحة رقم 275
وفي الحديث: «كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».
أي: إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار: «حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشَمّرت، قال كعب: ذلك التَّقوى». وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
وقال ابن عمر: التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد.
وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
فروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه قال: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ». وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه.
واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ [الفتح: ٢٦] أي: التوحيد ﴿أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ [الحجرات: ٣]، ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: ١١] أي: لا يؤمنون.
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا﴾ [الأعراف: ٩٦]، ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون﴾ [المؤمنون: ٥٢].
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى: ﴿وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله﴾ [البقرة: ١٨٩] أي: فلا تعصوه.
وتارة الإخلاص كقوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ [الحج: ٣٢] أي: من إخلاص القلوب.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟
والجواب: أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال:
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] وقال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ [يس: ١١].
وقد كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره.
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين.
السّؤال الثاني: كيف وصل القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى؟
الجواب: أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى.
السؤال الثالث: كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة
النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي
العموم، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع، وصفاته، وإثبات النبوة، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم.
السّؤال الرابع: الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، ويؤيد هذا قوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال.