
الرد على من نسب الولد إلى الله تعالى
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
الإعراب:
إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. هَدًّا، أَنْ دَعَوْا ٩: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ: كاد واسمها وخبرها وصف منصوب لقوله تعالى: إِدًّا. وهَدًّا: منصوب على المصدر، وأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً: في موضع نصب على المفعول لأجله، أي: وتخر الجبال هدّا لأن دعوا للرحمن ولدا. ويصح جعله مرفوعا بأنه فاعل: هَدًّا أو مجرورا بدلا من هاء مِنْهُ.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ... كُلُّ: مبتدأ، وآتِي: خبره، ووحّده حملا على لفظ كل. وقد يحمل على المعنى مثل: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل ٢٧/ ٨٧].
وعَبْداً: حال من ضمير آتِي وهو عامله، وهو اسم فاعل من آتِي يقال: أتى فهو آت.
البلاغة:
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا التفات إلى الخطاب للمبالغة في الذم، وتسجيل الجرأة على الله عليهم.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله. جِئْتُمْ فعلتم.

إِدًّا منكرا عظيما. والإدّة: الشدة. يقال: أدّني الأمر وآدني: أثقلني وعظم علي.
يَتَفَطَّرْنَ يتشققن مرة بعد أخرى، التفطر: التشقق. وَتَخِرُّ تسقط وتنهدم. هَدًّا أي تهدّ هدّا أو مهدودة. والمعنى: أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصوّر بصورة محسوسة، لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفتّت من شدتها.
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي ما يليق به ذلك. إِنْ كُلُّ... ما كل.
عَبْداً منقادا خاضعا ذليلا يوم القيامة. لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وأحاط بهم، فلا يخرجون عن علمه وقدرته. وَعَدَّهُمْ عَدًّا عدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم، فإن كل شيء عنده بمقدار.
فَرْداً منفردا بلا مال ولا نصير.
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا كاليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله:
وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠]، وبعض مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وكل ذلك إفك مفترى.
التفسير والبيان:
وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي وقال الكفار (اليهود والنصارى والمشركون من العرب الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله) :
إن الله اتخذ ولدا، فردّ الله تعالى عليهم: لقد جئتم بهذا القول شيئا منكرا، وقلتم قولا عظيم الجرم والإثم. والإدّ: الداهية والأمر المنكر الشنيع الفظيع.
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أي تقارب السموات أن تتشقق منه، وأن تتصدع وتخسف الأرض، وتسقط بصوت شديد، وتنهدم الجبال هدما شديدا تتضعضع منه، لشدة نكرانه، إعظاما للربّ وإجلالا، لأنهن مخلوقات على توحيده، وأنه لا شريك له ولا نظير ولا ولد

ولا صاحبة. قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال، وجميع المخلوقات إلا الثقلين (الإنس والجن)، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم، وشاك الشجر، واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً.
وهذا تهويل عظيم، وأنه موجب غضب الله وسخطه، ولكن لولا حكمة الله وحلمه وأنه لا يبالي بكفر الكافر، لقامت القيامة، واستؤصل الكفار.
وسبب ذلك:
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي لأجل أنهم نسبوا الولد إلى الله، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد، لجلاله وعظمته، فإن هذا نقص، يتعالى الله ويتنزه عنه لأن جميع الخلائق عبيد له.
لهذا قال مؤكدا إنكار هذه الفرية:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن لا بدّ له أن يأتي إلى الله يوم القيامة مقرّا بالعبودية، خاضعا ذليلا، معلنا أنه مملوك لله، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا له؟! لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي قد علم الله عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها، فهم تحت سلطانه وأمره وتدبيره، وكل شيء عنده بمقدار، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة، لا ناصر له ولا مال معه، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له،

فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وقوله وَعَدَّهُمْ عَدًّا تأكيد لما سبق.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع هذه الآيات: تقرير التوحيد، وإثبات العبودية الخالصة لله، وإنكار اتخاذ الله ولدا: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٤].
ومع هذا زعم اليهود والنصارى وبعض العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله: أن لله ولدا، وحاشا لله أن يتخذ ولدا، إذ لا حاجة به إليه، وهو منزه عن النقص والشريك والنظير والولد، وتعدّ هذه المقالة منكرا عظيما، وأمرا فظيعا، وجرما شنيعا.
حتى لتكاد تزول الأكوان، فتنشق السموات، وتتصدع الأرض، وتسقط الجبال بصوت شديد، رفضا لهذا القول، وإنكارا له، وغضبا لله عزّ وجلّ لأنها خلقت وأسست على الإقرار بتوحيد الله ولأن الولد يقتضي الحدوث، ولا ولد إلا من والد، والله سبحانه تعالى تنزه عن ذلك وتقدس.
وما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرّا لله بالعبودية، خاضعا ذليلا، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل ٢٧/ ٨٧] أي ذليلين صاغرين لأن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولدا له عزّ وجلّ؟ تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وهذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد، فإن الله تعالى أبان المنافاة بين الأولاد والملك، فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات، عتق عليه