
وَالْعَدُّ: الْحِسَابُ.
وإِنَّما لِلْقَصْرِ، أَيْ مَا نَحْنُ إِلَّا نَعُدُّ لَهُمْ، وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ نَعُدُّ لَهُمْ وَلَسْنَا بِنَاسِينَ لَهُمْ كَمَا يَظُنُّونَ، أَوْ لَسْنَا بِتَارِكِينَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى يَوْمٍ مَوْعُودٍ.
وَأَفَادَتْ جُمْلَةُ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (إنّ) و (مَا) وَإِنَّ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدُّ مَجَازًا فِي قَصْرِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ وَيُحْسَبُ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ باقتراب استئصالهم.
[٨٥- ٨٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٨٥ إِلَى ٨٧]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
إِتْمَامٌ لِإِثْبَاتِ قِلَّةِ غِنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مَرْيَم: ٨٢].
فَجُمْلَةُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ هُوَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
وَالظَّرْفُ وَمَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَيْهِ إِدْمَاجٌ بُيِّنَتْ بِهِ كَرَامَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَةُ الْكَافِرِينَ. وَفِي ضِمْنِهِ زِيَادَة بَيَان لجملة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا بِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبَ سَوْقِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا وَمُخالَفَتِهِمْ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ. فَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ

وَضَمِيرُ لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ لِلْآلِهَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوا مَنِ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا.
وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ مُطْلَقًا، يَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الشَّرِ كَقَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٢، ٢٣]، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ فِعْلَ نَحْشُرُ بِقَيْدِ وَفْداً، أَيْ حَشْرَ الْوُفُودِ إِلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْوُفُودَ يَكُونُونَ مُكْرَمِينَ، وَكَانَتْ لِمُلُوكِ الْعَرَبِ وَكُرَمَائِهِمْ وُفُودٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَلِأَعْيَانِ الْعَرَبِ وِفَادَاتٌ سَنَوِيَّةٌ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَسَادَتِهِمْ، وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ وِفَادَةٌ، وَفِي الْمَثَلِ: «إِنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ الْبَرَاجِمِ». وَقَدِ اتَّبَعَ الْعَرَبُ هَذِهِ السُّنَّةَ فَوَفَدُوا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ السَّادَةِ.
وَسَنَةُ الْوُفُودِ هِيَ سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ تَلَتْ فَتْحَ مَكَّةَ بِعُمُومِ الْإِسْلَامِ بِلَادَ الْعَرَبِ.
وَذِكْرُ صِفَةِ الرَّحْمنِ هُنَا وَاضِحَةُ الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَفْدِ.
وَالسَّوْقُ: تَسْيِيرُ الْأَنْعَامِ قُدَّامَ رُعَاتِهَا، يَجْعَلُونَهَا أَمَامَهُمْ لِتَرْهَبَ زَجْرَهُمْ وَسِيَاطَهُمْ فَلَا تَتَفَلَّتُ عَلَيْهِمْ، فَالسَّوْقُ: سَيْرُ خَوْفٍ وَحَذَرٍ.
وَقَوْلُهُ وِرْداً حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّشْبِيهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ جَامِدَةً لِأَنَّ مَعْنَى التَّشْبِيهِ يَجْعَلُهَا كَالْمُشْتَقِّ.
وَالْوِرْدُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-: أَصْلُهُ السَّيْرُ إِلَى الْمَاءِ، وَتُسَمَّى الْأَنْعَامُ الْوَارِدَةُ وِرْدًا تَسْمِيَةً عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ ذَاتَ وِرْدٍ، كَمَا يُسَمَّى الْمَاءُ الَّذِي يَرِدُهُ الْقَوْمُ وِرْدًا. قَالَ تَعَالَى:
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: ٩٨].
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ يَوْمئِذٍ مَنِ اتخذ عِنْد الرحمان عَهْدًا، أَيْ مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَشْفَعَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ.