
ثم قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾.
أي: وهبنا لموسى - رحمة منا له - أخاه هارون نبياً. اي: أيدناه بنبوته.
قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد أنه وهب له نبوته.
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾.
المعنى: واقصص عليهم يا محمد، نبأ إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، أي: لا يخلف وعده.
قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها.
وقيل: إن هذا مما يدل على أنه هو الذبيح، لأنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فصبر حتى فداه الله.
قال سهل بن عقيل: وعد إسماعيل رجلاً مكانه أن يأتيه، فجاءه إسماعيل، ونسي الرجل، وظن أنه قد اشتغل، فبات إسماعيل في المكان حتى جاء الرجل من الغد. فقال له الرجل: ما برحت من ها هنا؟ فقال إسماعيل: لا والله. فقال الرجل: إني

نسيت. فقال إسماعيل إني لم أكن لأبرح حتى تأتينَي، فذلك قوله " كان صادق الوعد ".
وروي أن إبليس اللعين تمثّل له، فوقع بينهما موعد ألا يبرح إسماعيل حتى يعود إليه. فكان في اعتقاد إسماعيل أن ينتظر سنة فأتاه جبريل ﷺ فأعلمه أنه إبليس، فذهب وأرسله الله إلىجرهم.
وقوله: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة﴾.
يعني أمته كلها، ذات نسب وغير ذات نسب.
﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ /.
أي: محمداً فيما كلفه، غير مقصر. و " مرضي " مفعول، والأصل فيه عند سيبويه. " مرضو ". ولكن أبدلوا من الواو لأنها أخف، ولأنها واو قبلها ضمة، وليس ذلك في كلامهم فأبدل ولم يعتد بالساكن الذي قبل الواو المضمومة. ومثله قولهم مسنية، أصلها مسنوة.
وقال الكسائي والفراء: من قال: " مرضى " بناه على رضيت وقالا وأهل

الحجاز يقولون " مرضو ". وحكايا أنَّ من العرب من يُثني رضا على رضوان، ورضيان، وربوان، وربيان.
فمرضي على رضيان. ومرضو على رضوان.
ولا يعرف البصريون في التثنية إلا رضوان بالواو. وربوان بالوا.
ثم قال تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾.
أي: واقصص نبأ إديس، إنه كان لا يقول إلا الحق فيما يوحى إليه، وفي غيره " نبيئاً " تنبأه الله.
كان إدريس خياطاً، وكان كلما وخز وخزة بالإبرة سبّح الله وهو أول من خاط الثياب، وبينه وبين آدم خمسة آباء.
ثم قال: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ قال كعب: أوحى الله إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدراً، فلكم ملك الموت في الذي كلّمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ فقال هو ذا على ظهري.
فقال ملك الموت: فالعجب، بعثت، وقيل لي: اقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض، فجلعت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في

الأرض. فقبض روحه هناك، فذلك قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾.
وقيل: إن الله جلّ ذكره جعله في السماء الرابعة قاضياً كالملك في وسط ملكه وجعل خزائن السموات بيده.
وقيل: رفع إلى السماء السادسة.
وقال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى.
وقال مجاهد: وقتادة: رف إلى السماء الرابعة.
وروى قتادة عن أنس أن النبي ﷺ قال لما عرج به إلى السماء، قال: " أتيت على إدريس في السماء الرابعة ".
وقيل: ﴿مَكَاناً عَلِيّاً﴾ عنى به في النبوة والعلم.

وسأل ابن عباس كعباً عن إدريس وما يجد من خيرة في التوراة فقال: إن في كتاب الله أن إدريس كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله عمل جميع أهل الارض. فأستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه، فأذن الله له أن يؤاخيه، فسأله إدريس؟ أي أخي، هل بينك وبين ملك الموت إخاء؟ قال: نعم، ذلك أخي دون الملائكة، وهم متآخرون كما يتآخى بنو آدم فقال: هل لك أن تسأله كم بقي من عمري لكي أزداد في العمل؟.
قال إن شئت سألته وأنت تسمع. قال: فحمله الملك تحت جناحيه حتى سعد به إلى السماء [فقال لملك الموت] أي أخي، كم بقي من أجل إدريس؟ فقال: ما أدري حتى أنظره قال: فنظر فقال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من أجله إلا طرفة عين. فنظر الملك تحت جناحه، فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر. ذكر ذلك ابن وهب.

وروى ابن وهب أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إن إدريس أقدم من نوح، بعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله ويعملوا بما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله.
وروى أن ادريس سَار ذات يوم في حاجته فأدركه وهج الشمس فقال: يا رب، إني مشيت في الشمس يوماً. فآذاني حرّها، فكيف بمن يحملها مسيرة خمس مائة عام في يوم واحد، اللهم خفف عن من يحملها، واحملعنه حرها. فلما أصبح الملكم، وجد خفة فسأل الله عن ذلك، فأعلمه أن إدريس دعا له في ذلك، فسأل الله أن يجمع بينه وبينه، وأن يجعل بينه وبينه خلة، فأذن الله له في ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾.
المعنى: أولئك الذين قصصت عليك، أنبأهم، هم الذي أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء ﴿مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ﴾. يعني إدريس. و ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ (أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في الفلك، يعني: إبراهيم).
﴿وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ﴾ يعني من ذرية إبراهيم وإسماعيل من ذرية إبراهيم، ومن ذريته أيضاً هارون وموسى، وزكريا، وعيسى، وأمه.
﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ للإيمان والعمل الصالح.

﴿واجتبينآ﴾ أي: واصطفيا للرسالة والواحي.
ثم قال تعالى: ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن﴾.
أي: أدلته وحججه التي أنزلها في كتابه.
﴿خَرُّواْ سُجَّداً﴾ أي خضعاً.
﴿وَبُكِيّاً﴾ أي باكين. فبكى يجوز أن يكون مصدراً لبكى يبكي بكياً. بمعنى: بكاء. ويكون أصله بكوياً. كجلس يجلس جلوسا. ثم نقل ورد إلى الياء، على أصل اجتماع الواو والياء. والأول ساكن، وبكسر ما قبلها، لأنه ليس من كلامهم ياء سكانة قبلها ضمة، من كسر أوله، اتبع الكسر الكسر والياء. ويجوز أن يكون جمع باكٍ على فعول، كما قالوا شاهدوا وشهود. فأما العتي والجثي فهما جمع جاث وعات على فعول، ثم غير ما تقدم في " مرضي ". لأن لامه واو. فهو مخالف لبكياً. إذ لامه ياء، ولام جثياً وعتياً واو، لأن ذلك من بكى يبكي، وهذين من جثا يجثو،