
موسى في هارون أن يكون نبيا، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يبلغ رسول مرتبة أولي العزم إلا بمقومات عالية، وخصائص فريدة رفيعة، وهذه بعض خصائص موسى وصفاته، أخلصه ربه واختاره، فكان مخلصا لله في عبادته، بعيدا عن الشرك والرياء، وجعله رسولا بشرع وكتاب ونبيا من الصالحين، وكلّمه ربه من غير وحي، وناجاه من جانب الطور، في البقعة المباركة، عند الشجرة، عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر.
وقربه إليه ربه تقريب تشريف وإجلال، حالة كونه مناجيا حضرة الله تعالى، مثل تقريب الملك لمناجاته، وأنعم عليه مجيبا سؤاله ودعاءه بجعل أخيه هارون الأكبر منه سنّا نبيا ورسولا، وتلك نعمة كبري على الأخوين، إذ آزرهما ببعضهما، وجعلهما متعاضدين متعاونين في تبليغ الرسالة الإلهية إلى فرعون وآله وإلى بني إسرائيل.
قصة إسماعيل عليه السلام
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
الإعراب:
مَرْضِيًّا خبر كان، وأصله «مرضويا» فأبدلوا من الضمة كسرة، ومن الواو ياء، على لغة من ثنى «الرضا» «رضوان». ومن قال: «رضيان» كان من ذوات الياء، وأصله «مرضوي» فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، فقلبوا الواو ياء، وأدغموا الياء في الياء، وكسروا ما قبل الياء مناسبة لها.

المفردات اللغوية:
صادِقَ الْوَعْدِ ذكره بالمشهور به، فلم يعد شيئا إلا وفي به، وانتظر من وعد ثلاثة أيام، أو حولا، حتى رجع إليه في مكانه. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا إلى قبيلة جرهم. وهو يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته.
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ قومه، اشتغالا بما هو الأهم، وهو أن يعنى الإنسان بتكميل نفسه ومن هو أقرب الناس إليه أولا، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٤]، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه ٢٠/ ١٣٢]، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم ٦٦/ ٦]. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم ١٩/ ٥٥] لاستقامة أقواله وأفعاله، والمرضي عند الله: الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات.
المناسبة:
هذه هي القصة الخامسة في سورة مريم، وهي قصة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان على شريعة أبيه في توحيد الله ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام، وإبراهيم كما عرفنا أبو العرب يمنيها ومضريها. قال الزمخشري: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة، ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس.
وقدم الله تعالى قصة موسى عليه السلام على قصة إسماعيل عليه السلام، لينسجم الكلام عن يعقوب وبنيه دون فاصل بينهما.
أضواء على قصة إسماعيل الذبيح:
رأى إبراهيم عليه السلام في منامه- ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ولده قربانا لله تعالى، وكان ذلك الولد على الأصح الراجح إسماعيل، فعرض الأمر على ولده، فتقبل القضاء بالرضا وقال: يا أَبَتِ، افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات ٣٧/ ١٠٢].

فلما بدأ بتحقيق الأمر، وأهوى بالمدية إلى ذبح ولده، ناداه الله بالكفّ، وأن هذا العمل منه يكفي تصديقا للرؤيا، ورأى إبراهيم كبشا قريبا منه، فذبحه فدية عن ولده، ولم تعين الآيات اسم ذلك الولد، ولكن سياق الآيات، وتبشير إبراهيم بإسحاق بعدها، يدل على أن الذبيح إسماعيل، وذلك في الآيات من سورة الصافات [٩٩- ١١٣]، وفيها: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [١٠١]، ثم قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [١٠٨]، والضمير يعود إلى الذبيح. ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [١١٢]، فالإتيان بالبشرى بإسحاق بعد ذكر قصة الذبيح صريح في أن إسحاق غير الغلام المأمور بذبحه، وعود الضمير إلى الغلام الذبيح، وذكر اسم إسحاق معه صريحا يقتضي التغاير بين الذبيح وإسحاق.
ويرى اليهود أن إسحاق هو الذبيح ليفتخروا بأن أباهم هو الذي جاد بنفسه في طاعة ربه، وهو في حالة صغره.
والدليل على أن الذبيح إسماعيل من التوراة نفسها: أن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد، والإقدام على ذبح الولد الوحيد هو الإسلام بعينه، أي الطاعة والامتثال، ولم يكن إسحاق وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام لأن إسحاق ولد، ولإسماعيل أربع عشرة سنة، كما هو صريح التوراة، وبقي إسماعيل إلى أن مات إبراهيم، وحضر إسماعيل وفاته ودفنه. وذبح إسحاق يناقض وعد الله لإبراهيم أن سيكون له ابن هو يعقوب. ثم إن مسألة الذبح وقعت في مكة وإسماعيل هو الذي ذهب به أبوه إليها رضيعا، كما في حديث البخاري الآتي «١»،
وعند الزمخشري في الكشاف حديث: «أنا ابن الذبيحين» رواه الحاكم في المناقب.

إسماعيل وأمه هاجر في مكة:
لم يبن بمكة شيء بعد البيت إلا في القرن الثاني قبل الإسلام، في عهد قصي بن كلاب، فإنه بنى دار الندوة، وتبعته قريش في البناء حول المسجد.
جاء في البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، حتى بلغ يَشْكُرُونَ.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال:
يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات».
قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما».
فلما

أشرفت على المروة، سمعت صوتا، فقالت: صه- تريد نفسها، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال: بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم- أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينا معينا».
وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. إلخ الحديث.
بناء البيت:
كان إبراهيم عليه السلام يزور ولده إسماعيل حينا بعد آخر، ففي إحدى هذه الزيارات أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، فصدعا بالأمر وبنيا الكعبة. ولما تمّ بناؤها أمره الله تعالى أن يعلم الناس بأنه بنى بيتا لعبادة الله تعالى وأن عليهم أن يحجوه، وطلب إبراهيم وإسماعيل من الله تعالى أن يريهما المناسك التي ينسكانها. والآيات التي توضح ذلك: [البقرة ٢/ ١٢٥- ١٢٩]، [إبراهيم ١٤/ ٣٥- ٣٧]، [الحج ٢٢/ ٢٦- ٣٧].
والكعبة: أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى [آل عمران ٣/ ٩٦- ٩٧].
حياة إسماعيل وأولاده:
لإسماعيل اثنا عشر ولدا رؤساء قبائل، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، مات بمكة، ودفن بالحجر بجواز البيت هو وأمه.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ واذكر أيها الرسول في القرآن خبر وصفات

إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم، وهي صفات أربع:
١- إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ مشهورا بالوفاء، مبالغا بإنجاز ما وعد، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به، فكان لا يخالف شيئا مما يؤمر به من طاعة ربه، وإذا وعد الناس بشيء أنجز وعده، وناهيك من صدق وعده أنه وعد أباه أن يصبر على الذبح، فوفّى بذلك، قائلا: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات ٣٧/ ١٠٢].
وصدق الوعد من الصفات الحميدة في كل زمان ومكان، وخلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف ٦١/ ٢- ٣]،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»
، وإذا كانت هذه صفات المنافقين فضدها صفات المؤمنين، ومما يؤسف له أن خلف الوعد شائع بين المسلمين، وبخاصة التجار والعمال وأصحاب الحرف.
٢- وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا جمع الله له بين الوصفين كأبيه وكموسى عليهم السلام، فكان رسولا إلى جرهم في مكة، لتبليغهم شريعة إبراهيم، وإخبارهم بما أنزل الله تعالى، وهذا دليل على أنه لا يشترط إنزال كتاب مستقل على الرسول. وفي هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة،
وأخرج الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل».
٣- وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي وكان يأمر أمته وعشيرته وأهله بهاتين العبادتين الشرعيتين المهمتين جدا، فكان صابرا على طاعة ربه، كما

قال تعالى لرسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٤]، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه ٢٠/ ١٣٢]، وقال سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم ٦٦/ ٦].
وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل، فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء».
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه- واللفظ له- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات».
٤- وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي رضيا زاكيا صالحا، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه، فعلى المؤمن الاقتداء به.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مجموعة خصال أخرى لرسول نبي هو إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والأظهر أن الذبيح هو وليس إسحاق كما تقدم في سورة الصافات.
خصة الله تعالى بصدق الوعد، وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما، ولأنه كان مشهورا بذلك مبالغا في الوفاء بالوعد. وهو كما تقدم صفة حميد،
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود، وهو ضعيف: «العدة دين».
وإيجاب الوفاء من محاسن المروءة وموجبات الديانة، لكن لا يلزم قضاء، فليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر بن عبد البر: أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء، أي لا يقتسم مع الدائنين العاديين الآخرين ما يوجد من أموال المدين لأن ما وعد به لا يصبح دينا.