آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

تقريع على نسبة الولد والشريك إلى الله تعالى
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
البلاغة:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ؟ الهمزة للإنكار والتوبيخ.
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ وارد على سبيل الفرض والاحتمال.
المفردات اللغوية:
أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم وخصكم يا أهل مكة، والإصفاء: جعله خالصا له إِناثاً بنات لنفسه بزعمكم لَتَقُولُونَ بذلك قَوْلًا عَظِيماً عظيم الإنكار، بإضافة الأولاد إليه صَرَّفْنا بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا يتعظوا ويتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وما يزيدهم ذلك إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، والنفور: البعد عن الشيء.
قُلْ لهم أي للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع الله لَابْتَغَوْا طلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ أي الله سَبِيلًا طريقا، وللكلام معنيان: الأول- هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى، لغلب بعضهم بعضا، والثاني- لو كانت هذه الأصنام كما تقولون أيها الكفار من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى، وسبيلا إليه، وأعدت لأنفسها المراتب العالية، فلما لم تقدر على اتخاذ سبيل لأنفسها إلى الله، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله؟!

صفحة رقم 81

سُبْحانَهُ تنزيها له وَتَعالى تعاظم عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء. عُلُوًّا كَبِيراً تعاليا متباعدا غاية البعد عما يقولون، فإنه في أعلى مراتب الوجود، وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته، وأما اتخاذ الولد فمن أدنى مراتبه، فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
تُسَبِّحُ لَهُ تنزهه وَإِنْ ما مِنْ شَيْءٍ من المخلوقات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إلا ينزهه تنزيها مقترنا بحمده، فيقول: سبحان الله وبحمده لا تَفْقَهُونَ لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لأنه ليس بلغتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم، غفورا لمن تاب منكم.
المناسبة:
بعد أن حذر الله تعالى من الشرك، نبّه إلى جهل من أثبت لله شريكا، وندّد بالمشركين وقرّع الذين أثبتوا لله ولدا، وجعلوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بعجزهم ونقصهم، ونسبوا البنات لله، مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له، مما يدل على نهاية جهلهم.
ثم أبان أنه ضرب في القرآن الأمثال للناس ليتدبروا ويتأملوا فيها، وذكر أنه لو كانت هذه الأصنام تقرب إلى الله زلفى، لطلبت لنفسها القربة إلى الله، ولكنها لم تفعل ذلك، فبان خطؤهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله، وتبين إبطال تعدد الآلهة، وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له، لأن كل ما في الكون تدل أحواله على توحيد الله وتقديسه وعزته، ولكنكم بسبب الجهل والغفلة لا تدركون دلالة تلك الأدلة.
التفسير والبيان:
بعد أن فند الله تعالى زعم من نسب لله شريكا، شنع هنا على من نسب له الولد، وردّ الله تعالى في هذه الآية على المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، مقرعا لهم ومنكرا عليهم، ومبينا خطأهم العظيم قائلا: أيكرمكم ربكم فيخصكم بالذكور من الأولاد، ويختار لنفسه على

صفحة رقم 82

زعمكم البنات، وأنتم تئدوهن ولا ترضونهن لأنفسكم. ثم يشدد الإنكار عليهم قائلا: إنكم في زعمكم أن لله ولدا، وهو من الإناث اللاتي تأنفون أن يكن لكم، لتفترون على الله الكذب، وتقولون على الله قولا عظيما إثمه، موجبا العذاب عليكم، منافيا لأبسط مبادئ العقول بنسبة الضعيف للقوي، والقوي للضعيف.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢٢] أي جائرة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم ١٩/ ٨٨- ٩٥].
ثم نبّه الله تعالى إلى كون هذه المناقشة وذلك الكلام غاية في الوضوح بقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا... أي ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات والمواعظ، وأوضحنا الأمثال لهم، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، وهم مع ذلك ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
ثم رد الله تعالى على المشركين الذين يتخذون شريكا لله، فقال:
قُلْ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ... قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يزعمون أن لله شريكا من خلقه، ويتخذون مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون، وأن الله معه آلهة تعبد لتقرب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون المتخذون آلهة يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة بعبادتهم، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه تعالى لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة أنبيائه ورسله، ثم نزه نفسه الكريمة عن ذلك فقال:

صفحة رقم 83

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً أي تنزه الله تعالى عما لا يليق به، وتعالى، أي ارتفع وعلا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى، تعاليا كبيرا، بل هو الله الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وفي وصف العلو بالكبر إشارة إلى وجود التغاير المطلق بين ذاته وصفاته تعالى، وبين نسبة الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد إليه، لوجود المنافاة بين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج، منافاة لا يتصور الزيادة عليها، كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم ١٩/ ٩٠- ٩١].
ثم أبان الله تعالى مبلغ عظمته فقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ... أي تقدسه وتنزهه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وما من شيء من المخلوقات (الحيوانات والجمادات والنباتات) إلا يسبح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجوب وجود الله تعالى الخالق لكل الأكوان، فالتسبيح من الناس هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات وغيرها: معناه الدلالة على تنزيه الله تعالى، وهذا مجاز. وقال بعضهم: إنه حقيقة أيضا.
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي ولكن لا تفهمون أيها البشر تسبيحهم، لأنه بخلاف لغاتكم، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح، من شجر أو غيره.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً إنه تعالى كان وما يزال حليما لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم.

صفحة رقم 84

فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن نسبة الملائكة بجعلها بنات الله افتراء كبير وقول عظيم الإثم عند الله عز وجل. وهذا تنديد بقول بعض العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
٢- بالرغم من بيان القرآن الشافي للحجج والبينات الدالة على توحيد الله ووحدانيته المطلقة، والاتعاظ بما فيها، فإن المشركين المعاندين الظالمين لا يزدادون بعد هذا البيان إلا التباعد عن الحق، والغفلة عن النظر والاعتبار، لسوء نظرهم وخلل تفكيرهم، واعتقادهم في القرآن أنه حيلة وسحر، وكهانة وشعر.
٣- لو كان هناك آلهة شفعاء مع الله كما يزعم المشركون، لكانت هذه الآلهة بحاجة إلى التقرب إلى الله، بالعبادة والتعظيم، لتجعل لنفسها مكانة عند الله، وتلتمس الزّلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد بطل أنها آلهة، وكان الأحرى بعبدتها أن يعبدوا الإله الحقيقي وهو الله جل جلاله.
وهذا ردّ على عباد الأصنام، كما أن الآية الأولى ردّ على الذين يجعلون الملائكة بنات الله.
٤- ما من مخلوق في السموات والأرض إلا يسبح بحمد الله تعالى، وتسبيح البشر العقلاء هو حقيقة بأن يقولوا: سبحان الله أي تنزيها لله تعالى وتمجيدا وتقديسا، وتسبيح غير البشر مجاز، والمراد به تسبيح الدلالة أي دلالة هذه المخلوقات بذاتها على وجود الإله الخالق، فكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح أيضا حقيقة، وكل شيء بصفة

صفحة رقم 85

عامة يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، لأن الآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وثبت في السنة أنه يخفف على الأموات بالأشجار في حديث الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا المتضمن تعذيب صاحبي القبرين بسبب عدم الاستنزاه من البول والنميمة. قال القرطبي: وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟! فالثابت أنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه.
وهو رأي المذاهب الأربعة.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء».
والخلاصة:
إن الرازي وجماعة يرون أن تسبيح الجمادات مجاز وهو تسبيح الدلالة، وأن القرطبي وآخرين يرون أن كل شيء من الموجودات على الصحيح يسبح، للأخبار الدالة عليه، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟ كما حكى القرآن: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص ٣٨/ ١٧- ١٨] وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح، وقد نصت السنة على ما دلّ عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه ومالك عن أبي سعيد الخدري-: «لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
٥- من صفات الله السامية أنه حليم عن ذنوب عباده في الدنيا، غفور للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه، وحلمه أنه لا يعاجل المشركين بالعقوبة على غفلتهم وسوء نظرهم وجهلهم بالتسبيح والشرك.

صفحة رقم 86
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية