
﴿يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، أي: على حال تنقصهم، يأخذهم الأول فالأول حتي يأتي الأخذ على الجميع.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ قال الزجاج: أي من رأفته أمهل وجعل فسحة للتوبة (١)، وهو معنى قول المفسرين: إذ لم يعجل عليم بالعقوبة والإهلاك (٢)، وأَخَّر عنهم هذه العقوبات التي ذكرها مع قدرته عليها.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ قراءة العامة بالياء (٣)؛ لأن ما قبله غيبة، وهو قوله: ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ﴾، ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾ كذلك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قد رأوا ذلك وتيقنوه فلا يحسن أن يقال لهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾.
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿تَرَوا﴾ بالتاء (٤)، على الخطاب لجميع الناس (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، والطبري ١٤/ ١١٤ بمعناه، والسمرقندي ٢/ ٢٣٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، والماوردي ٣/ ١٩٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٥١، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١١، والخازن ٣/ ١١٧، وأبي حيان ٥/ ٤٩٥، وابن كثير ٢/ ٦٢٩.
(٣) وهم: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. انظر: "السبعة" ص ٣٧٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٥، و"الحجة للقراء" ٥/ ٦٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"التيسير" ص ١٣٨، و"شرح الهداية" ٢/ ٣٨٠، و"تلخيص العبارات" ص ١١١.
(٤) انظر: المصادر السابقة.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧، بتصرف يسير.

وقوله تعالى: ﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال المفسرون وأهل المعاني: أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم (١)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد الشجر والنبات.
وقوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) إخبار عن قوله: ﴿شَيْءٍ﴾، وليس بوصف له، و ﴿يَتَفَيَّأُ﴾: يتفعل من الفيء، يقال: فاء الظل يفيء فيئًا، إذا رجعَ وعادَ بعد ما كان ضياءُ الشمس نسخَه، وأصلُ الفيء الرجوع (٢)، ومنه فَيءُ المولي (٣)، وذكرنا ذلك في قوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٦]، وكذلك فيءُ المسلمين؛ لِمَا يعود على المسلمين من مال مَنْ خالف دينهم بلا قتال (٤)، وسنذكر ذلك في قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٧] إن شاء الله. وأصلُ هذا كله من الرجوع، فإذا عُدِّي (فَاءَ) عُدّي بزيادة الهمزة أو تضعيف العين، فمِمَّا عُدّي بنقل الهمزة قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾، وبالتضعيف فاءَ الظلُّ، وفَيّأه الله فتفيّأ، وتَفيَّأ مطاوع فَيَّأَ (٥).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (فاء) ٣/ ٢٧١١، و"مجمل اللغة" (في) ٢/ ٧٠١، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٣، و"عمدة الحفاظ" ٣/ ٣٠٨.
(٣) هو الذي يحلف أن لا يجامع زوجته، وقد حدد الشارع مدة الإيلاء بأربعة أشهر؛ إما أن يطلق وإما أن يفي. انظر: "تفسير الجصاص" ١/ ٣٥٥، والكيا الهراسي ١/ ٢١٦ - ٢١٩، وابن العربي ١/ ١٧٨، و"تفسير القرطبي" ٣/ ١٠٣.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (فيأ) ٣/ ٢٧١١، بنحوه، وانظر: "التعريفات" ص ١٧٠، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧، بنصه، وانظر. "اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٦، و"معجم الألفاظ المتعدية بحرف" ص ٢٨٢.

قال الأزهري: وتفيؤ الظلال رُجوعها بعد انتصاف النهار وانتعال الأشياء (١)، قال: وأخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: التفيؤ لا يكون إلا بالعشي؛ ما انصرفت عنه الشمس، وقد بينه الشاعر (٢) فقال:
فلا الظلَّ من بَرْد الضُّحى تستطيعُهُ | ولا الفيءَ من بردِ العشيِّ تذَوُق (٣) |
قال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كُلُّ ما كانت عليه الشمسُ فزالت عنه فهو فيءٌ وظلٌّ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظِلٌّ (٥)، على أن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي:
(٢) هو حميد بن ثور. تقدمت ترجمته.
(٣) ديوانه ص ٧٠، وورد في "إصلاح المنطق" ص ٣٢٠، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٣، (بعد) بدل (برد) الثانية، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣٠، و"اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٥، وورد غير منسوب في "الحجة للقراء" ٥/ ٦٨، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠، وأبي حيان ٥/ ٤٩٦، والبيت قاله يصف سَرْحَة شجر عظام طوال وكنَّى بها امرأة. والشاهد: أنه جعل الظلَّ وقت الضحى؛ لأن الشمس لم تنسخْه في ذلك الوقت. وكلام الأزهري في "تهذيب اللغة" (فاء) ٣/ ٢٧١١، بنصه.
(٤) ولخصه ابن السِّكِّيت فقال: الظلُّ: ما نسخته الشمسُ، والفيءُ: ما نسخ الشمسَ. "إصلاح المنطق" ص ٣٢٠.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٧٠، بخصه، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٤، بنصه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣٢، والفخر الرازي ٢٠/ ٤٠، و"اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٥، و"تفسير أبى حيان" ٥/ ٤٩٦.

فسلامُ الإلهِ يَغْدو (١) عليهمْ | وفُيوءُ الفرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلالِ (٢) |
وقوله تعالى: ﴿ظِلَالُهُ﴾ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال؛ لأن الذي يعود إليه الضمير واحدٌ يدل على الكثرة، وهو قوله: ﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ﴾، وهذا مثل: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: ١٣]، فأضاف الظهور، وهو جمع، إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحدٍ يُرادُ به الكثرة، وهو قوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ (٤) [الزخرف: ١٢].
وأما قول المفسرين في: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال ابن عباس: يتميل (٥)، وهو معنى وليس بتفسير؛ لأنه إذا قرن بقوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ صار المعنى: أنه يتميل عن الجوانب، ومعنى تفيؤ الظلال: أن يعود الظل بعد نسخ الشمس إياه، وأما معنى تفيؤها عن اليمين والشمائل (فهو أن يكون
(٢) "شعر النابغة" الجعدي ص ٢٣١، وورد في "النوادر في اللغة" ص٢٢٠، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣١، والفخر الرازي ٢٠/ ٤١، و"اللسان" (ظلل) ٥/ ٢٧٥٣.
(٣) الأولى (في الجمع)، أو (في جمع فيء) ولعل (فيء) ساقطة.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧ - ٧٠ نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة، والتقديم والتأخير، والتهذيب والاختصار، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠، نقله بطوله عن الواحدي بتصرف يسير مع نسبته.
(٥) ورد في "تفسير الطوسى" ٦/ ٣٨٧، بلفظه.

للأشجار فيء عن اليمين والشمائل) (١)، إذا كانت الشمس يمين الشخص كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله كان الفيء عن يمينه، فهذا وجه ذكره بعضُ أهل التأويل (٢)، والذي عليه المفسرون، قال قتادة والضحاك وابن جريج: أما اليمين فأول النهار، وأما الشمال فآخر النهار (٣)، وقد بين الكلبي هذا، فقال: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان على يسارك، فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل (٤)، ووحد اليمين والمراد الجمع، ولكنه اقتصر فيه على الواحد في اللفظ للإيجاز؛ كقوله: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] وقول الفرزدق:
بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كانَ هَدَّنِي | رَزيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (٥) |
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٢، بنصه.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٦) بنصه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١١٥ بنصه عن قتادة من طريقين، وبمعناه عن الضحاك وابن جريج من طريقين، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ ب، بنصه عن الضحاك وقتادة، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩١، والطوسي ٦/ ٣٨٧، عنهم، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، عن قتادة والضحاك، وابن عطية ٨/ ٤٣٣، عن قتادة وابن جريج، والخازن ٣/ ١١٧، عن الضحاك، وأبي حيان ٥/ ٤٩٧، عن قتادة وابن جريج.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٢، وأبي حيان ٥/ ٤٩٨، ورد في الأخيرين بلا نسبة.
(٥) "ديوانه" ٢/ ٢٠٦، وورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، والطوسي ٦/ ٣٨٨، و"الأساس" ص ١٥٤، وابن عطية ٨/ ٤٣٣، (الشامتين) =

هذا قول الأخفش وجميع أهل المعاني (١).
وقال الفراء: كأنه إذا وَحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها (٢)، وذلك أن قوله: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ لفظه واحد ومعناه الجمع على ما بينا، فيحمل كلا الأمرين.
وقوله تعالى: ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ قال المفسرون: ميلانها سجودها، (٣) وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا فقال: أصل السجود التّطَأطُؤ والميل، يقال: سجد البعير وأُسجد إذا طأطأ رأسَه لِيُرْكَب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة العمل، ثم قد يُستعارُ السجودُ فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، ومن الأمثال المبتذلة: اسْجُدْ للقرد في زمانه (٤)، يراد اخضع للئيم في دولته، ولا يُراد معنى سجود الصلاة، والشمس والظل خَلقان مُسخَّران لأَنْ يُعَاقِبَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه بغير فصْلٍ، فالظلُّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يَعُمُّ الأرضَ، كما تَعُمُّها ظلمةُ الليل، ثم
(١) لم أقف عليه في معاني الأخفش، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٢، بلا نسبة.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٥٢، بمعناه.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٤ - ١١٥، بلفظه واختاره، والسمرقندي ٢/ ٢٣٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٧ب بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن عطية ٨/ ٤٣٥، و"القرطبى" ١٠/ ١١١، وأبي حيان ٥/ ٤٩٨، وابن كثير ٢/ ٦٣٠.
(٤) ذكره الميداني في المجمع، ونصه: اسْجُدْ لقرْد السُّوء في زمانه. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني ١/ ٣٥٧.

تطلُع الشمسُ فتَعُمُّ الأرضَ إلا بما (١) سترته الشُّخُوصُ، فإذا سَتَرَ الشخص شيئًا عاد الظلُّ، فرجوعُ الظلِّ بعد أن كان شمسًا ودورانُه من جانب إلى جانب هو سُجُودُه؛ لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتَّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل سجود، وكذلك قوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]، أي يستسلِمَان لله بالتسخير (٢)، وهذه الآية كقوله: ﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥]، وقد مر بيانه وشرحه.
وقوله تعالي: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾، أي: صاغرون، وهذا لفظ المفسرين (٣)، يقال: دَخَرَ يَدْخَر دُخُورًا، أي صَغُرَ يَصْغُرُ صغَارًا، وهو الذي يَفعلُ ما تأمره شاء أو (أبى (٤).
قال الزجاج: هذه الأشياء مجبولة على الطاعة (٥).
وقال الأخفش في قوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾) (٦) ذَكَّرَ، وهم من غير
(٢) تأويل مشكل القرآن (ص ٤١٦ - ٤١٨)، وهو نقل طويل تصرف فيه واختصر.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٦ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١١٦ بلفظه عن مجاهد وقتادة من طريقين لكل منهما، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، والطوسي ٦/ ٣٨٨، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن عطية ٨/ ٤٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١١، والخازن ٣/ ١١٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (دخر) ٢/ ١١٥٨، بنصه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٢، بنصه.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (د).