بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [١٦ ٤٤]، قِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " مَا أَرْسَلْنَا " دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ " رِجَالًا "، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: " رِجَالًا " صِفَةً لَهُ، أَيْ: رِجَالًا مُتَلَبِّسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " أَرْسَلْنَا " مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَ أُرْسِلُوا؟ قِيلَ: بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " نُوحِي "، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ ; قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْقُرْآنُ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥ ٩].
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكْمَتَيْنِ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [١٦ ٦٤]، وَقَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [٤ ١٠٥].
الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِهِ وَالِاتِّعَاظُ بِهَا ; كَمَا قَالَ هُنَا: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [١٦ ٤٤]، وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [٣٨ ٢٩]، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤ ٨٢]، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧ ٢٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
أَنْكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعَ ذَلِكَ يَأْمَنُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ أَخْذَهُ الْأَلِيمَ، وَبَطْشَهُ الشَّدِيدَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيُهْلِكَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَالْخَسْفُ: بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفَ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ ; كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَارُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ الْآيَةَ [٢٨ ٨١]، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ الْآيَةَ [٦٧ ١٦، ١٧]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [١٧ ٦٨]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [٧ ٩٩]، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذِهِ فِي أَوَّلِ «سُورَةِ الْأَعْرَافِ».
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِعْرَابِ: «السَّيِّئَاتِ» [١٦ ٤٥]، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَيْ: الْقَبِيحَاتِ قُبْحًا شَدِيدًا ; كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ [٨ ٣٠]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «مَكَرُوا» عَلَى تَضْمِينِ «مَكَرُوا» مَعْنَى فَعَلُوا. وَهَذَا أَقْرَبُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «أَمِنَ»، أَيْ: أَأَمِنَ الْمَاكِرُونَ السَّيِّئَاتِ، أَيِ: الْعُقُوبَاتِ الشَّدِيدَةَ الَّتِي تَسُوءُهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا بِهِمْ. ذَكَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْأَخِيرَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَذَكَرَ الْجَمِيعَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ».
تَنْبِيهُ.
كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ أَوْ فَاؤُهُ ; كَقَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا [٤٣ ٥]، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [٣٤ ٩]، أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [٤٥ ٣١]، إِلَخْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ ; كَقَوْلِكَ مَثَلًا: أَنُمْهِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا؟ أَعَمُوا فَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؟ أَلَمْ تَأْتِكُمْ آيَاتِي أَفَلَمْ تَكُنْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ؟ وَهَكَذَا وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
| وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتُبِحْ | وَعَطْفُكَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحْ |
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا ; إِلَّا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ تَزَحْلَقَتْ عَنْ مَحَلِّهَا فَتَقَدَّمَتْ عَلَى الْفَاءِ وَالْوَاوِ ; وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَتْ لَفْظًا عَنْ مَحَلِّهَا مَعْنًى ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامُ. صفحة رقم 381