آيات من القرآن الكريم

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ وَمُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَلَفْظُ السُّوءِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِالْجَهَالَةِ، أَمَّا الْكُفْرُ فَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْضَى بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ حَقًّا وَصِدْقًا، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَرْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَمَا لَمْ تَصِرِ الشَّهْوَةُ غَالِبَةً لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ بِسَبِبِ الْجَهَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ بَالَغْنَا فِي تَهْدِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ بِمُقْتَضَى الشَّهْوَةِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ فِي حَقِّ الَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَصْلَحُوا، أَيْ آمَنُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ.
ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. ثم قال: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِذَلِكَ السُّوءِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَهْرًا دَهِيرًا وَأَمَدًا مَدِيدًا، فَإِذَا تَابَ عَنْهُ وَآمَنَ وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ توبته ويخلصه من العذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا طَعْنُهُمْ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولًا لَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا بَالَغَ فِي إِبْطَالِ مَذَاهِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمُوَحِّدِينَ وَقُدْوَةَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِلَى الشَّرَائِعِ. وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِهِ مُعْتَرِفِينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ مُقِرِّينَ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى عَنْهُ طَرِيقَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشِّرْكِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ لِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ:

لَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ
الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ، كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً
وَكَانَ رَسُولُ

صفحة رقم 283

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: «يَبْعَثُهُ اللَّهُ أُمَّةً وَحْدَهُ».
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أُمَّةٌ فُعْلَةً بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرُّحْلَةِ وَالْبُغْيَةِ، فَالْأُمَّةُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: ١٢٤]. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَتْ أُمَّتُهُ مُمْتَازِينَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَلَمَّا جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْأُمَّةِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمَّةِ إِطْلَاقًا/ لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ لَمْ تَبْقَ أَرْضٌ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ قَانِتًا لِلَّهِ، وَالْقَانِتُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ حَنِيفًا وَالْحَنِيفُ الْمَائِلُ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مَيْلًا لَا يَزُولُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَضَحَّى، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَنِيفِيَّةِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالَّذِي يُقَرِّرُ كَوْنَهُ كَذِلَكَ أَنَّ أَكْثَرَ هِمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي تَقْرِيرِ عِلْمِ الْأُصُولِ فَذَكَرَ دَلِيلَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] ثُمَّ أَبْطَلَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] ثُمَّ كَسَرَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يريد كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ غَارِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاءَهُ فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ فَأَظْهَرُوا أَنَّ بِهِمْ عِلَّةَ الْجُذَامِ فَقَالَ: الْآنَ يَجِبُ عَلَيَّ مُؤَاكَلَتُكُمْ فَلَوْلَا عِزَّتُكُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا ابْتَلَاكُمْ بِهَذَا الْبَلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْأَنْعُمِ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَثِيرَةً. فَلِمَ قَالَ: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ شَاكِرًا لِجَمِيعِ نِعَمِ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً فَكَيْفَ الْكَثِيرَةُ.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: اجْتَباهُ أَيِ اصْطَفَاهُ لِلنُّبُوَّةِ. وَالِاجْتِبَاءُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتُ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَالْجَابِيَةُ هِيَ الْحَوْضُ.
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣].
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ حَبَّبَهُ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُقِرُّونَ بِهِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَسَائِرُ الْعَرَبِ فَلَا فَخْرَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دُعَاءَهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ/ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٤] وَقَالَ آخَرُونَ:
هُوَ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ الصِّدْقُ، وَالْوَفَاءُ وَالْعِبَادَةُ.
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.

صفحة رقم 284
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية