آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ

(ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه) قال الواقدي: ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين.
والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي ﷺ فتقدير الآية ضرب الله مثلاً لقريتكم، أي بيَّن الله لها شبهاً، ثم وصف القرية بأنها (كانت آمنة) غير خائفة.
(مطمئنة) غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون، وعن ابن شهاب قال القرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
قلت ولا أدري أي دليل على هذا التعيين ولا أي قرينة قامت له على ذلك ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله وأي وقت أذاقها الله

صفحة رقم 325

لباس الجوع والخوف وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صح ذلك عن الصادق المصدوق.
وصح عنه ﷺ أنه قال " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " (يأتيها رزقها) أي ما يرتزق به أهلها (رغداً) أي واسعاً يقال رغد العيش بالضم رغادة اتسع ولأن فهو رغد ورغيد ورغد ورغد رغداً من باب تعب لغة فهو راغد وهو في رغد من العيش أي رزق واسع، وأرغد القوم بالألف أخصبوا والرغيد الزبد (من كل مكان) من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها أي من نواحيها من البر والبحر.
(فكفرت) أي كفر أهلها (بأنعم الله) التي أنعم بها عليهم وهي جمع نعمة كالأشد جمع شدة، وقيل كالأدرع جمع درع على ترك الاعتداد بالتاء وقيل جمع نعم مثل بؤس وأبؤس ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد وهي بمعنى النعمة وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله.
(فأذاقها الله) أي أهلها (لباس الجوع والخوف) أي أثرهما فقحطوا سبع سنين وسمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة وأصلها الذوق بالفم ثم استعيرت لمطلق الإيصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين إدراك اللمس والذوق.
روي أن ابن الراوندي الزنديق، قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً ﷺ ما كان نبياً أما كان عربياً، كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي.
وقد أجاب علماء البيان هذا أن تجريد الاستعارة وذلك أنه استعار

صفحة رقم 326

اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً.
قال الرازي: والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها، والتقدير: أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختيار قال الشاعر:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
أو يحمل اللبس على المماسة أي فأذاقها الله مساس الجوع (بما كانوا يصنعون) أي فعلنا بهم ما فعلنا بسبب تكذيبهم رسول الله ﷺ وخروجه من بين أظهرهم، ولم يقل صنعت لأنه أراد أهل القرية، قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله يصنعون تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.
(ولقد جاءهم) يعني أهل مكة (رسول منهم) أي من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضررهم (فكذبوه) فيما جاء به (فأخذهم العذاب) النازل بهم من الله سبحانه (وهم) أي والحال أنهم في حال أخذهم العذاب لهم (ظالمون) لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار لهم وصدهم عن سبيل الله.
وهذا الكلام من تمام المثل الضروب وقيل أن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر والأول أولى.

صفحة رقم 327

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم بأن يأكلوا مما زرقهم الله من الغنائم ونحوها وقال

صفحة رقم 328
فتح البيان في مقاصد القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي
راجعه
عبد الله بن إبراهيم الأنصاري
الناشر
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
سنة النشر
1412
عدد الأجزاء
15
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية