
إِلَى رَبِّهِ جَازَاهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْكَسْبُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُنُوعُ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو:
«اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقَتْنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ».
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ بِهِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ:
الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وَقَدْ وَرَدَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ التِّلَاوَةِ مَا لَعَلَّنَا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يَقُولُ: سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَعَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا
«١» قَالَ:
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بالكفار، فأمر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَارَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «٢». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ بِمَكَّةَ قَيِّنًا اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ أَعْجَمِيًّا، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَلْعَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ: قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا عَبْدُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ صَاحِبُ الْكُتُبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ، وَكَانَا يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ الْإِنْجِيلَ، فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا يَقْرَآنِ فَيَقِفُ وَيَسْتَمِعُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هذه الآية.
(٢). البقرة: ١٠٦.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١)

قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِعْرَابِهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، إِمَّا مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أَيِ: اعْتَقَدَهُ، وَطَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَإِمَّا مِنَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ: أُولئِكَ، أو من الخبر الذي هو: الْكاذِبُونَ، وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرَهُ مَحْذُوفٌ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِخَبَرِ من الثانية، كقولك: من يأتنا من يحسن نُكْرِمْهُ وَقِيلَ: هُوَ، أَيْ مَنْ ١٠٦ فِي مَنْ كَفَرَ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ جَوَابَ مَنْ شَرَحَ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّرْطِ عَلَى مَنْ وَالْجَوَابُ عَلَى خَبَرِهَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ عَلَى هَذَا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْمُكْرَهِ مِنَ الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِ لَوْلَا الْإِكْرَاهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ كَانَ مُرْتَدًّا فِي الظَّاهِرِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ، مَدْفُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْلِ، وَأَمَّا فِي الْفِعْلِ فَلَا رُخْصَةَ، مِثْلُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيمَنْ أُكْرِهَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا دَلِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْقَاصِرِينَ لِلْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَجُمْلَةُ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، أَيْ:
إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِإِكْرَاهٍ، وَالْحَالُ أَنَّ قَلْبَهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَقِيدَتُهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْجَمْعُ لِلْمُرْتَدِّينَ بَيْنَ غَضَبِ اللَّهِ وَعَظِيمِ عَذَابِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِلَى الْوَعِيدِ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ تَأْثِيرِهِمْ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ معطوف على: بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، أَيْ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ أَيِ:
الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْمَوَاعِظَ وَلَا سَمِعُوهَا. وَلَا أَبْصَرُوا الْآيَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الطَّبْعِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُمْ صِفَةَ نَقْصٍ غَيْرَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَالَ: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ

يُفِيدُ أَنَّهُمْ مُتَنَاهُونَ فِي الْغَفْلَةِ، إِذْ لَا غَفْلَةَ أَعْظَمُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ هَذِهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ:
الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ الْبَالِغُونَ إِلَى غَايَةٍ مِنْهُ لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى: لَا جَرَمَ، فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَا هُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ إِنَّ رَبَّكَ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْخَبَرُ هُوَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا أَيْ: إِنَّ رَبَّكَ لَهُمْ بِالْوَلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ لَا عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَهَا هُوَ قَوْلُهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنَّ رَبَّكَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى. قال في الكشاف: ثم ها هنا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَبَاعُدِ حَالِ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ عَنْ حَالِ أُولَئِكَ، وَهُمْ عَمَّارٌ وَأَصْحَابُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ «١»، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا أَيْ: فَتَنَهُمُ الْكُفَّارُ بِتَعْذِيبِهِمْ لَهُمْ لِيَرْجِعُوا فِي الْكُفْرِ، وَقُرِئَ فَتَنُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أي: اللذين فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَعَذَّبُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعَلَى مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَتَنُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، أَيْ: إِنَّ رَبَّكَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ فَتَنُوا مَنْ أَسْلَمَ وَعَذَّبُوهُمْ ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهِينَ وَصُدُورُهُمْ غَيْرُ مُنْشَرِحَةٍ لِلْكُفْرِ إِذَا صَلَحَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَلَى الْمَكَارِهِ، لَغَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ وَأَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْآيَةِ هَذِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْمَفْتُونَ فِي دِينِهِ بِالرِّدَّةِ إِذَا أَسْلَمَ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ فَاللَّهُ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهَا يَرْجِعُ إِلَى الْفِتْنَةِ أَوْ إِلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ، أَوْ إِلَى الْجَمِيعِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها قَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ تَأْتِي مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ «رَحِيمٌ»، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، أَوْ ذَكِّرْهُمْ، أَوْ أَنْذِرْهُمْ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِضَافَةُ ضَمِيرِ النَّفْسِ إِلَى النَّفْسِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْأُولَى جُمْلَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَبِالنَّفْسِ الثَّانِيَةِ الذَّاتُ، فَكَأَنْ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ غَيْرُهَا، وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عَنْهَا، فَهُوَ مُجَادِلٌ وَمُخَاصِمٌ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَتَفَرَّغُ لِغَيْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَفَرَّقُوا عَنِّي، فَمَنْ كَانَتْ بِهِ قُوَّةٌ فَلْيَتَأَخَّرْ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ قُوَّةٌ فَلْيَذْهَبْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِي قَدِ اسْتَقَرَّتْ بِيَ الْأَرْضُ فَالْحَقُوا بِي، فَأَصْبَحَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ وَجَارِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ أَسْلَمَتْ، فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَبُو جَهْلٍ، فَعَرَضُوا عَلَى بِلَالٍ أَنْ يَكْفُرَ فَأَبَى، فَجَعَلُوا يَضَعُونَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ فِي الشَّمْسِ ثُمَّ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهُ، فَإِذَا أَلْبَسُوهَا إِيَّاهُ قَالَ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَأَمَّا خَبَّابٌ فَجَعَلُوا يَجُرُّونَهُ فِي الشَّوْكِ وَأَمَّا عَمَّارٌ فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَةً أَعْجَبَتْهُمْ تَقِيَّةً وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَوَتَدَ لَهَا أَبُو جَهْلٍ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ مَدَّهَا فَأَدْخَلَ الْحَرْبَةَ فِي قُبُلِهَا حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ خَلَّوْا عَنْ بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ فَلَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَاشْتَدَّ عَلَى عَمَّارٍ الَّذِي كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ كَانَ قلبك حين قلت