
لما قبل منهم «أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ» عند رب الأرباب في الموقف العظيم «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (١٨) هي لأهلها وقبح المأوى وأسوا المنقلب وأسام المرجع. قال تعالى «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» فيذعن إليه ويؤمن به «كَمَنْ هُوَ أَعْمى» باق على كفره، كلا لا يستويان «إِنَّما يَتَذَكَّرُ» بآياتنا وينفاد إلى طاعتنا «أُولُوا الْأَلْبابِ» (١٩) الواعية «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ» المأخوذ عليهم بالأزل «وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» (٢٠) الذي واثقهم عليه
«وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» كأرحامهم وجيرانهم الفقراء وإخوانهم المسلمين ويراعون حقوق زوجاتهم وخدمهم ورفقائهم في الحضر والسّفر والغيبة والحضور «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» (٢١) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا «وَالَّذِينَ صَبَرُوا» على المصائب والمشاق أملا بما لهم عند الله من الخلف والثواب «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» لا ليقال إنهم صابرون ولا لقساوة في قلوبهم ولا لعدم محبة بالمفقود والمصاب «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» طلبا لمرضاة الله تعالى فوق صبرهم على المصائب وعلى القيام بأوامر الله «وَيَدْرَؤُنَ» يدفعون «بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» الواقعة عليهم من الغير، فإذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وإذا أذنبوا استغفروا وتابوا واسترضوا خصومهم بما شاؤه ولو بالقصاص منهم «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصّفات التسع المارة «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (٢٢) المحمودة وهي «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» يقيمون فيها يوم القيامة هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» تبعا لهم وتكميلا لفرحهم وتعظيما لشأنهم وتكريما لهم. وفي هذه الآية دلالة على أن الصالح يشفع بأتباعه، وهو كذلك.
مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم:
وهذا دليل على أن سعي الغير ينفع كما ذكرناه في الآية ٣٨ فما بعدها من سورة النجم ج ١، والآية ٨٧ من سورة الأنعام، والآية ٨ من سورة غافر، والآية

٢١ من سورة الطّور في ج ٢، هذا ويؤكد هذا المعنى ما أخرج في الصّحيحين أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أمي افتلت (ماتت على حين غفلة) وأظنها لو تكلمت لتصدقت، فهل لها أجر ان تصدقت عنها؟ قال نعم. وقد أجمعت العلماء على أن الصّدقة تنفع الميت ويصله ثوابها، وأجمعوا على وصول الدّعاء إليه وقضاء الدين والحج عنه، ورجحوا جواز الصّوم عنه أيضا إذا كان عليه صوم استنادا على ما ورد من الأحاديث في ذلك، وأن حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... لا ينفي وصول عمل الغير كما جاء في شرح هذا الحديث وغيره من أقوال العلماء العاملين، والله أعلم «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ٢٣» من أبواب الجنّة يسلمون عليهم زيادة لسرورهم وتحيتهم التي يؤدونها لهم عند دخولهم عليهم هي «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» على المحن في الدّنيا «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (٢٤) دارهم هذه دار الكرامة ولما ذكر العداء وما وعدهم الله به من الخير والاستيفاء وما أوعدهم الله به من الشّر. قال جل قوله «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» مما ذكر آنفا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على تلك المثالب «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ٢٥» والعياذ بالله، وإذا كان هذا مصيرهم فلا تنظروا إلى ما هم فيه في الدّنيا من السّعة وما هم عليه من الصّحة لأن عاقبتهم وخيمة، راجع الآية ٢٢ من سورة محمد المارة فيما يتعلق في هذه الآية وما قبلها، والآية ٢٧ من سورة البقرة أيضا. قال تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء «وَفَرِحُوا» ابتهج هؤلاء «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» ولذاتها وشهواتها «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ» أي بالنسبة إليها «إِلَّا مَتاعٌ» (٢٦) قليل فان كعجالة المسافر «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذه الآيات العظام «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» عنادا ليس إلا، إذ ما بعد كلام الله آية، ولا تضاهي آياته آية، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء العتاة «إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» مع وجود الآيات «وَيَهْدِي» من يشاء ويقرب «إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» (٢٧)
صفحة رقم 46
إليه ورجع عن غيه دون آية ما بالنظر إلى أصل الخلقة ولما هو مدوّن في علمه تعالى، وهؤلاء المنيبون هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» وحده، المعرضون عما سواه، وعما يقترحه الكافرون من طلب المعجزات «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (٢٨) الطاهرة ويستقر إليه يقينهم، فهلموا أيها المؤمنون لذكره إذا أردتم الهداية. ثم وصف المهتدين في الوفاء وصلة الرّحم وانهم هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» المطمئنة قلوبهم لذكر الله «طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (٢٩) في الآخرة، وطوبى مبالغة الطّيب كالحسنى مبالغة لأحسن ويعبر عنها بالجنة أو شجرة عظيمة فيها. وبما أنا وعدنا في تفسير الآية ٢٢ من سورة القتال المارة بذكر ما يتعلق بصلة الرّحم فإنا نورد هنا ما عنّ لنا بيانه وتبسر لنا تبيانه. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أخاديد (غدران تمسك الماء كالبرك) أمسكت الماء نفع الله بها النّاس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، بذلك مثل من فقه في دين الله وفقه ما بعثني الله به فتعلم وعلّم، ومثل من لم رفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرّحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله. وأخرج الترمذي وأبو داود عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشفقت لها اسما من اسمي (يريد جل جلاله الرّحمن الرّحيم) فمن وصلك وصلته ومن قطعك قطعته أو قال بتّته (البتّ أقصى غاية القطع
والقطع الذي لا وصل بعده) وروى البخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال من سره أن بسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه. ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنّة قاطع رحم. ورويا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليس الواصل بالمكافىء (أي المقابل

يعني إذا زاره رحمه كافأه بزيارته) ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها (يريد عليه الصّلاة والسّلام أنه يزور رحمه وإن لم يزره هو لأن المقابلة بالزيارة مكافأة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ أي لا يبعد هذا صلة كاملة وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرّحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأجل. وروى البغوي بسنده عن عاقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن مثل الذي يعمل السّيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل اخرى حتى خرج إلى الأرض. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة بضيق النّطاق عن ذكرها هنا، ويكفي أن الله تعالى يظن واصل رحمه بظله المبين فيما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلها مئة عام لا يقطعها. ومثله عن أبي سعيد الخدري بزيادة الجواد المضمر السّريع. ومثله عن أبي هريرة وذكر فيه (سنة بدل عام) وإقرارا إن شئتم وظل ممدود الآية ٣١ في سورة الواقعة في ج ١ راجع هذه الآية في معناه وأما ما يتعلق بنقض العهد وإبرامه، فراجع فيه الآية ٣٤ من سورة الإسراء في ج ١ والآية ٤٢ من سورة النّحل ج ٢ قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما أرسلنا قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم الماضية لأجل إرشادهم وتعليمهم أوامرنا ونواهينا وتفهيمهم قدرتنا «أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» كما تلت أولئك الرّسل الأقدمون على أقوامهم ما أوحيناه إليهم فيما لهم وعليهم «وَهُمْ» والحال أنهم الكافرون المذكورون «يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» الإله البالغ الرّحمة المنتهى الرّأفة الذي من رحمته ورأفته أرسلك إليهم. وضمير يكفرون يعود إلى القائلين (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) الآية ٢٧ المارة وما قيل أن هذه الآية نزلت في أبي جهل إذ قال إن محمدا يدعو بالحجر إلهين الله والرّحمن (المراد بالحجر هنا حجر إسماعيل عليه السّلام المقابل للبيت من جهة الميزاب) أو أنها نزلت في سهيل بن عمرو حين كتابة معاهدة الحديبية. حينما قال له حضرة الرّسول اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال
صفحة رقم 48