آيات من القرآن الكريم

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

ذلك، وهو تعالى لا يشفع عنده أحدإلا بِإِذْنِهِ، ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٣]، ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النَّجْمِ: ٢٦] وَقَالَ: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٩٣ -٩٥] فَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ عَبِيدًا، فَلِمَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالِابْتِدَاعِ؟ ثُمَّ قَدْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ تَزْجُرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَتَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مِنْ سِوَى اللَّهِ، فَكَذَّبُوهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٩].
﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ (١٧) ﴾
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِلِ فِي اضْمِحْلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ أَيْ: مَطَرًا، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أَيْ: أَخَذَ كُلُّ وَادٍ بِحَسْبِهِ، فَهَذَا كَبِيرٌ وَسِعَ كَثِيرًا مِنَ الْمَاءِ، وَهَذَا صَغِيرٌ فَوَسِعَ بِقَدْرِهِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُلُوبِ وَتَفَاوُتِهَا، فَمِنْهَا مَا يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّسِعُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ بَلْ يَضِيقُ عَنْهَا، ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ أَيْ: فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ الَّذِي سَالَ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ زَبَدٌ عَالٍ عَلَيْهِ، هَذَا مَثَلٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا يُسْبَكُ فِي النَّارِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ﴾ أَيْ: لِيَجْعَلَ حِلْيَةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا، فَيُجْعَلُ مَتَاعًا فَإِنَّهُ يَعْلُوهُ زَبَدٌ مِنْهُ، كَمَا يَعْلُو ذَلِكَ (١) زَبَدٌ مِنْهُ. ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ أَيْ: إِذَا اجْتَمَعَا لَا ثَبَاتَ لِلْبَاطِلِ وَلَا دَوَامَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الزَّبَدَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمَاءِ، وَلَا مَعَ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُسْبَكَ فِي النَّارِ، بَلْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ أَيْ: لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، بَلْ يَتَفَرَّقُ وَيَتَمَزَّقُ وَيَذْهَبُ فِي جَانِبَيِ الْوَادِي، وَيَعْلَقُ بِالشَّجَرِ وَتَنْسِفُهُ الرِّيَاحُ. وَكَذَلِكَ خَبَثُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ يَذْهَبُ، لَا يَرْجِعُ (٢) مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَاءُ (٣) وَذَلِكَ الذَّهَبُ وَنَحْوُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٣].
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيت عَلَى نَفْسِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾

(١) في ت: "ذاك".
(٢) في ت، أ: "منه إلى شيء".
(٣) في ت، أ: "ويبقى الماء".

صفحة رقم 447

هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ [وَهُوَ الشَّكُّ] (١) ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ﴾ وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثه فِي النَّارِ؛ فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادِي مِنْ عُودٍ ودِمْنَة (٢) ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِلْيَةُ وَالْمَتَاعُ وَالنُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ، فَلِلنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ خَبَثِهِ كَزَبَدِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الْأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ الْمَاءِ فَأَنْبَتَتْ. فَجَعَلَ ذَاكَ (٣) مِثْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَبْقَى لِأَهْلِهِ، وَالْعَمَلِ السَّيِّئِ يَضْمَحِلُّ عَنْ أَهْلِهِ، كَمَا يَذْهَبُ هَذَا الزَّبَدُ، فَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْحَقُّ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ كَانَ لَهُ، وَيَبْقَى كَمَا يَبْقَى مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّينٌ وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يُدْخَلَ فِي النَّارِ فَتَأْكُلُ خبَثَه، وَيُخْرَجُ جَيِّدُهُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ. كَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأُقِيمَ النَّاسُ، وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ، فَيَزِيغُ الْبَاطِلُ وَيَهْلَكُ، وَيَنْتَفِعُ أَهْلُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ رُوي فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ نَارِيًّا وَمَائِيًّا، وَهُمَا قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٧]، ثُمَّ قَالَ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٩]. وَهَكَذَا ضَرَبَ لِلْكَافِرِينَ فِي سُورَةِ النُّورِ مَثَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النُّورِ: ٣٩] الْآيَةَ، وَالسَّرَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: أيْ رَبَّنا، عَطِشْنَا فَاسْقِنَا. فَيُقَالُ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيَرِدُونَ النَّارَ فَإِذَا هِيَ كَالسَّرَابِ يَحْطِم بَعْضُهَا بَعْضًا".
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ الْآيَةَ [النُّورِ: ٤٠]. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ (٤) الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا [أُخْرَى] (٥) إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كلأ فذلك مثل من

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في أ: "ورمة".
(٣) في ت، أ: "ذلك".
(٤) في ت: "وأنبتت".
(٥) زيادة من ت، أ، والصحيحين.

صفحة رقم 448
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية