آيات من القرآن الكريم

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

وقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً... الآية: الظاهر منه أنه قالها إِفصاحاً كأنه أسَرَّ لهم كراهيةَ مقالتهم، ثم نجَهَهُمْ بقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً: أي: لسوءِ أفعالكم، واللَّه أعلم أنْ كان ما وصفتموه حقًّا، وفي اللفظ إِشارةٌ إِلى تكذيبهم وممَّا يُقَوِّي هذا عِنْدِي أنهم تركُوا الشَّفاعة بأنفسهم، وعدَلُوا إِلى الشفاعة بأبيهم عليه السلام، وقالتْ فرقة: لم يقُلْ هذا الكلامَ إِلا في نَفْسه، وإِنه تفسيرٌ للذي أسَرَّ في نفسه، فكأَنَّ المراد: قال في نَفْسِهِ: أنتم شرُّ مكاناً، وذكر الطبريُّ هنا قصصاً اختصاره أنَّه لما استخرجت السقايةُ مِنْ رَحْلِ يامين، قال إخوته:
يا بَنِي رَاحِيلَ، لاَ يَزَالُ البلاءُ يَنَالُنَا مِنْ جِهَتِكُمْ، فقال يَامِينُ: بل بَنُو رَاحِيلَ ينالُهُمُ البلاءُ منكم، ذهبتم بأخِي، فَأَهْلَكْتُمُوهُ، ووضع هذا الصُّواعَ في رَحْلِي الذي وَضَعَ الدراهمَ في رحالِكُمْ، فقالوا: لا تَذْكُر الدراهم، لَئَلاَّ نؤْخَذَ بها، ثم دَخَلُوا على يوسُفَ، فأخذ الصُّواع، فَنَقَرَهُ، فَطَنَّ، فقال: إِنه يخبر أنَّكم ذهبتم بأخٍ لكم، فَبِعْتُمُوهُ، فَسَجَدَ يامين، وقال: أيها العزيزُ، سَلْ صُوَاعَكَ هذا يُخْبِرُكَ بالحقِّ، في قصص يَطولُ آثرنا اختصاره.
وروي أن رُوبِيلَ غَضِبَ، وقَفَّ شَعْرَه، حتى خرج من ثيابِهِ، فأمر يوسُفُ بنيًّا له، فمسَّه فسكَنَ غضبه، فقال رُوبيلُ: لقد مسَّني أحدٌ من ولد يعقُوبَ، ثم إِنهم تشاوَرُوا في محارَبَةِ يُوسُفَ، وكانوا أَهْلَ قُوَّةٍ، لا/ يُدَانَوْنَ في ذلك، فلما أحَسَّ يوسُفُ بذلك، قام إِلى رُوبِيلَ، فلبَّبه وصَرَعَهُ، فرأَوا من قوّته ما استعظموه، وقالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ... الآية، وخاطبوه باسم العزيز، إِذ كان في تِلْكَ الخُطَّةَ بعَزْلِ الأول أو موته، على ما رُوِيَ في ذلك، وقولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يحتمل أنْ يكونَ ذلك منْهم مجازاً، ويحتمل أنْ يكون حقيقةً علَى طريقِ الحَمَالَةِ حتى يَصِلَ يَامِينُ إِلى أَبيه، ويعرف يعقوبُ جليَّة الأمر، فمَنَع يوسُفُ من ذلك، وقال: مَعاذَ اللَّهِ... الآية.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
وقوله سبحانه: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ... الآية: يقال: يَئِسَ واستيأس بمعنًى واحدٍ، قال البخاريُّ: خَلَصُوا نَجِيًّا: اعتزلوا، والجَمْع أَنْجِيَةٌ، وللاثنين والجمع نَجِيٌّ

صفحة رقم 344

وأَنْجِيَة انتهى.
وقال الهَرَوِيُّ: خَلَصُوا نَجِيًّا: أي تميّزوا عن الناس متناجين انتهى.
وكَبِيرُهُمْ: قال مجاهدٌ هو شَمْعُونُ، كان كبيرهم رَأْياً وعِلْماً، وإِن كان رُوبِيلُ أَسنَّهم «١»، وقال قتادة: هو روبيلُ، لأَنه أسنُّهم «٢»، وهذا أظهرُ ورجَّحه الطبريُّ «٣»، وذكرهم أخوهم ميثاقَ أبيهم: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: ٦٦].
وقوله: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ: قال: ص: «بَرَحَ» التامَّةُ بمعنى ذَهَبَ وظَهَرَ ومنه: برح الخَفَاء، أي: ظهر، والمتوجَّه هنا: معنى «ذهب»، لكنَّه لا ينصب الظرف المكانيَّ المختصَّ إِلا بواسطة، فاحتيج إِلى تضمينه معنى «فارق»، والأرض مفعولٌ به، ولا يجوزُ أنْ تكون «أبرح» : ناقصةٌ انتهى.
وقوله: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ: الأمر بالرجُوعِ قيلَ: هُوَ مِنْ قولِ كبيرهم، وقيل: من قَوْلِ يوسُفَ، والأول أظهرُ، وذكر الطبرِيُّ أَنَّ يوسُفَ قال لهم: إِذا أتيتم أباكم فاقرؤوا علَيْه السَّلام، وقولوا له: إِنَّ مَلِكَ مِصْرَ يدْعُو لك أَلاَّ تمُوتَ حَتَّى تَرَى ولدك يوسُفَ، ليعلم أَنَّ في أرض مِصْرَ صِدِّيقين مثله، وقرأ الجمهور: «سَرَقَ»، وروي عن الكسائي «٤» وغيره:
«سُرِقَ» - ببنائه للمفعول-.
وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا: أي: باعتبار الظَّاهر، والعِلْمُ في الغَيْبِ إِلى اللَّه، ليْسَ ذلك في حِفْظنا، هذا تأويل ابْن إِسحاق، ثم استشهدوا بالقرية التي كانوا فيهَا، وهي مِصْر قاله ابن عباس «٥»، والمراد أهْلُها، قال البُخَارِيُّ: سَوَّلَتْ: أي: زَيَّنَتْ، وقولُ يعقُوبَ:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعنى بيوسُفَ ويَامِينَ ورُوبِيلَ الذي لَمْ يَبْرَحِ الأرض،

(١) أخرجه الطبري (٧/ ٢٦٩) برقم: (١٩٦٢٧)، وذكره البغوي (٢/ ٤٤٢)، وابن عطية (٣/ ٢٦٩)، والسيوطي (٤/ ٥٤- ٥٥)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٢) أخرجه الطبري (٧/ ٢٧٠) برقم: (١٩٦٣٠)، وذكره البغوي (٢/ ٤٤٢)، وابن عطية (٣/ ٢٦٩)، والسيوطي (٤/ ٥٥)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٧/ ٢٧٠) برقم: (١٩٦٣٠- ١٩٦٣١).
(٤) وقرأ بها أبو ذر وابن عباس، كما في «الشواذ» ص: (٦٩)، وقرأها مبنية للمفعول مشددة الكسائي في رواية ابن أبي شريح عنه، وقرأ بها أحمد بن جبير المكي، والوليد بن حسان، عن يعقوب، وغيرهم.
ينظر: «البحر المحيط» (٥/ ٣٢٩)، و «الدر المصون» (٤/ ٢٠٣).
(٥) أخرجه الطبري (٧/ ٢٧٣) برقم: (١٩٦٤٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٢٧١).

صفحة رقم 345

ورجاؤه هذا مِنْ جهاتٍ، منها: حُسْن ظَنِّه باللَّه سبحانه في كلِّ حالٍ، ومنها: رؤيا يوسُفَ المتقدِّمة فإِنه كان ينتظرُها، ومنها: ما أخبروهُ عَنْ مَلِكِ مِصْر أنه يدعو له برؤْية ابنه.
وقوله سبحانه: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ: أي: زال بوجْهه عنْهم مُلْتَجِئاً إِلى اللَّه: وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ.
قال الحسن: خُصَّت هذه الأمَّة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب:
يا أَسَفى «١».
قال ع «٢» : والمراد يا أسفَي، لكنْ هذه لُغَةُ مَنْ يردُّ ياء الإِضافة ألفاً نحو:
يا غُلاَما، ويَا أَبَتَا، ولا يبعد أَنْ يجتمع الاسترجاع، ويَا أَسْفَى لهذه الأُمَّة، وليعقوب عليه السلام، وروي أن يعقوبَ عليه السلام/ حَزِنَ حُزْنَ سبعين ثَكْلَى، وأُعطِيَ أَجْرَ مَائَةِ شهيدٍ، وما ساءَ ظَنَّهُ باللَّه قطُّ، رواه الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٣»، فَهُوَ كَظِيمٌ بمعنى: كاظِمٍ، كما قال: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: ١٣٤] ووصف يعقوب بذلك، لأنه لم يَشْكُ إِلى أحَدٍ، وإِنما كان يكْمد في نَفْسه، ويُمْسِك همَّه في صَدْره، فكان يكظمه، أي: يردُّه إِلى قلبه.
ت وهذا ينظر إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «القَلْبُ يَحْزَنُ وَالعَيْنُ تَدْمَعُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يرضي الرّبّ... » الحديث، ذكر هذا صلّى الله عليه وسلّم عنْدَ مَوْتِ ولده إِبراهيم «٤»، قال ابن المبارِك في «رقائقه» : أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادة في قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالَ: كَظم على الحُزْنِ، فلم يقُلْ إِلا خَيْراً «٥» انتهى، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّه قال في ابنه إِبراهيم: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالَقْلَبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»، وقال أيضا في الصحيح صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ القَلْبِ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ» «٦» انتهى. خرَّجه البخاريُّ وغيره.

(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٢٧٢) بنحوه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٢٧٢). [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧/ ٢٨١) برقم: (١٩٧٢٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٥٨)، وعزاه لابن جرير.
(٤) تقدم تخريجه.
(٥) أخرجه الطبري (٧/ ٢٧٦) برقم: (١٩٦٧٧)، وذكره البغوي (٢/ ٤٤٤) نحوه.
(٦) أخرجه البخاري (٣/ ٢٠٩) كتاب «الجنائز» باب: البكاء عند المريض، حديث (١٣٠٤)، ومسلم (٢/

صفحة رقم 346
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية