آيات من القرآن الكريم

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمُحْسِنِ لِسَخَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، أَيْ قَصِيرُ الْمُدَّةِ لَيْسَ سَبِيلُ مِثْلِهِ أَنْ تَطُولَ مُدَّتُهُ بِسَبَبِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَيْنَا دُونَ أَخِينَا شَيْءٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ فَابْعَثْ أَخَانَا مَعَنَا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٦]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْثِقَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الثِّقَةِ وَمَعْنَاهُ: الْعَهْدُ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَقُولُ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونِي عَهْدًا مَوْثُوقًا بِهِ وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ أَيْ عَهْدًا مَوْثُوقًا بِهِ بِسَبَبِ تَأَكُّدِهِ بِإِشْهَادِ اللَّه وَبِسَبَبِ الْقَسَمِ باللَّه عَلَيْهِ، وقوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ دخلت اللام هاهنا لِأَجْلِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْثِقِ مِنَ اللَّه الْيَمِينُ فَتَقْدِيرُهُ:
حَتَّى تَحْلِفُوا باللَّه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مفعوله لَهُ، وَالْكَلَامُ الْمُثْبَتُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ فِي تَأْوِيلِ الْمَنْفِيِّ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا تَمْتَنِعُونَ/ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مَعْنَاهُ الْهَلَاكُ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا كُلُّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا عِنْدِي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ أُحِيطَ بِفُلَانٍ إِذَا قَرُبَ هَلَاكُهُ قَالَ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْفِ: ٤٢] أَيْ أَصَابَهُ مَا أَهْلَكَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُسَ: ٢٢] وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ مَسَالِكُ النَّجَاةِ دَنَا هَلَاكُهُ، فَقِيلَ: لِكُلِّ مَنْ هَلَكَ قَدْ أُحِيطَ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى الرُّجُوعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يُرِيدُ شَهِيدٌ، لِأَنَّ الشَّهِيدَ وَكِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ هَذَا الْعَهْدُ فَإِنْ وَفَّيْتُمْ بِهِ جَازَاكُمْ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٧]
وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
اعْلَمْ أَنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى مِصْرَ. وَكَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَأَبْنَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَالَ لَهُمْ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خاف من العين عليهم ولنا هاهنا مَقَامَانِ.
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِطْبَاقُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَيَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا

صفحة رقم 481

بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ هَكَذَا كَانَ يُعَوِّذُ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ.
وَالثَّالِثُ: مَا
رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَرَأَيْتُهُ شَدِيدَ الْوَجَعِ ثُمَّ/ عُدْتُ إِلَيْهِ آخِرَ النَّهَارِ فَرَأَيْتُهُ مُعَافًى فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَرَقَانِي فَقَالَ: بِسْمِ اللَّه أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ وَحَاسِدٍ اللَّه يَشْفِيكَ» قَالَ فَأَفَقْتُ،
وَالرَّابِعُ:
رُوِيَ أَنَّ بَنِي جَعْفَرِ بن أبي طالب كانوا غلمان بِيضًا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ الْعَيْنَ إِلَيْهِمْ سَرِيعَةٌ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ مِنَ الْعَيْنِ فَقَالَ لَهَا نَعَمْ.
وَالْخَامِسُ:
دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَعِنْدَهَا صَبِيٌّ يَشْتَكِي فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ فَقَالَ أَفَلَا تَسْتَرْقُونَ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ.
وَالسَّادِسُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتِ الْعَيْنُ الْقَدَرَ»
وَالسَّابِعُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: كن يَأْمُرُ الْعَائِنَ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَغْسِلَ مِنْهُ الْمَعِينُ الَّذِي أُصِيبَ بِالْعَيْنِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْكَشْفِ عَنْ مَاهِيَّتِهِ فَنَقُولُ: إِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى إِنْكَارًا بَلِيغًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إِنْكَارِهِ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِهِ وَأَقَرُّوا بِوُجُودِهِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَافِظُ: إِنَّهُ يمتد من العين أجزاء فتصل بِالشَّخْصِ الْمُسْتَحْسَنِ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَتَسْرِي فِيهِ كَتَأْثِيرِ اللَّسْعِ وَالسُّمِّ وَالنَّارِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي جِهَةِ التَّأْثِيرِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَوَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الشَّخْصِ الَّذِي لَا يُسْتَحْسَنُ كَتَأْثِيرِهِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا فَقَدْ يُحِبُّ بَقَاءَهُ كَمَا إِذَا اسْتَحْسَنَ وَلَدَ نَفْسِهِ وَبُسْتَانَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْرَهُ بَقَاءَهُ أَيْضًا كَمَا إِذَا أَحَسَّ الْحَاسِدُ بِشَيْءٍ حَصَلَ لِعَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسَانِ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِنْ زَوَالِهِ وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ يُوجِبُ انْحِصَارَ الرُّوحِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ فَحِينَئِذٍ يَسْخُنُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ جِدًّا، وَيَحْصُلُ فِي الرُّوحِ الْبَاصِرَةِ كَيْفِيَّةٌ قَوِيَّةٌ مُسَخِّنَةٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسَانِ حَسَدٌ شَدِيدٌ وَحُزْنٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِعَدُوِّهِ. وَالْحُزْنُ أَيْضًا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرُّوحِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ وَيَحْصُلُ فِيهِ سُخُونَةٌ شَدِيدَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْسَانِ الْقَوِيِّ تَسْخُنُ الرُّوحُ جِدًّا فَيَسْخُنُ شُعَاعُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُسْتَحْسَنْ فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ السُّخُونَةُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَائِنَ بِالْوُضُوءِ وَمَنْ أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ بِالِاغْتِسَالِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو هَاشِمٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ إِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ حَقًّا، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ إِذَا شَاهَدَ الشَّيْءَ وَأُعْجِبَ بِهِ اسْتِحْسَانًا كَانَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَكْلِيفِهِ أَنْ يُغَيِّرَ اللَّه ذَلِكَ الشَّخْصَ وَذَلِكَ الشَّيْءَ حَتَّى لَا يَبْقَى قَلْبُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ رَبَّهُ عِنْدَ تِلْكَ الْحَالَةِ وَعَدَلَ عَنِ الْإِعْجَابِ وَسَأَلَ رَبَّهُ تَقِيَّةَ ذَلِكَ، فَعِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ الْمَصْلَحَةُ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُطَّرِدَةً لَا جَرَمَ قِيلَ الْعَيْنُ حَقٌّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ قَالُوا هَذَا الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُؤَثِّرِ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ أَعْنِي الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَالْيُبُوسَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّأْثِيرُ نَفْسَانِيًّا مَحْضًا، وَلَا يَكُونُ لِلْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ بِهَا تَعَلُّقٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّوْحَ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْعَرْضِ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ، قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَوْضُوعًا فِيمَا بَيْنَ جِدَارَيْنِ عَالِيَيْنِ لَعَجَزَ الْإِنْسَانُ

صفحة رقم 482

عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ خَوْفَهُ مِنَ السُّقُوطِ مِنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّأْثِيرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ مَوْجُودَةٌ، وَأَيْضًا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ كَوْنَ فُلَانٍ مُؤْذِيًا لَهُ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ غَضَبٌ، وَيَسْخُنُ مِزَاجُهُ جِدًّا فَمَبْدَأُ تِلْكَ السُّخُونَةِ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ التَّصَوُّرَ النَّفْسَانِيَّ، وَلِأَنَّ مَبْدَأَ الْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا التَّصَوُّرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْسِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَدَنِهِ الْخَاصِّ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ تَتَعَدَّى تَأْثِيرَاتُهَا إِلَى سَائِرِ الْأَبْدَانِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مُؤَثِّرَةً فِي سَائِرِ الْأَبْدَانِ وَأَيْضًا جَوَاهِرُ النُّفُوسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْمَاهِيَّةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ بَدَنِ حَيَوَانٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَرَاهُ وَيَتَعَجَّبَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ وَالتَّجَارِبُ مِنَ الزَّمَنِ الْأَقْدَمِ سَاعَدَتْ عَلَيْهِ وَالنُّفُوسُ النَّبَوِيَّةُ نَطَقَتْ بِهِ فَعِنْدَهُ لَا يَبْقَى فِي وُقُوعِهِ شَكٌّ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ كَلَامٌ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وَكَمَالِهِمْ. فَقَالَ: لَا تَدْخُلُوا تِلْكَ الْمَدِينَةَ مِنْ بابٍ واحِدٍ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْهَيْئَةِ فَلَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِمْ حَسَدَ النَّاسِ أَوْ يُقَالُ: لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخَافَهُمُ الْمَلِكُ الْأَعْظَمُ عَلَى مُلْكِهِ فَيَحْبِسَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مُحْتَمَلٌ لَا إِنْكَارَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِيهِ بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَالْمُفَسِّرُونَ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: خَافَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، فَقَالَ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عِلْمِهِ وَقَالَ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ وَيَقُولُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِبْطَالٌ لَهُ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ صَحَّ فاللَّه قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ أَثَرِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ هُوَ وَلَدُهُ يُوسُفُ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَذِنَ لَهُ فِي إِظْهَارِ ذَلِكَ فَلَمَّا بَعَثَ أَبْنَاءَهُ إِلَيْهِ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى يُوسُفَ فِي وَقْتِ الْخَلْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَأَمَّا/ قَوْلُهُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُرَاعِيَ الْأَسْبَابَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمَأْمُورٌ أَيْضًا بِأَنْ يَعْتَقِدَ وَيَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُنْجِي مِنَ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْذَرَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّه وَلَا يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّه فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى رِعَايَةِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَقَوْلُهُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ وَإِلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَهَذَا السُّؤَالُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الطَّاعَاتِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ مَعَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَأَنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَكَذَا هاهنا نَأْكُلُ وَنَشْرَبُ وَنَحْتَرِزُ عَنِ السُّمُومِ وَعَنِ الدُّخُولِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لَا يحصلان إلا بتقدير اللَّه تعالى، فكذا هاهنا. فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ

صفحة رقم 483
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية