
الظن بمعنى اليقين وهو كثير فى القرآن الكريم كما قال: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» وقال: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ».
(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكرني لدى سيدك الملك بما رأيت منى وما سمعت وعلمت من أمرى، علّه ينصفنى ممن ظلمنى ويخرجنى من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا، وإنباؤهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب وغيرهما قبل إتيانه وفتياه التي أفتى بها.
(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنسى الشيطان ذلك الساقي الناجي تذكر إخبار ربه أي أن يذكر يوسف للملك.
(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) منسيا مظلوما، والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثر ما يطلق على السبع وعليه الأكثرون فى مدة سجن يوسف.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)

تفسير المفردات
السمان: واحدها سمين وسمينة، والعجاف: واحدها عجفاء أي هزيلة ضعيفة، والسنابل: واحدها سنبلة وهى ما يكون فيها الحب، واليابس من السنبل: ما آن حصاده، وعبرت الرؤيا وعبّرتها (بالتخفيف والتشديد) فسرتها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفّة إلى أخرى، والأضغاث: واحدها ضغث وهو الحزمة من النبات، والأحلام واحده حلم (بضمتين وبالتسكين للتخفيف) :
ما يرى فى النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون فى اليقظة، وقد يكون مهوّشا مضطربا فهو يشبّه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حزم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها، واذكر: تذكر (أصله اذتكر)، والدأب: استمرار الشيء على حال واحدة يقولون هو دائب بفعل كذا إذا استمر فى فعله، فذروه: أي اتركوه وادخروه. والشداد الصعاب التي تشتد على الناس. وتحصنون أي تحرزون وتدخرون للبذر، وأغاثه: أعانه ونجاه، وغوّث الرجل: قال: واغوثاه، واستغاث ربه: استنصره وسأله الغوث، ويعصرون: أي ما من شأنه أن يعصر كالزيت من الزيتون والشيرج من السمسم، والأشربة من القصب والنخيل والعنب.
المعنى الجملي
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها
ذكر المؤرخون أن ملك مصر فى عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس) وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها،

وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجئوا إلى يوسف فى تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي إنى رأيت فيما يرى النائم رؤيا جلية كأنى أراها الآن، سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة والعلماء وقال:
(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي عبّروها لى وبيّنوا حكمها وما تئول إليه، إن كنتم تعبرون الرؤى وتبينون المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي، فيكون حالكم حال من يعبر النهر من ضفة إلى أخرى.
(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي قالوا هذه رؤيا من نوع أضغاث الأحلام: أي الأحلام المختلطة من خواطر وأخيلة يتصورها الدماغ فى النوم فلا تومىء إلى معنى معيّن مقصود، وما نحن بأولى علم بتأويل مثل هذه الأحلام المضطربة، بل نحن نعلم غيرها من الأحلام المفهومة المعقولة.
وقد يكون مرادهم نفى العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى تدل عليه تلك الصور المتخيلة فى النوم كما هو رأى الماديين الآن.
وقد كان حديث الملك فى رؤياه مع كهنته وعلمائه ورجال دولته مذكرا للذى نجا من الفتيين بيوسف وحسن تعبيره للرؤى بعد أن مضى على ذلك ردح من الزمان كما يشير إلى هذا ما بعده:
(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إنّ عجز الملأ كان فرصة سانحة للذى نجا من الفتيين أن يخبر الملك بأن فى الحبس رجلا صالحا

عالما كثير الطاعة- خبيرا بتأويل الرؤى، فإن أنت أذنت لى مضيت إليه وجئتك بالجواب (وكان ذلك الفتى تذكر بعد مدة من الزمن وصية يوسف له بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك) فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجزوا عنه وقال:
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يا يوسف البالغ غاية الكمال بصدقك فى أقوال وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا فى ذلك المنام الذي رآه الملك، وإنى لأرجو أن يحقق الله أملك بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بفضلك وعلمك، (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي قال يوسف للملك وملئه مبينا لهم ما يجب عليهم أن يعملوه لتلافى ما تدل عليه الرؤيا من الخطر على البلاد وأهلها قبل وقوع تأويلها، من زراعة القمح سبع سنين متوالية بلا انقطاع ثم بادخار ما يحصد منه فى كل زرعة فى سنابله على طريق تحفظه من السوس بتسرب الرطوبة إليه حتى يكون القمح لغذاء الناس والتبن للدواب حين الحاجة إليه، إلا قليلا من ذلك تأكلونه فى كل سنة مع الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة ويكفى دفع المخمصة، وهذه السنون السبع هى تأويل البقرات السبع السمان.
أما السنبلات الخضر فعلى حقيقتها فى كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي ثم تأتى بعد ذلك سبع سنين كلهن جدب وقحط، يأكل أهلها كل ما ادخرتم فى تلك السنين لأجلهم، إلا قليلا مما تحزنون وتدخرون للبذر، ونسبة الأكل إلى السنين هو ما جرت به عادتهم فيقولون أكلت هذه السنة كل شىء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا ولا سبدا ولا لبدا: أي لا شعرا ولا صوفا.
فهذا تأويل البقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان، وللسنبلات اليابسات.