آيات من القرآن الكريم

حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ

إلى ما يؤدي إلى الجنة، على يقين وحق، وشعار المؤمن دائما: سبحان الله وما أنا من المشركين، أي أنزه الله عن أي شريك، ولست من الذين يتخذون من دون الله أندادا أي نظراء لله.
وسمي الدّين سبيلا، لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، كما في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النّحل ١٦/ ١٢٥].
الفصل العشرون من قصّة يوسف العبرة من القصص القرآني
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
الإعراب:
وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مبتدأ وخبر، وهذا إضافة الصّفة بعد حذف الموصوف، وتقديره:
ولدار السّاعة أو الحال الآخرة، وهذه الإضافة في نيّة الانفصال، ولهذا لا يستفيد المضاف التّعريف من المضاف إليه.

صفحة رقم 85

حَتَّى إِذَا متعلّقة بمحذوف، دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النّصر.
وَلكِنْ تَصْدِيقَ خبر كان المقدرة، أي ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه وتفصيلا، وهُدىً وَرَحْمَةً منصوبان بالعطف عليه.
المفردات اللغوية:
إِلَّا رِجالًا لا ملائكة. مِنْ أَهْلِ الْقُرى الأمصار لأنهم أعلم وأحلم، بخلاف أهل البوادي لجفائهم وجهلهم. أَفَلَمْ يَسِيرُوا أهل مكة. عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي آخر أمرهم من إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي ولدار الحال القادمة أو السّاعة الأخرى أو الحياة الآخرة وهي الجنة. اتَّقَوْا الله واتقوا الشّرك والمعاصي، أي خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. أَفَلا تَعْقِلُونَ أهل مكة، فيؤمنوا.
حَتَّى غاية محذوف، دلّ عليه الكلام، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فتراخى نصرهم. اسْتَيْأَسَ يئس، أي لا يغررهم تمادي أيامهم، فإن من قبلهم أمهلوا، حتى أيس الرّسل من النّصر عليهم في الدّنيا أو من إيمانهم، لانهماكهم في الكفر. وَظَنُّوا أيقنوا. كُذِبُوا أي ظنّ الأمم أنّ الرّسل أخلفوا ما وعدوا به من النّصر، وعلى قراءة التّشديد، أي وظنّ الرّسل أن القوم قد كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وهم النّبي والمؤمنون.
بَأْسُنا عذابنا. عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ المشركين. فِي قَصَصِهِمْ أي الرّسل. عِبْرَةٌ أي اعتبار من حال إلى حال. لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. ما كانَ هذا القرآن.
يُفْتَرى يختلق. الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قبله من الكتب. وَتَفْصِيلَ تبيين. كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدّين. وَهُدىً من الضّلالة. وَرَحْمَةً ينال بها خير الدّارين. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقونه، خصّوا بالذّكر لانتفاعهم به دون غيرهم.
المناسبة:
بعد أن أثبت القرآن الكريم نبوّة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بدليل إخباره عن المغيبات، ردّ الله على منكري النّبوة، فقد كان من شبه منكري نبوّته صلّى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا، كما حكى القرآن عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت ٤١/ ١٤].

صفحة رقم 86

ثم أنذر الله كفار قريش وأمثالهم بالعقاب والعذاب إن لم يؤمنوا، فإن سنّة لله في عباده واحدة أنهم إن لم يؤمنوا، حلّ بهم العذاب.
ثم ذكر تعالى أن قصة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوي العقول والأفكار.
التّفسير والبيان:
ختمت سورة يوسف بهذه الخاتمة الدّالّة على وجوب الاتّعاظ والاعتبار بقصته المؤثرة الحادثة بين كنعان ومصر، وفي ألوان متعددة، تبتدئ بإلقائه في الجبّ، ثم صيرورته في بيت العزيز، ثم في السّجن، ثم في أعلى مناصب الحكم، وصف فيها كيد الإخوة وحسدهم، ومكر النّساء وكيدهنّ، وصبر يوسف عليه السّلام وحكمته ومهارته في إدارة الحكم، وأخلاقه وتسامحه مع إخوته، وتعظيمه أبويه.
والمعنى: وما أرسلنا يا محمّد من قبلك رسلا إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، وكانوا من أهل المدن لا من البوادي، وكنّا ننزل عليهم الوحي والتّشريع.
وهذا يدلّ على أن الله أرسل الرّسل من الرّجال، لا من النّساء، فلم تكن امرأة قط نبيّا ولا رسولا، وعلى اختيار الرّسل من أهل المدينة، فلم يبعث الله رسولا من أهل البادية، لتتبعهم المدن الأخرى، ولأن أهل البادية فيهم الجهل والجفاء، وأن أهلا لمدن أرق طباعا وألطف من أهل البوادي، ولهذا قال تعالى:
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التّوبة ٩/ ٩٧].
قال ابن كثير: وزعم بعضهم أن سارّة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم بنت عمران أم عيسى نبيّات، واحتجّوا بأن الملائكة بشّرت سارّة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص ٢٨/ ٧] وبأنّ الملك جاء إلى مريم فبشّرها بعيسى عليه السّلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ

صفحة رقم 87

قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
[آل عمران ٣/ ٤٢- ٤٣] وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكنّ نبيّات بذلك «١».
ثم هدد الله المشركين على تكذيبهم بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجّبا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمّد في الأرض، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل، كيف دمّر الله عليهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وللكافرين أمثالها، فإن عاقبة الكافرين الهلاك، وعاقبة المؤمنين النّجاة.
ثم حضّ الله تعالى على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتّقاء المهلكات فقال: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي إن الدّار الآخرة خير للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه، فهي أفضل من هذه الدّار للمشركين المكذّبين بالرّسل، أي وكما نجّينا المؤمنين في الدّنيا، كذلك كتبنا لهم النّجاة في الدّار الآخرة، وهي خير لهم من الدّنيا بكثير فإن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدّنيا، وأبقى وأخلد.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أجهلتم؟ فلا تعقلون أيها المكذّبون بالآخرة، فإنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.
ثم بشر الله نبيّه بالنّصر بإخباره أن نصره تعالى ينزل على رسله عليهم السّلام عند ضيق الحال واشتداد الأزمة وانتظار الفرج من الله تعالى في أحرج الأوقات إليه، فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.. فيه محذوف، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فبلغوا أقوامهم رسالتهم الدّاعية إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، فكذّبوهم وتمادى أقوامهم في الطغيان والكفر والعناد،

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٤٩٦

صفحة رقم 88

فتراخى نصرهم، حتى أيس الرّسل من إيمانهم أو من النّصر عليهم، لانهماكهم في الكفر، وظنّت (أيقنت) الأمم أن الرّسل أخلفوا فيما وعدوهم به من النّصر، وكذّبوهم فيما أخبروهم به عن الله من وعد النّصر، فجاءهم نصرنا، أي أتاهم نصر الله فجأة، فنجّي من نشاء وهم النّبي والمؤمنون، وحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين، ولا يردّ بأسنا، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله وكذّبوا رسله.
والمعنى على قراءة كُذِبُوا بالتّشديد: وظنّ الرّسل أن القوم قد كذّبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم.
وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم لعدم إيمانهم بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وللآية نظائر كثيرة في القرآن الكريم منها ما اشتمل على وعد الله الرّسل بالنّصر: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر ٤٠/ ٥١]، وقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١]، ومنها استنجاز النّصر: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة ٢/ ٢١٤].
ومنها بيان سبب العقاب وهو الظّلم والكفر: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التّوبة ٩/ ٧٠].
ومنها تقرير سنّة الله الواحدة في عباده وإلحاق النّظائر والأشباه بأمثالها، وأنه لا ظلم فيها ولا محاباة، فكفار قريش مثل الكفار السّابقين في استحقاقهم العذاب لارتكابهم سببه وهو الكفر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر ٥٤/ ٤٣].
ونقل تفسير الآية على قراءة التّشديد: كُذِبُوا على النّحو السّابق عن

صفحة رقم 89

عائشة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لابن أختها عروة بن الزّبير، وهو يسألها عن قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ الآية:
«معاذ الله لم تكن الرّسل تظنّ ذلك بربّها، هم أتباع الرّسل الذين آمنوا بربّهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النّصر، حتى إذا استيأس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم، وظنّت الرّسل أنّ أتباعهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك». وأنكرت عائشة المعنى على قراءة التّخفيف. وقال الرّازي عن تأويل عائشة: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية.
ونقل تفسير الآية على قراءة التّخفيف كُذِبُوا عن ابن عباس وابن مسعود، قال ابن عباس: «لما أيست الرّسل أن يستجيب لهم قومهم، وظنّ قومهم أن الرّسل قد كذبوهم، جاءهم النّصر على ذلك»، وقال ابن مسعود في آية: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا، بالتخفيف. وهذا هو المشهور عن الجمهور «١».
والخلاصة: على قراءة التّخفيف، الضمير في وَظَنُّوا عائد على المرسل إليهم، لتقدّمهم في الذّكر في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضّمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذّبي الرّسل، والظّن هاهنا بمعنى التّوهم والحسبان. والمعنى: وظنّ المرسل إليهم أنهم قد كذبهم الرّسل فيما ادّعوه من النّبوة وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب، وهذا مشهور قول ابن عباس وتأويل عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضّمائر في هذه القراءة على الرّسل لأنهم

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٤٩٧- ٤٩٨، تفسير القرطبي: ٩/ ٢٧٥

صفحة رقم 90

معصومون، فلا يمكن أن يظنّ أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله «١».
وعلى قراءة التّشديد وجهان:
الأول- أنّ الظنّ بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم، فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة ٢/ ٤٦]، أي يتيقنون ذلك.
والثاني- أن يكون الظنّ بمعنى الحسبان، والتّقدير: حتى إذا استيأس الرّسل من إيمان قومهم، فظنّ الرّسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم، وهذا التّأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها، قال الرّازي: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية «٢».
وقال الزّمخشري في قراءة التّخفيف: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو وظنّوا أنهم قد كذبهم رجاؤهم كقولهم:
رجاء صادق ورجاء كاذب، والمعنى أن مدّة التّكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النّصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم، وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدّنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب «٣».
ثم ذكر الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن، فقال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ أي لقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع قومهم، وكيف

(١) البحر المحيط: ٥/ ٣٥٤
(٢) تفسير الرّازي: ١٨/ ٢٢٦ وما بعدها.
(٣) الكشّاف: ٢/ ١٥٧

صفحة رقم 91

نجّينا المؤمنين، وأهلكنا الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول والأفكار الصّحيحة. والاعتبار والعبرة: الانتقال والعبور من جهة إلى جهة. أما المهملون عقولهم فلا ينظرون في الأحداث ولا يستفيدون من دروس التّاريخ، فلا يفيدهم النّصح.
ثم ذكر الله تعالى مشتملات القرآن فقال: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان هذا القرآن الشّامل للقصة وغيرها، أو ما كان هذا القصص والحديث الذي اشتمل عليه القرآن حديثا يختلق ويكذب من دون الله، لأنه كلام أعجز رواة الأخبار وحملة الحديث، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل وتصديق ما تقدّمه من الكتب السّماوية كالتّوراة والإنجيل والزّبور، أي تصديق ما جاء فيها من الصّحيح والحقّ، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فهو مصدّق أصولها الصّحيحة، لا كلّ ما جاء فيها بعد من حكايات وأساطير لا يتقبّلها العقل السّليم، وهو أيضا مهيمن عليها وحارس لها.
والقرآن أيضا فيه تفصيل كلّ شيء من الحلال والحرام والمحبوب والمكروه، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، وصفات الله الحسنى، وقصص الأنبياء على النّحو الثابت الواقع الذي لا تحريف فيه ولا تزويق. ونظير الآية قوله تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨].
والقرآن أيضا هدى للعالمين، ويهدي النّاس إلى طريق الاستقامة والسّداد، فيخرجهم من الظّلمات إلى النّور، وينقلهم من الغيّ إلى الرّشاد، ومن الضّلال إلى السّداد، ويرشدهم إلى الحقّ والخير والصّلاح في الدّنيا والدّين.
وهو كذلك رحمة عامّة من ربّ العالمين للمؤمنين في الدّنيا والآخرة

صفحة رقم 92

فقه الحياة أو الأحكام:
تضمّنت الآيات الأحكام التّالية:
١- الأنبياء دائما من الرّجال، ولم يكن فيهم امرأة ولا جنّي ولا ملك. وهذا ردّ على ما
يروى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حديث غير ثابت: «إنّ في النّساء أربع نبيّات: حوّاء، وآسية، وأم موسى، ومريم».
٢- الأنبياء من أهل المدن، ولم يبعث الله نبيّا من أهل البادية، لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو، ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن البصري: لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية قط، ولا من النّساء، ولا من الجنّ. وقال العلماء: من شرط الرّسول: أن يكون رجلا آدميا مدنيا وإنما قالوا: آدميا، تحرّزا من قوله: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن ٧٢/ ٦].
٣- على النّاس قاطبة أن ينظروا بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائهم، فيعتبروا.
٤- آية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا.. فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم.
والمعنى أو الحكم على قراءة التّخفيف كُذِبُوا في رأي الجمهور: ظنّ القوم أنّ الرّسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. أو ظنّ الأمم أن الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم.
والمعنى أو الحكم، على قراءة التّشديد كُذِبُوا أيقنوا أن قومهم كذبوهم، أو حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذّبوهم، لا أن القوم كذّبوا، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسبوا أنهم يكذّبونهم...

صفحة رقم 93

٥- في قصص الأمم الغابرة ومنها قصة يوسف عليه السّلام وأبيه وإخوته عبرة، أي فكرة وتذكرة وعظة، لأولي العقول.
٦- ما كان القرآن حديثا يفتري ويختلق ويكذب من دون الله، فهو كلام معجز لا يستطيع بشر ولو كان نبيّا أن يأتي بمثله. وكذلك ما كانت قصّة يوسف حديثا يفتري من دون الله تعالى.
٧- القرآن الكريم مصدّق لما تقدّمه من الكتب السّماوية من التّوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، ومهيمن عليها وحارس لها.
٨- القرآن الكريم فيه تفصيل كل شيء مما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام، والشّرائع والأحكام.
وهو أيضا هداية ورحمة من الله تعالى لعباده وللمؤمنين بالغيب، وإنقاذ للبشرية من الضّلالة إلى النّور، ومن الفساد إلى النّظام والصّلاح: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢].
٩- يمكن توجيه الكلام إلى قصّة يوسف عليه السّلام وحدها، فيكون تعالى وصفها بصفات خمس هي:
أ- كونها عبرة لأولي الألباب.
ب- ما كان حديثا يفتري، أي ليس لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يفتري، لأنه لم يقرأ الكتب، ولم يتتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء، وليس يكذب في نفسه لأنه لا يصحّ الكذب منه، وأكّد تعالى كونه غير مفترى فقال: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التّوراة وسائر الكتب الإلهية.
ج- وتفصيل كلّ شيء من واقعة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته.

صفحة رقم 94

د- كونها هدى في الدّنيا.
هـ- كونها سببا لحصول الرّحمة في القيامة لقوم يؤمنون. خصّهم بالذّكر لأنهم هم الذين انتفعوا به، كما في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢].

صفحة رقم 95

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرعد
مدنية وهي ثلاث وأربعون آية.
تسميتها:
سمّيت سورة الرّعد، للكلام فيها عن الرّعد والبرق والصّواعق وإنزال المطر من السّحاب: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرّعد ١٣/ ١٢- ١٣] والمطر أو الماء سبب للحياة: حياة الأنفس البشريّة والحيوان والنّبات، والصّواعق قد تكون سببا للإفناء، وذلك مناقض للماء الذي هو رحمة، والجمع بين النّقيضين من العجائب.
مناسبتها لما قبلها:
هناك تناسب بين سورة الرّعد وسورة يوسف في الموضوع والمقاصد ووصف القرآن، أما الموضوع فكلاهما تضمّنتا الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف نجّى الله المؤمنين المتّقين وأهلك الكافرين، وأما المقاصد فكلّ من السّورتين لإثبات توحيد الإله ووجوده، ففي سورة يوسف: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. وفي سورة الرّعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. [٢- ٤]. قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ: اللَّهُ [١٦]، وفيهما من الأدلّة على وجود الصّانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه ووحدانيته الشيء الكثير، ففي سورة يوسف: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وفي سورة الرّعد آيات دالّة على

صفحة رقم 96

قدرة الله تعالى وألوهيّته مثل الآيات [٢- ٤]، والآيات [٨- ١١]، والآيات [١٢- ١٦]، والآيتان [٣٠ و٣٣].
وأما وصف القرآن فختمت به سورة يوسف: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وبدئت سورة الرّعد بقوله سبحانه: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
ما اشتملت عليه السّورة:
تحدثت سورة الرّعد عن مقاصد السّور المدنية التّي تشبه مقاصد السّور المكيّة، وهي التّوحيد وإثبات الرّسالة النّبوية، والبعث والجزاء، والرّد على شبهات المشركين. وأهم ما اشتملت عليه هو ما يأتي:
١- بدئت السّورة بإقامة الأدلّة على وجود الله تعالى ووحدانيته، من خلق السّموات والأرض، والشّمس والقمر، والليل والنّهار، والجبال والأنهار، والزّروع والثّمار المختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان، وأن الله تعالى منفرد بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والنّفع والضّر.
٢- إثبات البعث والجزاء في عالم القيامة، وتقرير إيقاع العذاب بالكفار في الدّنيا.
٣- الإخبار عن وجود ملائكة تحفظ الإنسان وتحرسه بأمر الله تعالى.
٤- إيراد الأمثال للحقّ والباطل، ولمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام، بالسّيل والزّبد الذي لا فائدة فيه، وبالمعدن المذاب، فيبقي النّقي الصّافي ويطرح الخبث الذي يطفو.
٥- تشبيه حال المتّقين أهل السّعادة الصّابرين المقيمي الصّلاة بالبصير،

صفحة رقم 97
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية