
النساء، أي نسائنا الذين تزعم أنهن بناتك وما لنا حاجة بهن، وهو لعمري بعيد والأخذ به غير سديد، لأن هذه الآية كانت فصل الخطاب لا تقبل التأويل ويبطل معها كل دليل «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ٧٩» وهو إتيان الذكور دون النساء فلما رأى إصرارهم ورأى نفسه ضعيفا تجاههم «قالَ» عليه السلام متأثرا متحسرا آسفا «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» على مقاومتكم لدفعتكم بنفسي عن أضيافي وأهلكتكم دون أن أمكنكم منهم «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ٨٠» من قبيلة أو عشيرة يمنعوني منكم إذا أوقعت فيكم مكروها لفعلت وفعلت ومنعتكم من الوصول إلى داري. تمنى هذا عليه السلام لا نشغال فكره بأضيافه وقومه، وإلا فهو يأوي إلى ركن أشد من كل ركن، روى البخلوي ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته. وقال أبو هريرة ما بعث الله نبيّا بعده إلا في منعة من عشيرته. ومعنى الركن في الحديث هو الله تعالى، فلا ركن يضاهي عظمة ركنه، ولا بأس يعادل شدة بأسه، ولا قوة تقابل كبير قوته، ومن كان اعتماده على الله لم يبال بشيء، ومن اعتمد على الخلق ذل، وقيل:
إذا كان غير الله للمرء عدة | أتته الرزايا من وجوه الفوائد |
«قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» أرسلنا لإهلاكهم، فتنح عن الباب واتركنا وإياهم، وإنك صفحة رقم 143

تلجأ إلى ركن شديد، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» لأن الله حافظك منهم، ولن يستطيعوا علينا، فإن الله سلطنا عليهم، فبعد صراحة هذه الآية يطرح قول كل من يقول إن أو بمعنى بل، ويكذبه، إذ لو كانت أو بمعنى بل فلا حاجة للإتيان بها، ولا محل لقول الملائكة إنا رسل ربك، أي ناصروك عليهم، قالوا فترك الباب لما عرفهم أنهم ملائكة، فدخلوا يتسابقون إلى الملائكة، ولما أرادوا مد أيديهم إليهم تحوّلوا إلى صورتهم الحقيقة، واستأذن جبريل ربّه رب العزة في عقوبتهم، إذ جاء أجلها، لأنهم لا يقدرون أن ينفذوا شيئا أرسلوا إلى تنفيذه إلا بعد الاستئذان، لأنه قد يعفو عن العقوبة وهو الذي لا يسأل عما يفعل، فأذن لهم، فضربهم ضربة واحدة بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا ويقولون النجاة النجاة، فإن في بيت لوط سحرة! وجاء في رواية أخرى أنهم كسروا الباب ودخلوا فلطمهم جبريل فطمس أعينهم، فقالوا وهم هاربون يا لوط جئتنا بسحرة، وتوعدوه، فأوجس في نفسه خيفة منهم إذ قال سيذهب هؤلاء ويذرونني لا ناصر لي، لأني غريب عنهم، فعندها قال جبريل لا تخف والتفت هو وجماعته إلى لوط وقالوا «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ» قرىء أسر بالقطع والوصل من الإسراء وهما بمعنى واحد، وقيل إن أسرى سار أول الليل وسرى آخره، ولا يقال في النهار إلا سار كما بيناه أول سورة الإسراء المارة في ج ١، «بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» آخره أو شدة ظلمته، قال مالك بن كنانة:
وقائمة تقوم بقطع ليل | على رحل أهانته شعوب |

واستخدموا العين مني فهي جارية | وكم سمعت بها في يوم بينهم |
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا | عن المعاد وعن عاد وعن ارم |
فلا تعد ولا تحصى عجائبها | ولا تسام على الإكثار بالسأم |
فاليوم أشرب غير مستحقب | إنما من الله ولا واغل |
وناع يخبرنا بمهلك سيد | تقطع من وجد عليه الأنامل |

الالتفات وراءهم، امتثالا للأمر قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» حان وقته بعذابهم «جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» إذ أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قراهم الخمس، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء، وهم نائمون لم ينتبه أحد منهم ولم يكفأ لهم إناء وقلبها بهم، فسمعت امرأته وهي لا حقة بلوط وأهله راكضة خلفهم (هوة العذاب) الهوة صوت انهدام الجدار هنا صوت انقلاب القرى، فالتفتت ورافعا فهلكت، وهذه الحكمة من منعهم من الالتفات إلى الوراء، إذ قدر الله إهلاك من يلتفت منهم وراءه، قال تعالى «وَأَمْطَرْنا عَلَيْها» أي القرى المقوبة «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» حتى لا يبقى منهم أحد ممن كان سارجا عن القرى وآتيا إليها، فمن شذ عنها فلم يهلك بالخسف هلك بالحجارة مثل امرأة لوط المار ذكرها، ومعنى سجيل الطين لقوله تعالى في الآية ٣٣ من الذاريات (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والقرآن يفسر بعضه وفي الفارسية أصلها سنك، راجع الآية ٨٢ من الشعراء المارة في ج ١، وهذه كالسندس والإستبرق وغيرها. فإنها كلمات عربية استعملها الغير، لأن العرب نطقت بها قبل القرآن «مَنْضُودٍ ٨٢» متتابع نعت لسجيل مأخوذ من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض فعلا، أو كون بعضه فوق بعض خلقة، مثله في قوله تعالى (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية ٢٩ في الواقعة المارة في ج ١ «مُسَوَّمَةً» نعت ثان أي معلمة بعلامة العذاب لا تشبه حجارة الدنيا، قالوا كان مكتوبا على كل واحدة منها اسم من تهلكه، ولا عجب لأنها «عِنْدَ رَبِّكَ» القادر على كل شيء وهي من جملة ما في خزائنه التي لا يطلع على ما فيها ولا يملكها غيره، أو أنها ساقطة من لدنه من مكان لا يعلمه غيره، وضمير الخطاب هذا يعود إلى سيد المخاطبين على طريق الالتفات وتقدمت القصة مفصلة في الآية ٨٤ من الأعراف المارة في ج ١، ولهذا قال تعالى «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ٨٣» أي من قومك يا محمد المتغالين في الظلم، بل هي قريبة منهم إذا أصروا على ظلمهم ولا شك أنا نوقع بهم ما أوقعناه بغيرهم من العذاب، وفي الآية تهديد لكل ظالم لأن الذي أهلك الله به شذاذ قوم لوط من الحجارة لا يبعد أن يرمي العرب أهل الظلم كافة، قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» تقدم نسبه بالأعراف
صفحة رقم 146
«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» في سعة من الرزق موسرين غير محتاجين لأكل أموال الناس باطلا بالخلسة «وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ٨٤» بكم وباله لا يترك منكم أحدا، ويبدل الله خصبكم قحطا، وسعتكم ضيقا، ورخصكم غلاء، فيسلب نعمكم كلها ويحل بكم نقمه إن لم تتوبوا من عملكم هذا، وذكرنا في الآية ٨٥ من الأعراف أن مدين أحد أولاد إبراهيم عليه السلام، وأنه بنى المدينة هذه فسمّاها باسمه، والمراد أهلها، ثم أكد عليهم بما يزيد في زجرهم بقوله «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» العدل، بتقويم لسان الميزان ومكانه وتسوية المكيال من كل أطرافه، وفائدة التصريح بالأمر بالإيفاء مع أن النهي الوارد في الآية السابقة يستلزمه، لأن النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو مستلزم له تضمنا أو التزاما، لأن الخلاف بمقتضى اللفظ، لا أن التحريم والوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ. النعي بما كانوا عليه من القبح وهو النقص مبالغته بالكسف، ثم الأمر بالضد مبالغته في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكفر عكسا، وتقييده بالقسط يفيد أن الفضل الزائد يكون محرمّا أيضا كالنقص، لأن النقص سرفة من المشتري والزيادة سرفة من البائع، وهذا ما هو واقع ببعض بلادنا، ولا مانع ولا وازع، لأن من الكيالين والملتزمين للباحات التي يباع بها الحبوب وغيرها يفعلون ذلك على علم ومرأى من الحكومة، فنسأل الله أن يبصّر المؤمنين بعيوبهم ويرشدهم للسداد والصواب في كل أمورهم «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» أي لا تنقصوا أموالهم، وفيه معنى التكرار لما سبق أيضا تحذيرا من عاقبة الأمر
ومبالغة بالتأكيد، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به، فكيف إذا كان ثلاثا «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥» وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي.
واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها، لأن معناه مطلق الفساد، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته، مشين لهم، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم، ولهذا يقول «بَقِيَّتُ اللَّهِ» التي أبقاها لكم من الحلال في

الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة «خَيْرٌ لَكُمْ» مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٦» بالله المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ٨٧» لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن، لأن الله نهانا عن ذلك، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها، لأن ذلك كله بيد الله وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها «قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ» بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك. هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك، كيف وهو خطيب الأنبياء، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. لأن الله تعالى يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) الآية ٢٥ من العنكبوت الآتية، أي أن صلاتك هذه تأمرك «أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الأوثان «أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» من النقص والزيادة «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ٨٨» في زعمك وزعم أصحابك فلماذا ابتدعت هذا علينا فلو كنت كذلك لما كان يجوز لك أن تشق عصا قومك، ولا يجدر بك أن تخالفهم وتسفه عاداتهم. هذا إذا كان وصفهم له بتلك الصفتين على الحقيقة، وإذا كانوا يريدون الاستهزاء فيكون المراد ضدهما أي السفيه الضال الغاوي، لأن العرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ سليم، وللأعمى بصير، وللفلاة المهلكة مفازة، وهكذا «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» تقدم مثلها «وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» حلالا بفضله ورحمته من غير نجس وتطفيف، وكان عليه السلام كثير النعم كثير الخير، وفي هذه الجملة
صفحة رقم 148
معنى الاستفهام، أي إذا كنت كذلك فهل يمكن أن أخالف أمره وأوافق هواكم وأكتم عليكم ما أمرني به ربي أن أبلغه إليكم كلا لا أقصد ذلك «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» فاسبقكم لفعله وأستبد به دونكم مع اعترافكم بكمال عقلي وحسن سجيّتي وإني أختار لكم ما أختاره لنفسي وأنهاكم عما أنزه نفسي عن اقترافه ولا أفعل شيئا قط وأنا أنهى عنه إذ لا يليق بالرجل ذلك، وعليه قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |