﴿٢٥ - ٤٩﴾ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
إلى آخر القصة (١) أي: ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين إلى قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال لهم: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: بينت لكم ما أنذرتكم به، بيانا زال به الإشكال.
﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ﴾ أي: أخلصوا العبادة لله وحده، واتركوا كل ما يعبد من دون الله. ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ إن لم تقوموا بتوحيد الله وتطيعوني.
﴿٢٧﴾ ﴿فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ أي: الأشراف والرؤساء، رادين لدعوة نوح عليه السلام، كما جرت العادة لأمثالهم، أنهم أول من رد دعوة المرسلين.
﴿مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب، الذي لا ينبغي غيره، لأن البشر يتمكن البشر، أن يتلقوا عنه، ويراجعوه في كل أمر، بخلاف الملائكة.
﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أي: ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة، بزعمهم.
وهم في الحقيقة الأشراف، وأهل العقول، الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالأراذل، الذين يقال لهم الملأ الذين اتبعوا كل شيطان مريد، واتخذوا آلهة من الحجر والشجر، يتقربون إليها ويسجدون لها، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس؟.
وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ أي: إنما اتبعوك من غير تفكر وروية، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك، يعنون بذلك، أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب، يعرفونه ويتحققونه، لا كالأمور الخفية، التي تحتاج إلى تأمل، وفكر طويل.
﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ أي: لستم أفضل منا فننقاد لكم، ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ وكذبوا في قولهم هذا، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه.
ولهذا ﴿قَالَ﴾ لهم نوح مجاوبا ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ أي: على يقين وجزم، يعني، وهو الرسول الكامل القدوة، الذي ينقاد له أولو الألباب، ويضمحل في جنب عقله، عقول الفحول من الرجال، وهو الصادق حقا، فإذا قال: إني على بينة من ربي، فحسبك بهذا القول، شهادة له وتصديقا.
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾ أي: أوحى إلي وأرسلني، ومنَّ علي بالهداية، ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: خفيت عليكم، وبها تثاقلتم.
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أي: أنكرهكم على ما تحققناه، وشككتم أنتم فيه؟ ﴿وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ حتى حرصتم على رد ما جئت به، ليس ذلك ضارنا، وليس بقادح من يقيننا فيه، ولا قولكم -[٣٨١]- وافتراؤكم علينا، صادا لنا عما كنا عليه.
وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم، وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية، فلا نقدر على إكراهكم، على ما أمر الله، ولا إلزامكم، ما نفرتم عنه، ولهذا قال: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: على دعوتي إياكم ﴿مَا لا﴾ فستستثقلون المغرم.
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ﴾ وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء، فقال لهم: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: ما ينبغي لي، ولا يليق بي ذلك، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام، والإعزاز والإعظام ﴿إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم.
﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ حيث تأمرونني، بطرد أولياء الله، وإبعادهم عني. وحيث رددتم الحق، لأنهم أتباعه، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل.
﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾ أي: من يمنعني من عذابه، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال، الذي لا يمنعه من دون الله مانع.
﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ما هو الأنفع لكم والأصلح، وتدبرون الأمور.
﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ أي: غايتي أني رسول الله إليكم، أبشركم، وأنذركم، وأما ما عدا ذلك، فليس بيدي من الأمر شيء، فليست خزائن الله عندي، أدبرها أنا، وأعطي من أشاء، وأحرم من أشاء، ﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فأخبركم بسرائركم وبواطنكم ﴿وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ والمعنى: أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي، ولا منزلة سوى المنزلة، التي أنزلني الله بها، ولا أحكم على الناس، بظني.
﴿وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ أي: ضعفاء المؤمنين، الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ فإن كانوا صادقين في إيمانهم، فلهم الخير الكثير، وإن كانوا غير ذلك، فحسابهم على الله.
﴿إِنِّي إِذًا﴾ أي: إن قلت لكم شيئا مما تقدم ﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا تأييس منه، عليه الصلاة والسلام لقومه، أن ينبذ فقراء المؤمنين، أو يمقتهم، وتقنيع لقومه، بالطرق المقنعة للمنصف.
فلما رأوه، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم، ولم يدركوا منه مطلوبهم ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ من العذاب ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فما أجهلهم وأضلهم، حيث قالوا هذه المقالة، لنبيهم الناصح.
فهلا قالوا إن كانوا صادقين: يا نوح قد نصحتنا، وأشفقت علينا، ودعوتنا إلى أمر، لم يتبين لنا، فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف، الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه، ولكنهم في قولهم، كاذبون، وعلى نبيهم متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة، فضلا عن أن يردوه بحجة.
ولهذا عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب، وتعجيز الله، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ﴾ أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته، أن ينزله بكم، فعل ذلك. ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ لله، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء.
﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ أي: إن إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم، لردكم الحق، فلو حرصت غاية مجهودي، ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئا، ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم بما يريد ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم بأعمالكم.
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح، كما كان السياق في قصته مع قومه، وأن المعنى: أن قومه يقولون: افترى على الله كذبا، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله، وأن الله أمره أن يقول: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أي: كل عليه وزره ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الآية معترضة، في أثناء قصة نوح وقومه، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء، فلما شرع الله في قصها على رسوله، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته، ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أي: هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه، أي: فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
فإذا زعموا - مع هذا - أنه افتراه، علم أنهم معاندون، ولم يبق فائدة في حجاجهم، بل اللائق في هذه الحال، الإعراض عنهم، ولهذا قال: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ أي: ذنبي -[٣٨٢]- وكذبي، ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أي: فلم تستلجون في تكذيبي.
وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ أي: قد قسوا، ﴿فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أي: فلا تحزن، ولا تبال بهم، وبأفعالهم، فإن الله قد مقتهم، وأحق عليهم عذابه الذي لا يرد.
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ أي: بحفظنا، ومرأى منا، وعلى مرضاتنا، ﴿وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: لا تراجعني في إهلاكهم، ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ أي: قد حق عليهم القول، ونفذ فيهم القدر.
فـ ﴿قَالَ﴾ الله له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ الذين وعدتك بإنجائهم ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ أي: هذا الدعاء الذي دعوت (١) به، لنجاة كافر، لا يؤمن بالله ولا رسوله.
﴿فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي: ما لا تعلم عاقبته، ومآله، وهل يكون خيرا، أو غير خير.
﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ أي: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين.
فحينئذ ندم نوح، عليه السلام، ندامة شديدة، على ما صدر منه، و ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
-[٣٨٣]-
فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين، ودل هذا على أن نوحا، عليه السلام، لم يكن عنده علم، بأن سؤاله لربه، في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله ﴿وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بل تعارض عنده الأمران، وظن دخوله في قوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾.
وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم، والمراجعة فيهم.
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه، فبارك الله في الجميع، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها.
﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدنيا ﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: هذا الإنجاء، ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك، أحللنا به العقاب، وإن متعوا قليلا فسيؤخذون بعد ذلك.
قال الله لنبيه محمد ﷺ بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة، التي لا يعلمها إلا من منَّ عليه برسالته.
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ فيقولوا: إنه كان يعلمها.
فاحمد الله، واشكره، واصبر على ما أنت عليه، من الدين القويم، والصراط المستقيم، والدعوة إلى الله ﴿إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي، فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه.