آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ
ﮣﮤ ﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱ

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَعَانِي السُّورَةِ وَغِلْظَةِ وَعِيدِهَا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِينَ أَيَّامَئِذٍ.
وَسَبَبُ نُزُولهَا فِيمَا قَالَه الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوَيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ عَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَفَاخَرُوا فَتَعَادُّوا السَّادَةَ وَالْأَشْرَافَ مِنْ أَيِّهِمْ أَكْثَرُ عَدَدًا فَكَثُرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بني سهم، ثمَّ قَالُوا نعدّ مَوتَانا حَتَّى زاروا الْقُبُور فعدوا الْقُبُور فكثرهم بَنو سَهْمٍ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ الْجَرْمِيِّ قَالَ: نزلت فِي قبيلين مِنَ الْأَنْصَارِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا بِالْأَحْيَاءِ ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ، تُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِثْلُ فُلَانٍ، وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وَقَدْ عُدَّتِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نزلت بَعْدَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمَاعُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّة.
وَعدد آياتها ثَمَان.
أغراضها
اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْبِيخِ عَلَى اللَّهْوِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِإِيثَارِ الْمَالِ وَالتَّكَاثُرِ بِهِ وَالتَّفَاخُرِ بِالْأَسْلَافِ وَعَدَمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا فِي الْقُبُورِ كَمَا صَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَعَلَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ.
وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيمَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْجَحِيمِ.
وَأَنَّهُمْ مبعوثون ومسؤولون عَنْ إِهْمَالِ شُكْرِ الْمُنعم الْعَظِيم.
[١- ٤]
[سُورَة التكاثر (١٠٢) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

صفحة رقم 518

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)
أَلْهاكُمُ أَيْ شَغَلَكُمْ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْكُمْ الِاشْتِغَالُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهْوَ شُغْلٌ يَصْرِفُ عَنْ تَحْصِيلِ أَمْرٍ مُهِمٍّ.
والتَّكاثُرُ: تَفَاعُلٌ فِي الْكُثْرِ أَيْ التَّبَارِي فِي الْإِكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي كَثْرَتِهِ.
فَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْعَدَدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْلَافِ لِلِاعْتِزَازِ بِهِمْ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:
٣٥].
وَقَالَ الْأَعْشَى:

وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا بن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»
فَهَذَا جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي التَّكَاثُرِ اقْتَضَاهُ حَالُ الموعظة ساعتئذ وتحتملة الْآيَةُ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ غِلْظَةِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: ٦] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الثَّرَاءِ مِنْهُمْ لقَوْله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ٨]، وَلِأَنَّ سَادَةَ الْمُشْرِكِينَ هم الَّذين آثاروا مَا هُمْ فِيهِ مِنْ النِّعْمَةِ عَلَى التَّهَمُّمِ بِتَلَقِّي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَدَّوْا لِتَكْذِيبِهِ وَإِغْرَاءِ الدَّهْمَاءِ بِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ لَهُ. فَلَمْ يَذْكُرْ الْمُلْهَى عَنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالتَّدَبُّرُ فِيهِ، وَالْإِنْصَافُ بِتَصْدِيقِهِ. وَهَذَا الْإِلْهَاءُ حَصَلَ مِنْهُمْ وَتَحَقَّقَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حِكَايَتُهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي.
وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا

صفحة رقم 519

الْخُلُقِ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُحَذَّرُونَ مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْذَرُونَ مِنْ أَنْ يُلْهِيَهُمْ حُبُّ الْمَالِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَيَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُفَاجِئَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ لَاهُونَ عَنِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الْحَدِيد: ٢٠] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ غَايَةٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِفِعْلِ أَلْهاكُمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: ٩١]، أَيْ دَامَ إِلْهَاءُ التَّكَاثُرِ إِلَى أَنْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، أَيْ اسْتَمَرَّ بِكُمْ طُولَ حَيَاتِكُمْ، فَالْغَايَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِحَاطَةِ
بِأَزْمَانِ الْمُغَيَّا لَا فِي تَنْهِيَتِهِ وَحُصُولِ ضِدِّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا إِلَى الْمَقَابِرِ انْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا.
وَلِكَوْنِ زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِبَارَةً عَنِ الْحُلُولِ فِيهَا، أَيْ قُبُورَ الْمَقَابِرِ.
وَحَقِيقَةُ الزِّيَارَةِ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ حُلُولًا غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ، فَأُطْلِقَ فِعْلُ الزِّيَارَةِ هُنَا تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ حلولهم فِي الْقُبُور يَعْقُبُهُ خُرُوجٌ مِنْهَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي زُرْتُمُ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ مِثْلَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ لِلْمُتَكَاثِرِ بِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّكَاثُرُ، أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْقُبُورِ تُعِدُّونَهَا. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَا رَوَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ تَفَاخَرُوا بِكَثْرَةِ السَّادَةِ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا آنِفًا، فَتَكُونَ الزِّيَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ لِتَعُدُّوا الْقُبُورَ، وَالْعَرَبُ يُكَنُّونَ بِالْقَبْرِ عَنْ صَاحِبِهِ قَالَ النَّابِغَةُ:

لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بِجِلِّقٍ وَقَبْرٍ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ
وَقَالَ عِصَامُ بْنُ عُبَيْدٍ الزِّمَّانِيُّ، أَوْ هَمَّامٌ الرَّقَاشِيُّ:
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ قَبْرًا وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ الذَّامِّ
أَيْ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ مِنْكَ قَبْرًا، أَيْ صَاحِبُ قَبْرٍ.

صفحة رقم 520
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية