ﰡ
فقالوا الله ورسوله أعلم، قال سورة البقرة، ثم قال أي آيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال آية الكرسي. ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة. وهي مئنان وست وثمانون آية، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» (١) تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه، ومن كونه اسما للسورة، ومن أنه فواتح بعض أسماء الله الحسنى، وأنها سرّ من أسرار الله ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، وغير ذلك فراجعه في ج ١ و ٢. قال الشعبي هي سر الله فلا تطلبوه. وقيل في المعنى:
بين المحبين سر ليس يغشيه | قول ولا قلم للخلق يحكيه |
وكل يدعي وصلا بليلى | وليلى لا تقر لهم بذاك |
وللزنبور والبازي جمعا | لدى الطيران أجنحة وخفق |
ولكن بين ما يصطاد باز | وما يصطاده لزنبور فرق |
يقضى على المرء في أيام محنته | حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن |
أيا بايعا هذا ببخس معجّل | غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم |
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم |
مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:
والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب الله تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم: الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به، لأن العارية مستردة. الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود، فإذا انقطع طفئت، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور، ووجه
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به | وإن ذكرت بسوء كلهم أذن |
ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول، فقال عز قوله «أَوْ كَصَيِّبٍ» هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل، والمراد به هنا المطر، أي أو مثلهم مثل مطر نازل «مِنَ السَّماءِ» وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فِيهِ ظُلُماتٌ» تقدم معناها في الآية ١٧، «وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» الذي يسمع من اصطدام السحاب، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه الله تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ» أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء «فِي آذانِهِمْ» خوفا وفزعا «مِنَ» سماع «الصَّواعِقِ» اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة
ثم أنزل الله الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة، فقال جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» المكلفون «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» وحده، واعلم أن جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كررت في القرآن ١٤ مرة في البقرة، و ٣ في النساء، و ٢ في يونس، و ٣ في الحج، و ٢ في فاطر، وواحدة في لقمان، وواحدة في الحجرات، وان غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته، ولا يستحقها إلا الله تعالى «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ» خلق «الَّذِينَ
من الأمم البائدة والموجودة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢١» عذابه وتنجون من عقابه، وهو الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» وطاء تستقرون عليها «وَالسَّماءَ بِناءً» لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ» المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها «رِزْقاً لَكُمْ» تقتانون به «فَلا تَجْعَلُوا» أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون «لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها من صنع أيديكم، وخلق ربكم القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من الصافات ج ٢، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٢٢» أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم، الذي لا مثيل له ولا نظير «وَإِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) الآية ٢٥٧ من سورة الأنعام المارة في ج ٢، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة. وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا، هذا على أن الضمير (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن، لأن مجرى الكلام فيه، لأن الله تعالى يقول (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه، ولقوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية ٣٨، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة، من أنه تارة يأتي بالقصة
ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم على الوجه الأول، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا، وقد أشرنا أول سورة البلد، وفي الآية ١٢ من سورة الأعراف ج ١، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف/ ما/ التي بعد إذا مثل (إِذا ما جاؤُها) وغيره لا تعد زائدة، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا، راجع الآية ٢٧ من سورة فصلت في ج ٢، والآية ٩٧ من سورة المائدة، والآيتين من آخر سورة التوبة الآتيتين، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى، وذلك شأن المؤمن الورع «وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ» من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٢٣» في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة، وأنفة من الشهادة الباطلة، وخوفا من أن يصموهم بالكذب، لأن أمر إعجازه ظاهر، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح، «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية ٣٩ من سورة يونس والآية ١١ من سورة هود المارتين في ج ٢، وتحدينا الخلق كافة
مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه:
واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب، لأن الله تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا
رب محمد أن يضرب الأمثال بها، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه، فلا غرو أن يضرب الله به المثل في الصغر، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر، راجع الآية ١٨ من سورة الغاشية في ج ٢. وقد أهلك الله تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره، وقد ضرب صلّى الله عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش وألح من ذبابة، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك. ولم يقل تعالى
يخلفه، راجع الآية ١٧٣ من الأعراف في ج ١ تقف على هذا أيضا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على نقضهم عهد الله وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر الله بوصله، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان بالله ورسوله «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْخاسِرُونَ ٢٧» المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب. قال تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم «فَأَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها، فكونتم وصورتم، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٨» فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه، والشر بمثله، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار
أكفر بعد ردّ الموت عني | وبعد عطائك المائة الرتاعا |
قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها. تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر، مصداقا لقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية ٩ من سورة النحل في ج ٢، وان معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن، فيعثر عليه زريجا، فيظهر له ما هو أحسن، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة، فاخترعوا البنادق سنة ١٦٤٦ م والمدافع سنة ١٨٨٦، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة ١٩٢٤ م، وزيت الكاز للتنوير سنة ١٨٢٦، والمكرسكوب في جرمانيا سنة ١٦٢١، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة ١٧٤٠ م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة ٦٩ قبل الميلاد، وسيكتشفون ويخترعون ما هو لحبس بالحسبان، ولا يخطر على العقل، راجع الآية من سورة الحجر والآية ٣٨ من سورة النحل في ج ٢. هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر، لأن الله تعالى قال (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه، فيكون تناوله حراما، وإلا فحلال
وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا، راجع هذه الآية أول سورة الجن والآيات من النمل والقصص في ج ١ والكهف والصّافات في ج ٢ كي تطمئن بوجودهم وأعمالهم وأفعالهم، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه، أجارنا الله من أمثالهم. ثم ان الله تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه؟؟ من المهلكات، قال صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. «قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها «قالَ» تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (٣٠) من المصلحة والحكمة. ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم الله في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا الله، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وان الله تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم، لأن الله تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة، لأن الاعتراض على الله من أعظم الذنوب، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام،
، وكسي لباسا من الجنة من ظفر
قال تعالى «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من الله تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا، وإن كان فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ومن هنا قيل (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالامتحان «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل «فَقالَ أَنْبِئُونِي
الأشخاص قالوا خلق الله تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها، وعلمها آدم، فقال هذا بعير، وهذه فرس، وهذا طير، وهذه سمكة، وهذا حجر، وهذا مدر، حتى أتى على آخرها، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٣١) بقولكم اني لم أخلق أفضل منكم وأعلم «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا» بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم «إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره «الْحَكِيمُ» (٣٢) فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى «قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت؟؟ وسمت «قالَ» عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد «وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم «وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (٣٣) من قولكم لن يخلق الله أفضل منا ولا أعلم.
مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:
وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، وقد خرق الإجماع بقوله هذا، وقد قيل بعد أن حجّ: ؟؟
وأفضل الخلق على الإطلاق | نبينا فمل عن الشقاق |
وما سمي الإنسان إلا لأنه | ولا القلب إلا أنه يتقلب |
قد سمي القلب قلبا من تقلبه | فاحذر على القلب من قلب وتحويل |
قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما، وتمثل باكيا، فقال له آدم ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم، فاغتما لذلك، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد؟ قالا بلى، قال هي التي نهاكما الله عنها، فأبيا قربانها، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن الله لم ينهكما عن مثلها، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على الله، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة، وناولت آدم، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوءاتهما، وقال الله يا آدم ما حملك على ما فعلت؟
قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا، وان حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا. راجع القصة مفصلة في الآية ١٦ من سورة الأعراف في ج ١، «وَقُلْنَا اهْبِطُوا» الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ٣٦» انقضاء آجالكم فيها، فأهبط آدم على جبل (نود) في سرنديب من أرض الهند، وحواء في جدّة من أرض الحجاز، وإبليس في نجد، والحيّة بأصبهان من أرض العجم، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من الله تعالى حتى بلغ منه الجهد، وأكل هو وزوجته من كدهما، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر، فرنت حواء عند ما سمعت كلام الله أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة. واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة كما وضحناه في الآية ١٢ من سورة طه ج ١ فراجعه، وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات، وقد
قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن. وله عن ابن مسعود قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس مني. وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. وفي رواية ان في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر.
ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» كانت سببا لقبول توبته، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة، والكلمات هي قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية ٢٣ من الأعراف ج ١، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة، وهذا ما ينافي القول بأن الله تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه، ينفيه قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا «الرَّحِيمُ ٣٧» كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم. قال تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» الأمر للأربعة المذكورين آنفا، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة (مِنْها) لبيان أن الهبوط من الجنة، وزيادة لفظ (جَمِيعاً) للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها.
وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) الآية، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد، راجع الآية ٧٨ من الأنبياء ج ٢،
«وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ» من القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم لكونه جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد الله وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة، ومن كذبه فقد كذبها «وَلا تَكُونُوا» أيها الإسرائيليون «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي» المسطورة في التوراة المبينة لذلك «ثَمَناً قَلِيلًا» فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند الله إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ ان شيئا «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ٤١» لا تتقوا غيري، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي. وتقديم المفعول يفيد الحصر، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤٢» أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل. وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل الله، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل، أو يخفي الحق ويظهر الباطل، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام الله.
وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين: الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |
مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:
واعلم أن العقل لغة الإمساك، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة. واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر. وهو قسمان وهي وكسبي،
إن العقل عقلان... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع... إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس... وضوء العين ممنوع
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه. وروى البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون. وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته، وان خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن تحمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه، ويحلم عند الغضب، ويجتنب الحدّة مهما استطاع، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء الآداب، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة، والغضب يقبح صورة الغضبان، ويثلم دينه، ويعجل ندمه، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة،
إلا يكن عظمي طويلا فإنني | له بالخصال الصالحات وصول |
ولم أر كالمعروف أما مذاقه | فحلوا وأما وجهه فجميل |
قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة، وهو قول غير سديد، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وكذلك النصارى، لأن الشرائع، كلها منزلة من الله تعالى، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية ٥٢ ج ١ أن أصول الأديان كلها واحدة، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق، فيدخل فيهما جميع الأمة، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم، فقال عز قوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
من أهل زمانكم، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين، وكرر صدر هذه الآية بمثل الآية ٤٠ المارة وستكرر أيضا في الآية ١٢٣ الآتية، وهذه الوصية الثانية «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي» فيه «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» لزمها في الدنيا، بل لا بد ان تجازى هي نفسها على عملها. واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله ان لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه. وتقوى الله تتضمن ما تضمنه حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي، فإذا اتقى الله الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف. والأصل في ذلك قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ | ) الآية ١٧٨ الآتية، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الآيتين ٦٢ و ٦٣ من سورة يونس في ج ١، فمن اتقى الله حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق، والمتقي ولي الله، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي، فصار معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث اتق الله حيثما كنت تكون ولي الله بتقواك إياه، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه، لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الآية ١٨٧ من آل عمران الآتية، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الآية ١٢١ من آل عمران الآتية أيضا، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٤ من سورة الطلاق الآتية، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى |
من عرف الله فلم تغنه | معرفة الله فذاك الشقي |
ما يصنع العبد بعز الغني | والعز كل العز للمتقي |
يريد العبد أن يعطى مناه | ويأبى الله إلا ما أرادا |
يقول العبد فائدتي ومالي | وتقوى الله أفضل ما استفادا |
ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم | تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر |
يخرج الله المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
راجع الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية. وعنه أيضا قال من اتقى الله وقاه كل شيء، أي حفظه مما يخافه، وقال داود بن نصر الطائي: ما خرج عبد من ذل
واتق الله فتقوى الله ما | جادرت قلب امرئ إلا وصل |
ليس من يقطع طرقا بطلا | إنما من يتق الله البطل |
وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ الله تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد، وأن يكل أمره إليه، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه، لأن خزائن الوجود كلها بيد الله تعالى، وأزمّتها إليه، ومفاتحها منوطة به، فلا معطي ولا مانع سواه، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره، راجع الآية ٥ من سورة الفاتحة في ج ١، والآية ٧٠ من سورة الأنبياء وما ترشدك إليه تجد ما يثلج صدرك.
وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره الله له لا يقدرون، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشىء لم يقدره الله عليه لن يقدروا، راجع الآية ١٣ من سورة الأنعام في ج ٢ وما ترشدك إليه من الآيات. فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة،
هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا فراجعها مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية. ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه، وهي أن كل نفس لا بد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ١٩ من سورة فاطر في ج ١، «وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» إذا كانت كافرة مطلقا، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن الله، ولمن يرتضيه، راجع الآية ٢٨ من سورة الأنبياء ج ٢، «وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» عنها أي فدية تقيها من عذاب الله «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ٤٨» فيه من العذاب، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة. قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ٤٩» راجع الآية ٨ من سورة القصص في ج ١ وما ترشدك إليه في هذا البحث «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه.
مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:
قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا،
«وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد. قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب، وقد وعد الله موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة، فوضعوه، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه، فصار يخور، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا. راجع تفصيل هذه القصة في الآية ١٤٨ من سورة الأعراف في ج ١، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» إلها فعبدتموه «مِنْ بَعْدِهِ»
مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:
واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
قال بلى يا رب، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى، وقال للباقين «فتاب عليكم» ربكم بامتثالكم أمره «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ٥٤» بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة. قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» علانية مثل ما نراك وترانا، وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته. فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة، وخرج معهم إلى طور سيناء، وهذا الميقات الثاني، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام الله، فقال لهم أدنوا مني، فدخل الغمام، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام الله جل شأنه يقول له أنا الله ذو بكة لا إله إلّا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة، فاعبدوني لا تعبدوا غيري، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة راجع الآية ١٩ المارة «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ٥٥» كيف متّم بسببها. ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى الله ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم الله تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٦» نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى. وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية ١٥٥ من سورة الأعراف ج ١ بأوضح من هذا، فراجعه.
قال تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» في التيه ليقيكم من حر الشمس، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم «وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» غذاء وفاكهة لكم، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم. المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم، فيتناولونه نهارا.
والسلوى طير يشبه السّمان، قد سخره الله تعالى إليهم وذلله، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه. روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
أي أن الكمأة شيء أنبته الله تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم، فهي منّ منّ الله تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به، لا لكل أمراض العيون، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها، وقد قال الله تعالى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية ٧٧ من سورة النحل ج ٢، والضار والنافع هو الله تعالى. راجع الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٢، وقلنا لهم: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بلا تعب ولا كلفة «وَما ظَلَمُونا» حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد، كما سيأتي قريبا «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥٧» ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره، لأن وباله يعود عليهم. قال تعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية ٢٤ من سورة المائدة الآتية، أو بيت المقدس على قول، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم، إذ لها سبعة أبواب «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون «نَغْفِرْ لَكُمْ
لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ٥٨» منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها. وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء الله تعالى القائل.
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فقالوا حنطة بدل حطة، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحقون على أستاههم، وقالوا حبة شعيرة. ورويا عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم (أي لم ينتن ولم يتغير)، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.
ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم «رِجْزاً» عذابا مميتا «مِنَ السَّماءِ» من جهتها، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ٥٩» يخرجون عن طاعة الله ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم. ونظير هذه الآيات الآيات ١٦٠ فما بعدها من سورة الأعراف ج ١. قال تعالى «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» فلا يتعدى سبط على شرب غيره، وقلنا لهم «كُلُوا» من المنّ والسلوى حلوا ودسما «وَاشْرَبُوا» من الماء العذب الذي جاءكم «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» بلا مشقة ولا مؤنة «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٦٠» وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم أعظم، إذ فجر الله له الماء لأصحابه من بين
قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ» وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين، لأنه لا يتبدل، فكان بمنزلة الواحد «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها» البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة «وَقِثَّائِها» يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما «وَقَوْمَها» الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف، لأنه داخل في قوله تعالى (وَبَصَلِها) الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها، وكذلك يقال فيما قبله وبعده، لأن الله تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها «وَعَدَسِها» يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها «وَبَصَلِها» يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها «قالَ» لهم موسى عليه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى» أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أحسن وأطيب، وتتناولونه عفوا بلا تعب، وإذا كنتم تصرون على هذا «اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص، وعلى مطلق بلدة بالتنوين، فإذا أردت الأول منعت من الصرف، وإذا أردت الثاني صرفت «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» من ذلك في أي بلدة تقصدونها «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الفاقة أحاطت بهم من كل جانب، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم. ولا وجه لمن فسّرها بالجزية، لأنها لم تضرب عليهم، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ» رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا
ونظير هذه الآية الآية ٦٩ من سورة المائدة الآتية.
مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة، فنكثتم ونقضتم، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل «وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم، وها هو ذا فوقكم كالظلة «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» فيها واعملوا به «بِقُوَّةٍ» جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة «وَاذْكُرُوا» اقرأوا وادرسوا واحفظوا «ما فِيهِ» من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي، ولا تنسوا شيئا منها «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٦٣» سقوط جبل الطور عليكم. فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية
وخلاصة هذه القصة أن الله حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء، كما أخبر الله عنهم في الآية ١٦٢ من الأعراف في ج ١، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة، ويبقونها حتى صباح الأحد، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر، وإذا هرب إلى البرّ مات، فيضطر للبقاء في الحياض، فيأتون ويأخذونه دون كلفة، وبهذه الصورة احتالوا على صيده، وذلك في زمن داود عليه السّلام، واستمروا على ذلك مدة، ولما رأوا أن الله لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت،
مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:
هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية ٦٥ من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن الله تعالى كرر هذه الحادثة في الآية ٦٣ من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية ١٦٢ من الأعراف ج ١ بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية ١٥٥ من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره الله عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على الله ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل
«قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها الله تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام
فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ»
كما أحيا الله هذا الميت
يوم القيامة فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ»
هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
(٧٣) معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة. وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن الله تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى الله بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة الله. هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية ٢٥٨ فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه الله لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز الله عنه.
الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق. قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي
مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:
وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم. قال تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان بالله وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام الله من موسى عليه السّلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا الله يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥) أن الله تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على الله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه
تمنى كتاب الله أول ليلة | تمني داود الزبور على رسل |
وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية ١١١ الآتية والآيتين ٧٥/ ١٢٥ من آل عمران الآتية والآية ٨١ من سورة يس و ١٤ من سورة القيامة في ج ١ و ٥٩ من الزمر و ١٥ من الانشقاق ج ٢، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي ٥٥ آية. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٨٢) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ٨٣» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية ١٥١ من الأعراف والآية ١٥ من الإسراء في ج ١ ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية ١٥١ من الأنعام في ج ٢ فراجعها، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه
لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح الله تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية ٣٨ من سورة الأنبياء في ج ٢ «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (٨٧) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم الله بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (٨٨) منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته | ولكنه رمح وثان وثالث |
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ»
لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩١) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.
وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩٣) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية ١١١ الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية ٢١ من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٩٤) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا
مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به. ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (٩٦) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن الله تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل الله تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»
أي طرحه وقذفه «فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (١٠٠) أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد الله الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم
«وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو محمد صلّى الله عليه وسلم بدليل قوله «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» التوراة «كِتابَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب الله في هذه الآية هو الإنجيل، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء، لعدم سبق ذكره، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود. وقال أكثرهم إن المراد به التوراة، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك، والأول الذي جرينا عليه الأولى، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم، فكأنهم نبذوه «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» لعدم التقيد به والنظر إليه «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (١٠١) شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم. قال تعالى «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» من السحر والشعوذة «عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» في زمانه وعهده، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فانتهوا، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان. وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا، قالوا نعم، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد، فقالوا له أدن قال لا، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر الله، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد، ثم غاب عنهم، وفشا
مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:
هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام الله تعالى وكلام السحرة.
وقال ابن جرير الطبري إن الله عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم، فغير منكر أن يكون الله تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما «هارُوتَ وَمارُوتَ» اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله «وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» ابتلاء ومحنة «فَلا تَكْفُرْ» أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك الله بها على لسان رسله باتباعها، حذار حذار أيها الإنسان، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر، وإنما يقولان ذلك ليختبر الله عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقوله جل قوله
السحر من الكبائر التي نهى الله عنها، وتعلمه للعمل به حرام، وقد عده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وقد أمرتا باجتنابه، ولا يسعنا إلا الامتثال، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: حد الساحر (أي الذي هذه صفته) ضربه بالسيف- أخرجه الترمذي-. والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة الله تعالى، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا. هذا، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك، وإن الله قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت، فأهبطهما الله إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا، واستدل بقول لبيد:
تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما | وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر |
فإن يأت يوم يموت أبوكما | فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر |
وقولا هو المرء الذي لا حليفه | أضاع ولا خان الصديق ولا غدر |
إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
قالوا وكانت من أجمل الناس، فراوداها عن نفسها فأبت، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر، فأجاباها وشربا، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه، ففعلا ذلك أيضا، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها، ثم طارت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فلما أفاقا من سكرهما، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب الله تعالى، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما، ففعل، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا، فخسف بهما، فهما يعذبان حتى الآن، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، فقال لا إله إلا الله، فقالا مثله وسألاه، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان. فقصة باطلة لا أصل لها، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على الله تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن الله تعالى والعصمة من الذنوب، ولأن الله تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت، وكيف بصيرها الله كوكبا وقد عظم الله الكواكب وأقسم بها، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا» وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية، وصاروا يأتون رسول الله ويقولون راعنا يا محمد، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه، فقالت اليهود ألستم تقولونها؟
فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم الله ما ألعنكم وأخبثكم، فنهاهم الله تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء «وَاسْمَعُوا» أيها الناس نهي الله تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا «وَلِلْكافِرِينَ» الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي الله «عَذابٌ أَلِيمٌ ١٠٤» في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا، قال تعالى «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» من عبدة الأوثان «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم حسدا وبغيا، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه، فأكذبهم الله تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين
مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:
قال تعالى «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله كله خير وكلمه واحد، راجع الآية ١٠١ من سورة النحل في ج ٢، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب، فلم نبق لها أثرا، وقرىء ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر «أَوْ» ننزل «مِثْلِها» في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره الله تعالى، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام «أَلَمْ تَعْلَمْ» يا سيد الرسل «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٠٦» من نسخ وتبديل وتغيير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيه كيف يشاء ويريد «وَما لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم «مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه «وَلا نَصِيرٍ ١٠٧» يمنعكم من حلوله بكم، أو يشفع لكم عنده. وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فما هذا إلا من تلقاء نفسه، فلو كان من عند الله كما يقول لما فعل ذلك. وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه الله من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر
الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠ من سورة الجمعة الآتية.
وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم الله وحلل أو نهى وأمر، بل علينا الامتثال والقبول، لأن أفعال الله هو سبحانه أعلم بعللها، كما أنه لا يسأل عما يفعل، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل، وان القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته، أما من بعضها فلا ينكر، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل، والقليلون هم الممدحون في كتاب الله وكلام رسوله، ونسأل الله أن يجعلنا منهم.
وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ، ولم يكن فيها منسوخ وهي: الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث. ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي: الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى.
وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي: الأنعام والأعراف ويونس وهود
ثم وصى الله تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام الله أن يريهم إيّاه عيانا، كما مر في الآية ٥٦، فأهلكهم الله، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال، لأنها عبارة عن توصية، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ١٠٨» وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن.
مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية ١٠٨ وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول الله في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى لموسى «اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا. وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر، وهذا بعيد، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة. وقال بعضهم إن اليهود
لا يعجزه شيء، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه «حَتَّى» وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية ١٠٧ من سورة الأعراف في ج ١ لا يتجه أيضا، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى الله عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ. وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب، لأن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح. وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن
ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، قالت اليهود أما هذا فقد صبا، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء، ولم يوقف على صحته ولا على سنده، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث. قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» ولو بكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح
«وَقالُوا» أهل الكتابين «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» فرد الله عليهم بقوله جل قوله «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي ذلك ما يتمنعونه على الله من الأباطيل، وهو قول لا حقيقة له، لأنه لا بد وأن يصدر من الله الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على دعواكم هذه مما أنزل الله عليكم في كتابكم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ١١١» في ذلك، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها، تأمل.
مطلب مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:
فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود، وكفروا بعيسى عليه السلام، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا، فأكذبهم الله جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» في عمله مع الله وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» في الآخرة ويدخل الجنة «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ١١٢» على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة. «وَقالَتِ الْيَهُودُ» في مناظرتهم تلك «لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ» من الدين «وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ» منه أيضا، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام،
عنها فكأنها خربت، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه، إلا أن سياق الآية ينافيه، وعدم سبق الذكر يبعده، لأن هذه الحادثة في مكة، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ)، إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة، فعابهم الله تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم، والآية الآتية كذلك، فكونها فيهم أولى، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها. قال تعالى «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم، ثم بان خطؤهم، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت. وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه، وفيه نزلت الآية، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة الله تعالى، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان، وإلى أي جهة كانت. قال تعالى «وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن الله، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن الله، والعرب القائلون الملائكة بنات الله، لأنها صالحة للكل، فنزه نفسه الكريمة بقوله «سُبْحانَهُ» عما يقولون «بَلْ» هو إله الوالدين والمولودين، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ١١٦» خاشعون طائعون مخبتون منقادون، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا، بدليل قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الآية ٢٤ من سورة النمل في ج ١، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول، وصاحب هذا القول يقول بأن (من) في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء، إذ لا زائد في القرآن، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام. واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا، لأن المبدع الذي يعمل الشيء
وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» في الضلال، فوافق سؤالهم سؤالهم «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ١١٨» بها، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً» للمصدقين الموقنين «وَنَذِيراً» للمكذبين الشاكين «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ١١٩» الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم لله ورسوله «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ» يا سيد الرسل «الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» التي هم عليها، وليس فليس، وإذا كان كذلك «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنك على الحق المبين، وهذا قسم من الله تعالى وجوابه قوله عزّ قوله «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ١٢٠» بدلالة اللام الموطئة للقسم في (وَلَئِنِ) وقد ذكرنا في الآية ٦٥ من سورة الزمر في ج ٢ وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة منهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه، وينقلونه للناس كذلك «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك. وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد الله بن سلام وأصحابه، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ» فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ١٢١» في الدارين، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم، لأن مصيرها الفناء، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم، وذلك هو الخسران المبين. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ١٢٢» تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين ٤٠/ ٤٧ المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ١٢٣» وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن. وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام الله، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان:
وإذا كانت النفوس كبارا | تعبت في مرادها الأجسام |
قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه الله تعالى في الآيات ٧٦ فما بعدها من سورة الأنعام في ج ٢ من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة الله وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه الله منها على الصورة المبينة في الآية ٥٠ فما بعدها من سورة الأنبياء في ج ٢ أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية ١٠٠ فما بعدها من سورة الصافات في ج ٢ أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من الله تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية ١٤ الآتية منها، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية ٣٦ الآتية أيضا، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في الآية ٢٢ فما بعدها من سورة المعارج في ج ٢، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين. روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه الله تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية ٣٨ من سورة والنجم في ج ١، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ
ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤» من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم الله، وإذا أراد إيقافها قال بسم الله معجزة له، راجع الآية ٤١ من سورة هود ج ٢، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ١٢٥» فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس
الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب
وقد أجاب الله دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية ٣٣ من سورة العنكبوت في ج ٢، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح
«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية ٧٥ فما بعدها من سورة الأنعام ج ٢ «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ١٣١» وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو الله الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.
قال تعالى «وَوَصَّى بِها» بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» أيضا وصّى بها بنيه، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان الى ما هو أحوج، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٣٢» لله مخلصون له مصدقون بما آتاكم، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسؤولون عنهم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم الله تعالى بقوله «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله «إِذْ قالَ لِبَنِيهِ» الإثني عشر لما ذكرهم في الآية ٧ من سورة يوسف فى ج ٢ عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» إذا أنا مت قبلكم «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٣» الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء الله وهو قد توفي على هذه الوصية، ولم تكن إذ ذاك يهودية، إذ كانت على عهد موسى، راجع الآية ١٥٦ من الأعراف في ج ١ فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ» من الخير في أقوالها وأفعالها، ونواياها «وَلَكُمْ» معشر أهل الكتاب «ما كَسَبْتُمْ» من العمل والقول والنية أيضا «وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ١٣٤» كما نحن لم نسأل عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط، وقدمنا في الآية ٢٦ من سورة العنكبوت في ج ٢ مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها الله، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا. قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم
قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال هل أوصاك بشيء؟ قالت نعم، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك، قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن، وسنأتي على ذكره في الآية ٢٢٢ الآتية إن شاء الله، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله بما هو أهله، فقال وما طعامكم؟ قالت اللحم، قال وما شرابكم؟ قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب؟ قال ما طعامكم وشرابكم؟
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم (قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم) قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد (من المصافحة والتقبيل).
ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فأسمع ما أمرك به ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم، وحضرا الأساس وطمخاه، وباشرا برفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الحديث. ورويا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى الى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمته تعالى الى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس يا رسول الله إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال إلا الأذفر. ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه الله مثل صاحب القيل ومن قبله، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق، ولما حصل قصده
وقوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام، وكان الله تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك. وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب الله ثرى ساكنها ثلاثة أميال، ومن جهة الطائف سبعة أميال، ومن العراق عشرة، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة، وسبعة من اليمن، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية ٢٦ من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك. ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد، ويقال زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك الله يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله:
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم | ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة |
ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه | كذاك خليل الله ثم العمالقة |
وجرهم يتلو قصي قريشهم | كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه |
وخاتمهم من آل عثمان بدرهم | مراد المعالي أسعد الله شارقه |
وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية ٢٧ من سورة الحج الآتية.
قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي، وقواعده من حراء، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن. وسيبقى إن شاء الله معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره الله لخراب الكون، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة.
هذا، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ (تِلْكَ) أي بمثل هذه الآية قال تعالى «وَقالُوا» اليهود والنصارى يا أيها الناس «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى» أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى «تَهْتَدُوا» لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام، كما كان الحال في زمن إبراهيم، لهذا يقول الله لنبيه «قُلْ» لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى «بَلْ» تعالوا كلنا نتبع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان «حَنِيفاً» مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٣٥» كما
ولكنا خلقنا إذ خلقنا | حنيفا ديننا عن كل دين |
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «قُولُوا آمَنَّا» كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض «بِاللَّهِ» وحده «وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الإثني عشر من الأحكام «وَما أُوتِيَ مُوسى» من التوراة «وَعِيسى» من الإنجيل «وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» قبلهم من الوصايا «مِنْ رَبِّهِمْ» كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، وقولوا أيضا «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٦» له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة «فَإِنْ آمَنُوا» هؤلاء المخاطبون «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يا محمد أي بجميع الرسل والكتب «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الدين الحق مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم، وعنادا لكم، وحسدا بما أوتيتم، ومحاربة لله ورسوله، ونزاعا مع المؤمنين، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم، فاتركهم «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لما تريدونه منهم من الخير «الْعَلِيمُ ١٣٧» بمن يقبله منكم أو يرده عليكم. وهذه الآية ضمان من الله تعالى لرسوله بالنصر، وإظهار لكلمته عليهم، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة. ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها، وأجلاهم عن بلادهم، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب
وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية ٧ من سورة الإسراء والآية ٧ من سورة مريم المارتين في ج ١، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد الله، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى الله قبله وهو أكبر منه بستة أشهر، وابن خالته، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه، فهذا هو معنى المعمودية لا غير، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل، قال:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته | والذنب للطرف لا للنجم في الصغر |
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم | إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم |
بأنكم آمنتم به وصدقتموه. ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية. قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟
فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا. واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي الله عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.
السلام، ثم هددهم بقوله «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٤٤» من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم، وانه لا بد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره، فأنزل الله «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها «وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك، لأنهم يكذبون
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» تقدم تفسيرها في الآية ٢٠ من سورة الأنعام ج ٢، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد الله بن سلام وما رد عليه فراجعه، وأشرنا إلى عبد الله هذا في الآية ١٠ من سورة الأحقاف ج ٢ أيضا، «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٤٦» أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا. واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه، فإنه هو الثابت عند الله «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١٤٧» فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه. قال تعالىَ لِكُلٍّ»
من عباده ومخلوقاتهِ جْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها»
لهم وموجههم إليهاَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ»
أيها المؤمنون وبادروا بفعلها.
واعلموا أنكمَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً»
أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٤٨»
لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء. وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال الله
نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة. أو النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة، تدبر.
ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية ١٤٧ ونوهنا بالآية ١١٥ المارتين ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. الحكم لشرعي وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد، لها ولجهتها لغيره، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية ١١٥ المرة أيضا، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة. هذا،
ولما كان هذا من إتمام نعم الله على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ
كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار «فَاذْكُرُونِي» أيها الناس «أَذْكُرْكُمْ» عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم.
مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده الله تعالى من ذلك، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على الله تعالى، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه. وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٣٠ من سورة ق والآية ٤ من سورة طه في ج ١ والآية ١٧٨ من سورة الأنعام والآية ٦٥ من سورة الزمر في ج ٢ فراجعها وما ترشدك إليه من المواقع. ورويا عنه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورويا عن أبي موسى الأشعري: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، كمثل الحي والميت. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون الله تعالى.
ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر الله والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي. ثم أردف الذكر بطلب الشكر
وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية ١٣ من سورة لقمان ج ٢ وقال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) الآية ٢٣ من سورة الإسراء ج ١، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر فراجعهما. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ١٥٣» بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم، ولما صارت واقعة بدر في ٢٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل الله جل جلاله «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ» قولوا «أَحْياءٌ» حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة الله ورسوله لإعلاء كلمة الله والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم، وإنما نهى الله تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء
قال تعالى «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» أيها الناس «بِشَيْءٍ» نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله «مِنَ الْخَوْفِ» من العدو وقلة الأمن «وَالْجُوعِ» بتعذر «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع «وَالْأَنْفُسِ» بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي «وَالثَّمَراتِ» بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان. وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي، قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده، قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي، قالوا حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه.
مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:
ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥» على تلك البلايا الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» من تلك المصائب أو غيرها «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ١٥٦» فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ١٥٧» يهدي الله، المسترشدون برشده. قال عمر الفاروق رضي الله عنه: نعم العدلان الصلاة والرحمة، ونعمت العلاوة الهداية. ويفيد عطف
ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة. يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ولم يقل يا أسفا على يوسف. والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى الله لينجيه ممّا يترقب نزوله. روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله عنه بها خطاياه.
ورويا عن عبد الله: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد. وفي لفظ آخر حتى تنقعر.
وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة. فهذا كله وأمثاله عند الله تعالى للصابرين، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها، وليعلم العبد أن الله تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى. قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية ٣٥ من سورة الأنعام في ج ٢، فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا الله من غضب الله. وليعلم العبد أن عظيم الجزاء
هذا، ولما أشار الله تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج
مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:
قال تعالى «إِنَّ الصَّفا» الحجر الأملس «وَالْمَرْوَةَ» الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة، وقيل إن صفي الله آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى الله من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر الله ومشاعر الحج معالمه الظاهرة، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر الله تعالى أي مناسكه في الحج، وقد جعلها الله أعلاما لطاعته «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ» بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فعل فعلا زائدا على ما أوجبه الله عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» لطاعته مثيبه عليها «عَلِيمٌ ١٥٨» بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى من شعائر الله لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في الآية ١٩٦ الآتية إن شاء الله. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله هذه الآية. وهذا هو سبب الكراهة الواردة في
وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أبدا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا الحديث. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أرأيت قول الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة، وكان مناة اسم صنم حذو (قديد) [موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى الله عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها] وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة (للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما) فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.
الحكم الشرعي: يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل، وإلا فكلهم آثم.
وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه. قال تعالى
قال تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية ٤٤ من سورة الأعراف ج ١، وقال صلّى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا، فتقع على من يستحقها. هذا وما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن الله الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه، فكله مطلق، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة، فمن هذا الوجه جاز لعنهم، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث، تأمل.
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من عطف القصة على القصة، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا الله كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ١٦٣» قال ابن عباس: قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية ١٠١ من سورة المؤمنين ج ٢، وقيل في هذا المعنى:
وقيل: لا ينفع الأصل من هاشم... إذا كانت النفس من باهله
فأنزل الله هذه الآية. وعنه أيضا: قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه، فأنزل الله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب، قال في المعنى:
ظلم القوي للضعيف جاري... في الأرض والهواء والبحار
«وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين «وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي «لَآياتٍ» عظيمات كافية عن كل آية «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٦٤» أن جميع ذلك جعله الله للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء الله وعظمته ورأفته بعباده.
مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية ١٦٤ من هذه السورة:
واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية: النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية ١٠ من سورة لقمان ج ٢، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء
والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم. النوع الثالث: آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية ١٢ من سورة الإسراء ج ١ فراجعها. والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة. النوع الخامس: آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب.
السادس: آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة الله أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة. السابع: آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به، قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآية ٦ من سورة الحج الآتية، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية ٤٠ من سورة فصلت في ج ٢. الثامن: آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه
وآثاره، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ١٦٨» عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما، وإنه «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ١٦٩» من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وان أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته، كما اعترف بذلك في الآية ٢٢ من سورة إبراهيم في ج ٢. واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو الله تعالى
من أمور دين الحق «شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ١٧٠» إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح، أيتبعونهم على ضلالهم؟
فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك، ثم ضرب الله مثلا لهم فقال «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه «بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» لأنها لا تعي منه إلا هذا، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت، وذلك لأنهم «صُمٌّ» عن سماع الحق سماع قبول «بُكْمٌ» عن النطق به بعد أن عرفوه «عُمْيٌ» عن رؤيته، لأنهم لا ينظرون إليه نظر
مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ» لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها، لأن به قوام أبدانكم، وملاك قوتكم على طاعة الله «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ١٧٢» بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع، ومباح في سائر الأوقات، وحرام بعد الشبع، ومكروه الشبع نفسه، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت. قال تعالى «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا، والسمك لا دم له، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس، ودم السمك إذا يبس ابيض، والجراد لا دم له أصلا «وَالدَّمَ» الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في
وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال. واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق، وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ»
ولا يبينونه للناس «وَيَشْتَرُونَ بِهِ» أي الكتمان «ثَمَناً قَلِيلًا» من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ»، لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق الله ورسله من باب أولى، «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لاشتداد غضبه عليهم، أما السؤال فيتولاه ملائكته، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به، بل بما يوبخهم ويقرعهم، وهو خلاف الظاهر «وَلا يُزَكِّيهِمْ» من دنس الذنوب ودرن العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ١٧٤» جزاء جرأتهم تلك «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» أي بطوعهم واختيارهم «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ١٧٥» أي شيء صبّرهم عليها، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب، فكانت ملابستهم هذه
مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:
وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل الله ردا عليهم «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أيها النصارى واليهود «وَلكِنَّ الْبِرَّ» كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» وحده «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت «وَالْمَلائِكَةِ» كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين ٩٦/ ٩٧ فليس بمؤمن بأحد منهم «وَالْكِتابِ» كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين، فمن أنكر شيئا مما أنزل الله عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع «وَالنَّبِيِّينَ» كلهم أيضا، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر. أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» أي النفقة على حب الله مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه «ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية ١٩٥ ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية ٣٠ من سورة التوبة الآتية «وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى «وَأَقامَ الصَّلاةَ» المفروضة محافظا على شروطها وأركانها، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك «وَآتَى الزَّكاةَ» من فضل ماله صدقة واجبة، وقد كرر الله تعالى الحث على الزكاة
لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه. وللإجماع، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة.
وأما ما روي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة، فهو غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك، ليس بالقوي عند أهل الحديث، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة، ولا يقال الغريب لا يحتج به، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به، تأمل، وراجع الآية ٥٨ من الإسراء في ج ١ تجد ما يتعلق في هذا البحث. «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» سواء فيه عهد الله أو عهد الرسول أو عهد الناس، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» حال الشدة والفقر والفاقة «وَحِينَ الْبَأْسِ» القتال في سبيل الله وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم «وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْمُتَّقُونَ ١٧٧» ما نهى الله عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير. روى البخاري ومسلم عن
قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان. ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة (جارية) ولم تستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال (أو قد فعلت) ؟
قالت نعم، قال (أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك). وأخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: للسائل حق ولو جاء على فرس. وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت: يا رسول الله إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده. وفي رواية مالك في الموطأ:
ردّوا المساكين ولو بظلف محرق. وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر. وقال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: كنا والله إذا احمرّ البأس- أي اشتد الحرب- نتقي به- يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه- وان الشجاع منا الذي يحاذي به. هذا، ولما تحاكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، أنزل الله جل جلاله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» فرضوا بحكم الله وسلموا لقضائه، وأمر رسوله وأنزل الله تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل المؤمن بالكافر، ولا الحر بالعبد، ولا الوالد بالولد، والذمي يقتل بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم عن النبي صلّى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل أي الدية، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وأخرج مسلم عنه كرم الله وجهه مثله. وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، لأن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل، إذ لم يميز الله بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى الله عليه وسلم التي خصها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ١١١ من آل عمران الآتية، ولهذا جعل الله لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل، لأن الله تعالى قال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [أي التوراة] أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلخ، الآية ٤٥ من سورة المائدة الآتية، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة فراجعه، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط، وأن تقتل الجماعة بالواحد.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة (خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به) فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة.
روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ (تعاون) عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وأن
مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (١٨٠) الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب الله في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي الله عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟
قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك.
قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي
قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل الله أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ ١٨٢» بالموصى له والورثة. وقد ذكرنا في الآية ٤٤ من سورة النحل ج ٢، وفي المقدمة ج ١ أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام الله فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، راجع الآية ١٠٧ المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن الله قد أعطى كل
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول الله؟
قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. أي يسألونهم بأكفهم. ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير)، وقال علي كرم الله وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية. فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة الله، ألا فليتق الله المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية ١٢ من النساء الآتية، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.
مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣» الله فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية، لأن الصوم يعقم الشهوة، وقد فرض الله تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم، وأعلنه رسولها محمد صلّى الله عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، قبل غزوة بدر الموافقة في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة، بشهر وبضعة أيام، أي في أوائل شعبان، وقد أخبر الله في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم، تعبد الله تعالى به الأمم السابقة، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة
وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا حرج في هذا الدين السمح، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم، ولهذا قال علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر. وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص ٩١ من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.
أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ولكن يشق عليه، رخص له أن يفطره ويفتدي، وكذلك العجوز، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم، وإلا فعليهم الفدية من مالهم. ووقت الصيام قد ذكره الله تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان، وقال صلّى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وجاء في حديث آخر: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما.
ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين، وعليه قول ابن وهبان في منظومته:
وقول أولي التوقيت ليس بموجب | وقيل بل والبعض إن كان يكثر |
هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق الله تعالى، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر، وكذلك المسافر، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة.
والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام، وقد تعورف هذا، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف، لذلك قدرت بست ساعات، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة، وعلى هذا مذهب الشافعي، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما الله، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠١ من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء الله تعالى، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي، وغير المطيق يفطر ولا يفدي، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه. على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى والله أعلم. وقدمنا في الآيتين ١١/ ١٧ من سورة سبأ ج ٢ والآية ١٧ من سورة النحل ج ١ ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.
وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك. واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر، بأن شفي أو أقام أو طهرتا، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل، والمجنون كذلك، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من الله أبدا البتة، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه، والله تعالى أهل للإعطاء، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»
وقال بعض الأصحاب يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا، وفي أي وقت ندعوه؟ فنزلت جوابا للكل.
وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم. ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية ١٠ من سورة المؤمن المارة في ج ٢ مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية ٤٢ من الأنعام المارة في ج ٢ أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن الله تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر. ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى الله، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد الله والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فالله أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن الله لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء. ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن الله لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن الله يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء) خاليتين. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، الله أكثر. أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال. وله عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة. وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر. وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه.
وقيل في معناه:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة | وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤاله | وبني آدم حين يسأل يغضب |
ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب. وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد
تصوم عن الطعام ولا تبالي | بصوم الطرف واليد واللسان |
وان لكل جارحة صياما | جزيل الأجر موصول الزمان |
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر الله، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد الله، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد الله من ذلك. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية ١٤ من سورة النساء الآتية، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود الله والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس. واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة الله فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فنهى صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود الله تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر
مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٨) أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى الله عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من آل عمران الآتية، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له. ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية ٢٨ من سورة النساء الآتية أيضا. الحكم الشرعي: يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض. وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها.
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا
والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا، ولما بين الله تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٨٩) روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل
روى مسلم عن بريدة قال: كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك
قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك بالله، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك بالله والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى الله تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (١٩١) لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم. وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى الله عليه وسلم وصمم على
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.
ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية ٤٠ من الشورى في ج ٢، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (١٩٤) الذين يراعون في أمورهم حدود الله وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة الله تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك. هذا، ولما أمر الله تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل الله جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا. والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل الله وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم. روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أنفق
قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٩٥» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم. روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان الله يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى الله في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى الله عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة. واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة. وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم. وهذا إرشاد من الله تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها الله تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال:
أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول الله، قال فاحلق وصم ثلاثة
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج. ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ١٩٦» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى الله عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته. قال تعالى «الْحَجُّ
مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية ٥ من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٦ من سورة النمل في ج ١ وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، والله أعلم. وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر. واعلم أن الله تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.
مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:
هذا، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة الله فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد الله من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن الله لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة. وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (١٧٩) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى | ولا قيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على أن لا تكون كمثله | وأنك لم ترصد كما كان أرصدا |
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا | ندمت على التفريط في زمن البذر |
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى الله لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (٩٨١) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا)، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته. وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)
وصدر هذه الآية شرط جوابه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» في الجاهلية «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» من ذكرهم لأن الله أحق أن يكثر من ذكره، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم.
«فَمِنَ النَّاسِ» الحجاج المشركين «مَنْ يَقُولُ» في ذلك الموقف «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا» زدنا من حطامها «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ٢٠٠» حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها، روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى الله عليه وسلم تعس (دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار) عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة (ثوب فمن خزّ معلّم) إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس (وقع على رأسه وخاب وخسر) وإذا شيك (أصابته شوكة) فلا انتقش (لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش).
«وَمِنْهُمْ» يعني الحجاج المؤمنين «مَنْ يَقُولُ» في دعائه «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن تزيدنا من خيرها «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها «وَقِنا عَذابَ النَّارِ ٢٠١» في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها «أُولئِكَ» الطالبون خيري الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ» حظ وافر عظيم، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب «مِمَّا كَسَبُوا»
وقد قسم الله تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع. قال تعالى «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس. روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، ثم خيرهم الله تعالى بين التعجيل
الإرادة، لأن الإرادة غير المحبة، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة، تدبر. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُ» لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة «اتَّقِ اللَّهَ» واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ» حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه «بِالْإِثْمِ» على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ٢٠٦» الفرش، قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله تعالى أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك، وقيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب. وقد ذكرنا في الآية ١٩٨ المارة أن حادثة بدر وقعت في
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» يبيعها «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء الله ورأفته «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ٢٠٧» أمثال هؤلاء، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم، وقد ذكرنا فى الآية ١٤٣ المارة أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم.
مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:
وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد الله بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد (موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع) فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل، فلما أدركوهم أعطوهم العهد، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك الله أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال والله ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه،
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي شقّ كان في الله مضجعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزّع |
لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به. فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى، فأنزلاه، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك، وسارا به نحو المدينة، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت
ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين.
مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى:
وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة، لأن عبد الله لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه، وهو رضي الله عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويؤيد هذا قوله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٠٨ ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ» الواضحات المفصلات للأحكام والحدود «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب لا يعجزه شيء «حَكِيمٌ ٢٠٩» لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» السحاب الأبيض الرقيق وسمي
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته | ولا ذاته شيء عقيدة صائب |
فسلم آيات الصّفات بأثرها | وأخبارها للظاهر المتقارب |
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا | وتأويلنا فعل اللبيب المغالب |
ونركب للتسليم سفنا فإنها | لتسليم دين المرء خير المراكب |
الآية ٣٤ من سورة النحل في ج ٢، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا، أي يأتيهم الله بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد. وقال بعض المفسرين إن (فِي) هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام، ويراد بالغمام العذاب، لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف، ومذهب السلف أسلم، والله أعلم.
وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا، راجع الآيتين المذكورتين من الأنعام والنحل في ج ٢.
قال تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم «كَمْ آتَيْناهُمْ» أي آتينا أسلافهم «مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ» آياته التي أنعم بها على عباده، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ» فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ٢١١» عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فاغتروا بها ولهوا بزخارفها «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى الله «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا بالله ورسوله وكتابه «فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ٢١٢» رزقا كثيرا لا يحصى، باق لا ينفد ولا ينقص، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد، وخزائن
هذه والآية ١٣ من آل عمران الآتية والآية ٧ من سورة التغابن الآتية أيضا، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات الله لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات الله ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا، وفي الحقيقة أن الله تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها، فرموا بكليتهم عليها، وأن الله تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم. وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها، ولكنه من الضعف بمكان، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين، وكلهم مزيّين لهم، والمزين لا بد وأن يكون مغايرا للمزين له. روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة:
كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل (فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير) جواظ (فاجر محتال قصير بطين) جغطريّ (متمدّح بما ليس فيه) مستكبر. ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد (الحظ والغنى)
ثم أعذر الله تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام، ولم يزل هو وذريته مسلمين لله حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان، ولهذا سمي أبا البشر الثاني.
مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:
ثم اختلفوا بعد وفاته «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ» بعده لذرّيته «مُبَشِّرِينَ» المتقين برضوان الله «وَمُنْذِرِينَ» العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم، وقد جاء في الحديث: لا أحد أحب إليه العذر من الله. ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وجميع الأنبياء على ما قيل مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم: آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل- على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح راجع الآية ١٣٠ من الصافات ج ٢- وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم، راجع الآية ١٧٧ المارة والآية ٨٢ من الأنعام والآية ٨٣ من سورة الكهف في ج ٢، ولبحثهم صلة في الآية ١٦٣ من النساء الآتية. والنبي هو من أمره الله تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أمر بتبليغه.
ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة، ومنهم إلى عشيرته، ومنهم إلى قومه، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أن شفاعته عامة، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية ٧٩ من سورة الإسراء ج ١، وقد ذكرنا في الآية ٢٦ من سورة هود في ج ٢ أن
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فغد لليهود، وبعد غد للنصارى. وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. زاد النسائي:
يعني يوم الجمعة (ثم اتفقا) فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد. وروى
فأنزل الله تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم. روى البخاري
مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:
هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر الله لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» لما فرض الله تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن، فأنزل الله هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ١٩٠ المارة، قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية ١٨٠، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا، من أي نوع كان «فَلِلْوالِدَيْنِ» أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم
إن الصنيعة لا تعد صنيعة | حتى يصاب بها طريق المصنع |
كالجهاد، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات، لأن لفظ (شَيْئاً) في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس، لأنه نكرة والنكرة تعم «وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم، ووقع في قلبه الخوف، فيدين لكم، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه، فإن النفس تحبه، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة، لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته، فإن النار حفت بالشهوات، قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته- أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك- واستخر الله تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٢١٦» إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم الله إياكم، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه. وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من الله فهي لليقين، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل. واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم
يوم القيامة. وما قيل إنها منسوخة بآية التوبة ١٢٢ التي مطلعها (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلخ لا وجه له أيضا، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق، والخاص على العام. وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك، وإنما هي عبارة عن إخبار الله تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم، لأنه مكتوب في أزله كذلك، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) إلخ، تأمل قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» إثمه، عظيم جرمه، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه، وهو المبين بقوله تعالى «وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته «وَكُفْرٌ بِهِ» وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده «وَ» صدّ المؤمنين عن دخول «الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعهم من الطواف به «وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ» وإجلاؤهم عنه
مطلب متعلقات الجهاد وقصة قتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب إلا بعد يومين من استلامه:
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش أميرا على سرية في جمادى الآخرة السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر، مما يدل على أن هذه الآية متأخر نزولها عن سورتها. وهو جائز كما يتقدم النزول على الحادثة أو يقارنها. وكتب له كتابا وقال سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير) فقال سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال لهم إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى وبقي أصحابه معه، وهم ثمانية رهط ولم يتخلف عنه أحد، حتى إذا كانوا بمعدن فوق الفرع بموقع في الحجاز يقال له نجران والفرع مجرى الماء إلى الشعب، وفرع كل شيء أعلاه، وفرع القوم شريفهم، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من الذهب وغيره، فلا يختص بمكان دون آخر، ولا يختص بالذهب والفضة بل بكل شيء يخرج من الأرض كالنحاس والحديد والرصاص وغيرها. أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غروان بعيرا لهما كانا يتعاقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة موقع بين مكة والطائف، بينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ومن تجارة الطائف ومعها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هابوهم ونزلوا قريبا منهم، فقال عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله لقومه:
إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم، وليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا، وقالوا قوم عمّار فلا بأس علينا، وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرونه أول رجب، فتشاور القوم فيهم وقال بعضهم لبعض متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن رجب الحرام وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرا الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم وعثمان، وهما أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء، وأخذ الحرائب أي المال،
مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال
: قال تعالى و «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» القمار بجميع أنواعه وكافة أصنافه «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ» ينتج عنهما مضار خطيرة ديفية ودنيوية «وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» من أرباحهما والاتجار بهما، لأن الخمر يحتاج إلى اعمال ينتفعون بما يأخذونه من الأجرة، وفي بيعه وشرائه ينتفع آخرون لكثرة تصريفه بسبب كثرة استعماله، لأنه كان يقدم للناس كما تقدم القهوة الآن والشاي للقادمين الزائرين. والميسر هو نيل المال دون تعب ولا كد ولا جهد وربما من يكسب يعطي منه كما هو المعتاد الآن عند من يتعاطاه، فينتفع
وقيل في هذا:
ومن أخذ البلاد بغير حرب | يهون عليه تسليم البلاد |
فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له، فما ظنك بالفعل مباشرة؟، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن (يا نصيب) ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق الله، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة. قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل: أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) الآية ٦٧ من سورة النحل في ج ٢ فراجعها فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين ٤٣ من النساء و ٩٠/ ٩١ من المائدة بصورة مفصلة إن شاء الله القائل «وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» من أموالهم إذ لم يبين لهم الله القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق «قُلْ» يا سيد الرسل أنفقوا «الْعَفْوَ»
!. فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها. ألا فليتقوا الله ولينفقوا مما أنعم الله عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم. قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» قال ابن عباس لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) الآية ٣٤ من الإسراء في ج ١، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ» وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم «فَإِخْوانُكُمْ» أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ» لأحوالهم «مِنَ الْمُصْلِحِ» لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة، والله مطلع على نياتكم، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها، بأن يجعلكم
قوله تعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» حرة حسنة «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ» حر قوي «وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ما له ونسبه وجاهه وشجاعته «أُولئِكَ» المشركون والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى» الشرك والكفر المؤديين إلى «النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى» الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى «الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ» وإرادته وتوفيقه «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٢» بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها. فيتباعلون بمن مخافتها. كان صلّى الله عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا، فقالت له تزوجني، فقال لها حتى استأذن رسول الله، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها، فضربوه، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها، فأنزل الله هذه الآية في هذه الكافرة، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية
مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:
روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول الله حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا لله، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول الله يوجب غضبه، لينتهي الآخرون عن مثله، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي الله الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها.
الحكم الشرعي: أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا (أي أو جاء كاهنا يستشيره) فقد كفر بما أنزل على محمد. أي إذا استحل
رواية للترمذي: كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حينما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هلكت، قال وما أهلكك؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى الله لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل، إذ لا يميل الى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف
قليل الألايا حافظ ليمينه | وإن سبقت منه الأليّة برّت |
وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا | ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي |
مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:
وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف بالله لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء الله لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا والله ما الأمر هكذا وبلى والله كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته، فلا كفارة عليه ولا إثم، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما
قال مالك في موطأه: أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند الله كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية. الحكم الشرعي:
لا ينعقد اليمين إلا باسم الله تعالى أو بصفة من صفاته، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية ٩٣ من المائدة، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به. روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى الله عليه وسلم:
إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
- أخرجاه في الصحيحين- «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للأغي ومن كان يمينه غير مقصود، ومن حلف على شيء سابق يتحققه «حَلِيمٌ ٢٢٥» بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية آخر سورة فاطر في ج ١ ومثلها الآية ١١ من سورة النحل في ج ٢. قال تعالى «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ» أي انتظار «أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته «رَحِيمٌ» (٢٢٦) بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ» بأن أصروا على
وهذه الآية تشير الى أن هذا من باب كتم الأمانة، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث «إِنْ أَرادُوا» أي الرجال «إِصْلاحاً» مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن «وَلَهُنَّ» أني النساء من الحق على الأزواج «مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون «بِالْمَعْرُوفِ» من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها. - ويجب عليها طاعته والانقياد الى عصمته، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية لله وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي الله. روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن (وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا، لأن فيه الحد والرجم) يؤيده قوله (فإن فعلن ذلك فاضربوهن) (وقد أجمع العلماء على أن
ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم، فإنه ينتقم منكم «حَكِيمٌ ٢٢٨» بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها. قال تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده، لأنهن حرمن عليكم.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية، حتى إن رجلا قال لامرأته والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت كيف؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت وأخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فسكتت حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت حتى أنزل الله هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق. الحكم الشرعي: يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى (خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام، على أن سيدنا عمر رضي الله عنه أقر الأول وعمل به وأمر به، ولكن الناس سائرون إلى
ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين. وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد. ثم حذر الله تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ» أيها الرجال «أَنْ تَأْخُذُوا» على الطلاق «مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه «فَإِنْ خِفْتُمْ» يا أولياء الزوجين «أَلَّا يُقِيما» الزوجان منكم «حُدُودَ اللَّهِ» بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة «فَلا جُناحَ» لا إثم «عَلَيْهِما» إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد الله، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها، ولا الزوج مضارا لها، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه، والدين يسر لا عسر فيه، والشريعة غراء سمحة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين ٣٥ و ١٢٨
نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها، فذهبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، وقالت يا رسول الله لا أنا ولا هو، فأرسل إليه وسأله، فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه، وإني أبغضه، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت نعم، فرضي وطلقها. وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها، وكان هذا متعارفا في الجاهلية، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير. وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية، لأنه مغبون مظلوم، ولذلك قال لها صلّى الله عليه وسلم تردّين عليه حديقته، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية ٢١ من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد. ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند الله تعالى، لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر،
أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله. روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. - أخرجه الترمذي- وورد أنه قال هو التبس المستعار. وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول، فقال لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله، وإنما قرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو انه بين الناس.
كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:
قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» شارهن على انقضاء العدة، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر الله تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لا بد له من عقد ومهر جديدين. وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق، وعده غيرهم من الصريح. ومن الكنايات المتفق عليها لفظ (تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص ١٣٠ ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق.
ولا بد في الكنايات من النيّة، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره
ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات، إذ يطلقن بلا سبب. وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واستمر عليه العمل حتى الآن، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين.
راجع الجزء السادس ص ٥ من المبسوط للإمام السرخسي. هذا، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة، فيكون راجعها فعلا «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن، فيملكن أمرهن، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بهنّ لا رغبة «لِتَعْتَدُوا» عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف، ولهذا يقول الله تعالى «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وعرضها لعذاب الله بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره
أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح. ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما بين لكم مما لا بد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة «وَ» اذكروا نعمة «ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» واعملوا بها لأن الله «يَعِظُكُمْ بِهِ» لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٢٣١» لا يخفى عليه حالكم ونيتكم، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه. نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر. قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» أي انقضت عدتهن، ويدل على أن المراد هنا من (بلغن) قضين قوله جل قوله «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» أيها الأولياء فتمنعوهن
وليس أخوك الدائم العهد بالذي | يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا |
ولكنه النائي إذا كنت آمنا | وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا |
مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات:
قال تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ» من مطلقهن «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» أي يبلغ غايتها، لأن أقل الحمل ستة أشهر، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) راجع الآية ١٥ من سورة الأحقاف في ج ٢ تجد تفصيل هذا البحث وما يتعلق به، وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» قدر طاقتها «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن الله خلق لكل ما يليق به ويحسنه، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه وَلا» يضار «مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه
لا تزدري بفتى من أن يكون له | أم من الروم أو سوداء عجماء |
فإنما أمهات الناس أوعية | مستودعات وللأبناء آباء |
العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها. ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام. روى مسلم عن عائشة قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا.
وهذا إذا مات عندها، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها. وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق. قال تعالى «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ» أشرتم ولوحتم، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه، وكان يحول حوله ولا يظهره، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل، وكثير الرماد للكريم، وعريض الوساد للبليد، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي ان لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ» المتوفّى رجالهن بطريق
والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر الله لي مثلها، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره. والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول. أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها. والتعريض بما ذكر مباح، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه، لأنه غير منهي عنه، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح الله تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين ان كلمة (سِرًّا) هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن الله تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد
أي يلزمكم نصف «ما فَرَضْتُمْ» على أنفسكم
من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في (يَعْفُونَ) ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام، يؤيده قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره «وَأَنْ تَعْفُوا» أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو «أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»
لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (٢٣٧) لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ» المكتوبات «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم يوفقه الله لفضلها، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل: الصبح والظهر، والمغرب والعشاء. وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان.
وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة.
وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه. ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية المارة من الإسراء، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ، وقوله: الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني وكرره، ولختمه تعالى الآية بقوله:
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفيها القنوت في بحث مطول فراجعه. ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف.
«وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (٢٣٨) خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر الله، وإنما ذكر الله تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها
«فَإِنْ خِفْتُمْ» حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط «فَرِجالًا» أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز «أَوْ رُكْباناً» إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية ١٠١ من سورة النساء فراجعها «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم هذا «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها «كَما عَلَّمَكُمْ» من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها «ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (٢٣٩) شيئا قبل واحمدوا الله على ما علمكم، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق الله أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً» ويوصون «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ» بأن يمتعن «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» ويبقين في بيوتهن «غَيْرَ إِخْراجٍ» منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة «فَإِنْ خَرَجْنَ» من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده «فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» كزينة معتادة ولباس طيب وغيره، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر
ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات
قال تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ» كلهن على اختلاف أنواع الطلاق «مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» واجبا مفروضا «عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢٤١» ما نهى الله عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن، وقد أمتع الحسن بن علي رضي الله عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الواضح «يُبَيِّنُ» اللَّهُ لَكُمْ «آياتِهِ» المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢٤٢» معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون. هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم. وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وانما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وان كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه. ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا.
ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب
مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام:
ثم طفق جل شأنه يقص علينا ما جرى على بعض أنبيائه فقال جلّ قوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» وذلك أنه حلّ فيهم الطاعون فهربوا من بلدهم خوف إصابتهم به وهذا استفهام تعجب أي أرأيت يا سيد الرسل حالة هؤلاء أشاهدت مثلهم «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» بأن أمر ملائكته أن يصيحوا بهم صيحة هائلة فماتوا كلهم دفعة واحدة «ثُمَّ أَحْياهُمْ» بدعوة نبيهم ذي الكفل عليه السلام واسمه حز قيل ابن بوذي ثالث خلفاء بني إسرائيل وسمي ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبيا وخلصهم من القتل ويسمى ابن العجوز لأنها كانت عقيما وسألت ربها بعد الكبر والهرم فأعطاها إياه وكانوا في قرية تسمى «ادواردان» وقد وقع بهم الطاعون فخرج قسم منهم وبقي الآخر ففتك بالباقين وعقب انقطاعه عاد النازحون فقال بقية المتخلفين منهم لو نزحنا معهم ما أصابنا ما أصابنا من فقد أولادنا وآبائنا ونسائنا وأقاربنا فإذا عاد الطاعون سنفعل مثلهم فعاد الطاعون الكرة عليهم فخرجوا جميعا من تلقاء أنفسهم دون رضاء نبيهم المشار اليه ونزلوا بواد (أفيح) فأرسل الله إليهم ملكين فصاحا بهم فماتوا عن آخرهم وقد فعل الله ذلك بهم ليعلموا هم والذين من بعدهم أن من قدر عليه الموت لا مناص له منه، فصار نبيهم يبكي ويقول يا رب كانوا يعبدونك معي وبقيت وحيدا وبقي يدعو ويتضرع الى ربه مدة أسبوع فأوحى الله إليه أني قد جعلت حياتهم بيدك فقال لهم أحيوا بإذن الله فحيوا كلهم معجزة له عليه السلام فقاموا وعاشوا معه دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، وكان موتهم هذا الذي استمر ثمانية أيام على ما قيل عقوبة لهم لما صدر منهم من القول المار ذكره فلا يقال كيف ماتوا مرة ثانية في الدنيا لأن إحياءهم كان لاستيفاء
من لم يمت بالسيف مات بغيره | توعت الأسباب والموت واحد |
وإذا لم يكن من الموت بد | فمن العجز أن تكون جبانا |
كل امرئ سوف يجزى فرضه حسنا | أو سيئا أو مدينا كالذي دانا |
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة | تمنيت أن أشكو إليك وتسمع |
تزود من الدنيا فإنك راحل | وبادر فإن الموت لا شك نازل |
وإن امرأ قد عاش سبعين حجة | ولم يتزود للمعاد لجاهل |
ودنياك ظل فاترك الحرص بعد ما | علمت فإن الظل لا بد زائل |
ما كل ما يتمنى المرء يدركه | تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
فيم اقتحامك لج البحر تركبه | وأنت يكفيك منه مصّة الوسل |
أريد بسطة كف أستعين بها | على قضاء حقوق للملا قبلي |
سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة، قاتلهم الله على عنادهم هذا، الله يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه الله منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ ٢٤٧» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده.
مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:
ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل الله تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى الله ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا،
قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٢٤٨» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة. قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن الله تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر الله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر الله «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته لله وإلا فقد بارزه بالمعصية، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. روى البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة- أخرجه البخاري-. قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ، وقالوا إن الشرب بعد العطش
«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية، راجع الآية ٥٠ من سورة ص المارة في ج ١، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال
سبحت فقال هذا خير أعطاه الله. ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لماذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم الله وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله:
ولا خير في دفع الردى بمذلة | كما ردها يوما بسوءته عمرو) |
فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها، ثم. أوقع الله الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح الله لي ما فعلته، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته؟ قال لا والله فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت، فقالت يا صاحب القبر قم باسم الله الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل
مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:
قال تعالى «تِلْكَ» القصص العظيمة والأخبار الهامة هي «آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ٢، ٢» حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك «تِلْكَ» الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك «الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى، ثم بين الله تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ» شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ» فوق بعض «دَرَجاتٍ» كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته
واعلم أن الله تعالى رمز في هذه الآية له صلّى الله عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله، راجع الآيتين ٨/ ٧٩ من سورة الإسراء في ج ١، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة. ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه. وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه. ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» وما اختلفوا فيما بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على أيدي رسلهم «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا» لأمر أراده الله تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» وأوفى بعهده الذي عاهد الله عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته «وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط الله
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ» أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك «وَلا شَفاعَةٌ» لأحد تخلصه من عذاب الله إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص، راجع الآية ٢٣ من سورة سبأ في ج ٢ «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٥٤» لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها. واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل الله تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة. وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشؤون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ» الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي «الْقَيُّومُ» على كل شيء القائم بتدبير كل شيء «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع والله تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية ٤٣ من سورة فاطر ج ١ ومثلها الآية ٦٦ من سورة الحج الآتية، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته. روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات
وهذا من أحاديث الصفات راجع بحثها في الآية ٢١٠ المارة «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مما هو أمام خلقه في الدنيا «وَما خَلْفَهُمْ» ما وراء خلقه كافة بالآخرة «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته «إِلَّا بِما شاءَ» أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة، قال تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية ٢٧ من سورة الجن في ج ١، قال الغزالي رحمه الله: إن الله عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت.
مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:
قال تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه، راجع الآية ٧ من سورة هود في ج ٢ وما ترشدك إليه عن هذا البحث، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته (أي الكرسي) إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء «الْعَظِيمُ» (٢٥٥) الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي. وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ. وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة، لأن الله تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن. وأما أجمع آية فيه فهي الآية ٩٠ من سورة النحل، وأرجى آية فيه الآية ٥٤ من سورة الزمر في ج ٢. واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل لله تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله الله لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولا بد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم، راجع الآية ١٠٦ من سورة التوبة الآتية، مع لعلم بأن الله تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه،
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لم يعدم على الغي لائما |
ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم
مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها:
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ» وهو النمروذ إذ جادل خليله إبراهيم بما يزعمه من القوة من «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» بأن جعله ملكا على طائفة من خلقه وانه بدل أن يشكر نعمته طغى وتجبر وبغى وتكبر حتى ادعى الربوبية، وهو أول من ادعاها ثمّ تبعه من بعده أخوه فرعون، وقيل أول من ادعى هذه الدعوى شداد بن عاد كما تقدم في الآية ٧٠ من سورة الأنبياء ج ٢ تطفلا عليه لعنه الله ومن اتبعه في كفره، وهو أول من لبس التاج أيضا، وهذه المحاججة بعد أن كسر الأصنام وقبل أن يلقى في النار إذ كان النمروذ أخرجه من السجن وقال له من هو ربك الذي تدعونا إليه؟ فأجابه بما ألهمه الله بقوله «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وإذ هنا منصوبة بفعل مقدر أي أذكر يا محمد لقومك ما قاله الخليل
كان عصيرا تزود بهما وكان كل منهما «لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير ولم ينتن مع أنه مما يتغير سريعا وليس من الأطعمة والأشربة التي تدخر فلا تتغير سريعا كمعمولان الحلويات في دمشق وحلب والأشربة الأوربية فإنها قد تبقى أشهرا إلا أنها مهما كانت ومهما وضع فيها من الأجزاء فلا تبقى معشار هذه المدة على حالها، وقد رآها عليه السلام كما تركها حين أميت لم يطرأ عليها شيء وقد مر عليها تلك المدة وهذه معجزة له عليه السلام على القول بنبوته وكرامة على القول بولايته «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إذ رآه عظاما بالية مفككة بعضها عن بعض وهذا الدليل الظاهري على قدم لبثه ميتا المدة التي ذكرها الله «وَلِنَجْعَلَكَ» أيها الإنسان الكامل ببقائك حيا «آيَةً لِلنَّاسِ» يستدلون بها على البعث بعد الموت لأن من يحي الميت في الدنيا بعد هذه المدة لا غرو يحييه في الآخرة «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ» من حمارك «كَيْفَ نُنْشِزُها» ترفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركبها بعضها مع بعض كما كانت «ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» كحالتها الأولى «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ» ذلك «قالَ
الذي أحياني وأحيا حماري على الصورة المارة وأبقى زادي وشرابي على حاله طيلة تلك المدة ليحيي بيت المقدس ويعيد بناءه كما كان وأحسن ويحيي الموتى في الآخرة ويجمع أجزاءهم المتفرقة ورفاتهم المبددة والمنمحقة ويعيدهم على ما كانوا عليه في الدنيا وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢٥٩) مما يتصوره البشر وما لا يسعه عقله ولا يخطر على باله، ويعلم من هذا أنه تعالى لا يتقيد في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب الظاهرة والعادات المتعارفة والسنن المعقولة والتجارب المعمولة وأن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وهذه قصة أخرى قصها الله تعالى على رسوله من عجائب قدرته. وما قيل إن المار ارميا بن حلفيا من سبط هرون ويعنون به الخضر عليه السلام، لا يصح لأن الخضر اسمه بليا ابن ملكان على أصح ما قيل فيه، وكذلك ما قيل إن القرية (دير سابرآباد) بفارس ليس بشيء، وأضعف من هذين القيل بأن المار رجل كافر شاك بالبعث لأن الله أجلّ من أن يخاطب كافرا مهانا كما لا يليق أن يجعل الله الكافر آية ليعتبر بها الناس لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأليق والأصوب والأصح، وهذا الخلاف كالخلاف في ذي القرنين الذي نوهنا به في الآية ٩٩ من سورة الكهف ج ٢، فراجعه ففيه ما لا تجده في غيره. وليعلم أن ليس القصد معرفة المار أو معرفة القرية بل القصد تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى، وفي هذه القصة دلالة على قول من قال بنبوته حيث أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم من أحد، ومن هنا ادعت اليهود بأنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك وقاتلهم على بهتهم، وذلك لأن الله أحياه بعد موته ولأنه أملى عليهم التوراة عن صدر غيب بعد أن أحرقها بختنصر على مرأى منهم، فقالوا لو لم يكن ابن الله لما جعلها في قلبه وهو لم يعرفها، ولم يحيه بعد ما أماته ويحيي حماره كرامة له، ولم يجزم جمهور العلماء بنبوته كلقمان وذي القرنين والكل متفقون على ولايتهم. قالوا وبعد موت عزير بسبعين سنة أرسل الله ملكا إلى بوشك ملك الفرس وأمره أن يعمر بيت المقدس وايليا ويعيد هما كما كانا فانتدب الملك الف قهرمان مع كل واحد الف عامل فعمرو هما على ما كانا عليه وعادت بنو إسرائيل مع عزير إليهما كما هو مفصل بالقصة
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى للعالمين بطون راح |
ولكن للعيان لطيف معنى | له سأل المشاهدة الخليل |
على الله لأبره.
مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه:
وبعد أن ذكر الله تعالى لحبيبه أوائل هذه السورة وأواخرها من القصص الغريبة ليقصها على قومه وعلى أهل الكتابين ليعلموا أن ذلك كله بتعليم الله تعالى إياه، ولعلهم أن يؤمنوا به ويصدقوه شرع يحث على التصدق في سبيله على عياله والمجاهدين لإعلاء كلمة الله، فقال جل قوله «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
قد لا توجد سنبلة فيها مائة حبة ولا حبة تنبت سبع سنابل غالبا وقد يكون ذلك نادرا لعدم الاستحالة ولذلك جاز ضرب المثل فيه على الدخن والذرة والسمسم وشبهها فقد تنبت الحبة أكثر من ذلك إذا حلت بركة الله «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» زيادة على هذا لأن رزقه بغير حساب وخزانته لا تنفد وهذا كله ترغيب للمتصدقين وعبرة للمقتصدين وتعليم للعالمين، فكما أن التاجر إذا علم أنه يربح بالحية إذا اشتراها أو زرعها ذلك الربح يقدم للشراء والزرع عن رغبة، فكذلك من يطلب الأجر عند الله تعالى في الدار الدائمة إذا علم تضاعف الواحد إلى عشرة أو إلى سبعمئة وإلى أن يشاء الله يسارع إلى النفقة بطيب نفس وانشراح صدر طلبا لنيل ثواب ربه المضاعف الموصل إلى الجنة الدائمة ذات النعيم الأبدي الذي هو أوثق من ما يتوخى التاجر لأن ثواب الله مكفول بوعده الصادق الذي لا شك فيه، بخلاف التاجر فإنه مظنون، وقد يعتريه آفات تحول دون ربحه وقد يضيع رأس ماله «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «عَلِيمٌ (٢٦١) » بالقدر الذي يضاعفه لعباده يعلم من منهم من يتفق عن رغبة وطيب قلب ممن ينفق سمعة ورياء، فالصدقة إذا كانت عن رغبة فيما عند الله من مال حلال، كانت عند الله بمكان عظيم، يربيها له كما يربي أحدكم فلوه، وإذا كانت عن سمعة ورياء أو من مال حرام أو مما يكره أو من فيها أو عنف آخذها فقد يستوفي ثوابه عنها في الدنيا من مدح أو ذم وماله في الآخرة من نصيب كما ستعلم مما يأتي. واعلم أن هذه الآية ولآيات الثلاث عشرة الآتية نزلت كلها في الصدقة والمتصدقين ولم تجمع هكذا آيات إلا في هذه السورة المباركة وأن الأولى منها ترمي إلى ترغيب وتشويق الناس إلى الإقدام على الصدقات والخمس التي تليها فيمن يتصدق مخلصا بصدقته لوجه الله تعالى والتي بعدها في بيان المخلص في صدقته من غيره، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» بأن تقول لمن تعطيه أعطيتك كذا أو تعيّره بحاجته وفقره وأخذه للصدقة
فمنّى علينا بالسلام فإنما | كلامك يا قوت ودرّ منظم |
والمنة النعمة، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم:
طعم الآلاء أحلى من المنّ | وهو أمر من الآلاء مع المن |
وقيل في هذا المعنى:
وإن امرأ أسدى إلي صنيعة | وذكّرنيها مرة للئيم |
ثواب نفقاتهم «مِمَّا كَسَبُوا» في الدنيا لأنهم كفروا نعمة الله «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) » إلى سبيل الخير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال الله والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم. قال تعالى «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري:
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى | من شدة الجزم لا من شدة الحزم |
إن الله ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه. وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد. هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية ٢٦٢ المارة بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض
إذا ما نلت في دنياك حظا | فأحسن للغني وللفقير |
ولا تمسك يديك عن قليل | فإن الله يأتي بالكثير |
وتشير إلى أن كل ما يغضب الله تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم الله لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها، فعلى العاقل أن يحذر من نقم الله أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده الله خيرا لأن المعصية تسبب الزوال.
مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:
هذا وبعد أن حذر الله جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله «وَ» أنفقوا أيضا «مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ» تقصدون الرديء «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» على الفقراء وغيرهم «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي | عقيلة مال الفاحش المتشدد |
راجع الآية ١٧ من سورة النمل في ج ١ فيما يتعلق بالحكم والأمثال. ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ» خالصة لله أو مشوبة بشيء مما ذكر «أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ» مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ويجازيكم عليه بحسب نيتكم، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم «وَما لِلظَّالِمِينَ» المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا «مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) » يدفعون عنهم عذاب الله يوم الجزاء في الآخرة. وقد قرر الله تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق الله من ماله إلى عياله، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه فراجعها. قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا الله باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة، لأن الأمر فيها للوجوب. وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء، وهو مخصوص بصدقة الفرض. قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم الله وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء، فقال تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا
إلخ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على اهل الصفة فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء. روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة. وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية ٢٦١ إلى أن الله تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به كما مر في الآية ١٥٢ من سورة الأنعام في ج ٢، وما أشير إليه فيها من المواضع. والحكم الشرعي: وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها. والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به، وإن كان شرا كفر عنه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين،
وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر. فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج.
مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:
قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ» فتعطوها جهارا علنا «فَنِعِمَّا هِيَ» الخصلة الحميدة فيها «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ» سرا عن الناس «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه، وفيها كرامة للمتصدق أيضا، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا. واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند الله أكبر من الصدقة العلنية «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) » لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه. وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط
ورويا عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أنفق ينفق عليك. ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي (تشحّي) فيوعي الله عليك. وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده:
وكالدرهم الدينار صرفا وإن تكن | دراهم نوعي أو دنانير تمنع |
وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة الله ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية ٦٠ من سورة التوبة الآتية، وإنما خص هؤلاء لأنهم «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة الله ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ» أمرهم وشأنهم «أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس. ورويا الحسن: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه (عن المسألة) جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح، قيل يا رسول الله ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي-. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
أخرجه أبو داود، وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) » على ما فاتهم من الدنيا والله يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة. هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم الله وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية ٢٧١ المارة من أن نفقة السر أفضل من العلانية، لأن الله قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية. هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح. أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٦٢ من سورة براءة إن شاء الله، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين ٢١٥/ ٢١٩ والآية ١١٩ قبلهما أيضا فراجعها واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون
وليس الحلال كالحرام، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل
لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء.
وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة، وانقطاع المعروف بين الناس، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه الله نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر الله وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه، لأن الله تعالى مالك الخلق، والمالك
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين، أو إناء بإناءين، فلا ربا ولا حرمة فيه. والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، يدل على هذا ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله فذلك الربا- أخرجه مالك في الموطأ-.
فإن لم يشترط جاز، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه، فقال ابن عمر قد علمت، ولكن نفي بذلك طيبة- أخرجه مالك في موطأه-. فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة،
ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا، واشترط التقايض بالمجلس، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية. قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده «وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا، قال تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية ٩٢ من آل عمران الآتية، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) » مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه الله تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم بشروطها وأركانها، وهذا هو معنى الإقامة «وَآتَوُا الزَّكاةَ» المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» واف كامل مضاعف «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) » على ما فاتهم من حطام
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع الله ورسوله وهو مما لا قبل لكم به، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة. قال أهل المعاني حرب الله النار وحرب رسوله السيف. وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام، «فَإِنْ تُبْتُمْ» ورجعتم فإن الله تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه، وفي كلا الحالتين «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ»، الغريم بأخذ الزيادة منه عنها «وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) » بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا. وهذا البحث بحث بحت واسع في الآية ١٣١ من سورة آل عمران الآتية فراجعها. كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه، وذلك قبل النهي، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فقالا سمعا وطاعة، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا، ولا مانع من تعدد الأسباب، والمعنى واحد
مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:
وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا. وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا، ولكانت ناقصة، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده، فقال إني معسر، قال آلله قال آلله، قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه. وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم. ورويا عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه. وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به
عن الربا أربعة شروط: الإقلاع فورا، والندم على ما سلف، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فالله تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام، هذا هو الحكم الشرعي فيه. وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً إلخ ٧٩ من سورة الروم، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات، وفي الآية ١٣٠ من آل عمران، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء الله، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة، راجع الآية ٢١٧.
قال تعالى «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٢٨١» لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة ٤ التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول الله واحدا وعشرين يوما، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه. ولهذا البحث صلة في الآية ٣ من سورة المائدة الآتية فراجعه، وعليه يكون انقطاع الوحي في ١١ صفر سنة ١١ من الهجرة، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال، فيكون ختم الوحي ٢٣ صفر سنة ١١، ومنهم من قال سبع ليال، فيكون آخر الوحي في ٢٥ صفر
مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره، وهذا الأمر للندب، لأن الله تعالى يقول بعد (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهذا الشرط صرفه عن الوجوب «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ»، من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير، وفي هذا حفظ لحق الطرفين، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه، ومن نسيان شهادة الشهود «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه الله وأمره به من عدم الزيادة والنقص، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ) إلخ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية ١٨ من سورة القصص في ج ١، لأن من خصه الله تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها. وبعد أن نهاه الله عن الإباء أمره بقوله «فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر، بل يحافظ على حقهما معا، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها.
وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية
وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان، وأكد هذا الأمر بقوله «وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء «أَوْ ضَعِيفاً» طفلا صغيرا أو شيخا هرما «أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم، ولذلك قال تعالى «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا «بِالْعَدْلِ» الواجب إجراؤه، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه، فلا يزيد ولا ينقص، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما «وَاسْتَشْهِدُوا» أيها المتعاقدان على عقودكم كلها «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها المؤمنون لا من غيركم، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية ١٠٦ من سورة المائدة الآتية «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما»
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولا لا أبالك يسأم |
وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام، ولكن الأول أولى.
واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية
ولا رهن، فصار كأنه أمانة، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله. وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل. ثم أكد الله تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن.
وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا
الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا، وقد عنون عن العمل بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.
ومن رحمته بكم لم يقل يعاقبكم أو يؤاخذكم، لأن المحاسبة عبارة عن المعاتبة وتعريف الشخص بأن الله تعالى مطلع على سره وخواطر نفسه وضمائر قلبه، فضلا عما يفعله جهارا ويقوله علنا، وبعد أن يطلع عبده على ذلك يغفره له بمقتضى فضله كما يعذب عبده على ما يبديه إن شاء يحكم عدله. يدل على هذا ما رواه صفوان ابن محرز المازني قال: بينما عمر يطوف إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول أعرف ربي أعرف مرتين، فيقول الله سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون، وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين- أخرجاه في الصحيحين-. وان حديث اهمّ المقدم ذكره في الآية ٨٤ من سورة القصص في ج ١ يؤيد هذا لأن إخفاء ما في النفس عبارة عما يحدث في القلب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا.
ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة، لأنها خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما بيناه في بحث النسخ في المقدمة وعند كل بادرة، وحجة من قال بنسخها هو ما رواه أبو هريرة من أن هذه الآية لما نزلت على رسول اشتد ذلك على أصحابه وقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فأنزل الله في أثرها «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) »
كامل القدرة بالغ المغفرة يغفر للمؤمنين بفضله ويعذب الكافرين بعدله. قال تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» آمنوا بما آمن به رسولهم «كُلٌّ منهم «آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ» نحن معاشر
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا | فخاطر فحديث النفس فاستمعا |
يليه هم فعزم كلها رفعت | سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا |
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي | هو راحم هو غافر هو عافي |
قابلتهن ثلاثة بثلاثة | وستغلبن أوصافه أوصافي |
واعلم أيها العبد أن الله تعالى لو لم يرد إجابة الدعاء ما علمه عباده، وفيه قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه | من فيض جودك ما علمتني الطلبا |
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب، قال فأعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقتحمات أي الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار. وأصل الاقتحام الولوج. وروى مسلم
سورة البقرة
سورةُ (البقرةِ) هي أطولُ سورةٍ في القرآنِ العظيم، وفيها أطولُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الدَّين)، وكذلك فيها أعظمُ آيةٍ؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ)، وإنما جاءت كذلك - لا سيَّما وهي ثاني سورةٍ في القرآن الكريم -؛ لأنها أبانت عن مقصدِ القرآن الأعظم، وفصَّلتْ في أحكامِ الدِّينِ وشرائعه ومعاملاته؛ فافتُتحت ببيانِ مقصدِ هذا الكتاب العظيم؛ وهو {هُدٗى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فهذا الكتابُ إنما نزَل للهداية والإرشاد. ثم أوضَحتِ السُّورةُ ردودَ أفعال الناس تُجاهَ هذا الكتاب، مقسِّمةً إياهم إلى (مؤمن، وكافر، ومنافق)، كما فصَّلتِ الكثيرَ من الشرائع المتعلقة بالصَّدَقات، والطلاق، والمعاملات. ولهذه السُّورةِ فضلٌ عظيم؛ فلا يستطيعها السَّحَرةُ والبَطَلة، كما قُدِّمَ حافظُها على غيره، وكانت تُعطَى له القيادةُ والرياسة؛ لعظيم شأنها، ولِما اشتملت عليه من أحكامٍ. وفيها قصةُ (بقرةِ بني إسرائيل) التي سُمِّيتِ السورة باسمها.
ترتيبها المصحفي
2نوعها
مدنيةألفاظها
6140ترتيب نزولها
87العد المدني الأول
285العد المدني الأخير
285العد البصري
287العد الكوفي
286العد الشامي
285
* قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اْللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {فَوَيْلٞ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اْلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: «نزَلتْ في أهلِ الكتابِ». "خلق أفعال العباد" (ص 54).
* قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة: 89]:
عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قتادةَ، عن رجالٍ مِن قومِه، قالوا: «إنَّ ممَّا دعانا إلى الإسلامِ مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُدَاه لنا: لَمَا كنَّا نَسمَعُ مِن رجالِ يهُودَ، وكنَّا أهلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهلَ كتابٍ، عندهم عِلْمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يَكرَهون، قالوا لنا: إنَّه قد تقارَبَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآنَ، نقتُلُكم معه قَتْلَ عادٍ وإِرَمَ، فكنَّا كثيرًا ما نَسمَعُ ذلك منهم، فلمَّا بعَثَ اللهُ رسولَه ﷺ، أجَبْناه حين دعانا إلى اللهِ تعالى، وعرَفْنا ما كانوا يَتوعَّدوننا به، فبادَرْناهم إليه، فآمَنَّا به، وكفَروا به؛ ففينا وفيهم نزَلَ هؤلاء الآياتُ مِن البقرةِ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٞ مِّنْ عِندِ اْللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اْلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعْنَةُ اْللَّهِ عَلَى اْلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 89]». سيرة ابن هشام (1/213).
* قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أقبَلتْ يهُودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، نسألُك عن أشياءَ، فإن أجَبْتَنا فيها اتَّبَعْناك، وصدَّقْناك، وآمَنَّا بك.
قال: فأخَذَ عليهم ما أخَذَ إسرائيلُ على بَنِيهِ إذ قالوا: ﴿اْللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف: 66].
قالوا: أخبِرْنا عن علامةِ النبيِّ ﷺ، قال: «تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه».
قالوا: أخبِرْنا كيف تُؤنِثُ المرأةُ، وكيف تُذكِرُ؟ قال: «يلتقي الماءانِ؛ فإذا علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنثَتْ، وإذا علا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أذكَرتْ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: فأخبِرْنا عن الرَّعْدِ؛ ما هو؟ قال: «مَلَكٌ مِن الملائكةِ موكَّلٌ بالسَّحابِ، معه مَخاريقُ مِن نارٍ، يسُوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ»، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: «زَجْرُه بالسَّحابِ إذا زجَرَه، حتى ينتهيَ إلى حيث أُمِرَ»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه؟ قال: «كان يسكُنُ البَدْوَ، فاشتكى عِرْقَ النَّسَا، فلم يَجِدْ شيئًا يلاوِمُه إلا لحومَ الإبلِ وألبانَها؛ فلذلك حرَّمها»، قالوا: صدَقْتَ.
قالوا: أخبِرْنا مَن الذي يأتيك مِن الملائكةِ؛ فإنَّه ليس مِن نبيٍّ إلا يأتيه مَلَكٌ مِن الملائكةِ مِن عندِ ربِّهِ بالرسالةِ وبالوحيِ، فمَن صاحبُك؛ فإنَّما بَقِيَتْ هذه حتى نُتابِعَك؟ قال: «هو جِبْريلُ»، قالوا: ذلك الذي يَنزِلُ بالحربِ وبالقتلِ، ذاك عدوُّنا مِن الملائكةِ، لو قلتَ: ميكائيلُ، الذي يَنزِلُ بالقَطْرِ والرحمةِ؛ تابَعْناك.
فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اْللَّهَ عَدُوّٞ لِّلْكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة: 98]». أخرجه أحمد (2514).
* قولُه تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اْلْحَقُّۖ فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]:
جاء عن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ كعبَ بنَ الأشرَفِ اليهوديَّ كان شاعرًا، وكان يهجو النبيَّ ﷺ، ويُحرِّضُ عليه كفَّارَ قُرَيشٍ في شِعْرِه، وكان المشركون واليهودُ مِن المدينةِ حين قَدِمَها رسولُ اللهِ ﷺ يُؤذُون النبيَّ ﷺ وأصحابَه أشَدَّ الأذى، فأمَر اللهُ تعالى نبيَّهُ بالصَّبْرِ على ذلك، والعفوِ عنهم؛ وفيهم أُنزِلتْ: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ} إلى قولِه: {فَاْعْفُواْ وَاْصْفَحُواْ} [البقرة: 109]». أخرجه أبو داود (رقم ٣٠٠٠).
* قولُه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ اْلْمَشْرِقُ وَاْلْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 115].
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي وهو مُقبِلٌ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِهِ حيث كان وجهُهُ، قال: وفيه نزَلتْ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اْللَّهِۚ﴾». أخرجه مسلم (700).
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا اْلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَاْلْعَٰكِفِينَ وَاْلرُّكَّعِ اْلسُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
سببُ نزولِها: ما جاء عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال: «قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى؛ فنزَلتْ: ﴿ وَاْتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ ﴾ [البقرة: 125].
وآيةُ الحجابِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمَرْتَ نساءَك أن يَحتجِبْنَ؛ فإنَّه يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجرُ؛ فنزَلتْ آيةُ الحجابِ.
واجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ ﴾؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٠٢).
* قوله تعالى: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اْلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَاۚ} [البقرة: 142]:
عن البراءِ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، ويُكثِرُ النظرَ إلى السماءِ ينتظِرُ أمرَ اللهِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اْلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٗ تَرْضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِۚ} [البقرة: 144]، فقال رجالٌ مِن المسلمين: وَدِدْنا لو عَلِمْنا عِلْمَ مَن مات قبل أن نُصرَفَ إلى القِبْلةِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ} [البقرة: 143]، وقال السُّفهاءُ مِن الناسِ: ما ولَّاهم عن قِبْلتِهم التي كانوا عليها؟ فأنزَلَ اللهُ: {سَيَقُولُ اْلسُّفَهَآءُ مِنَ اْلنَّاسِ} [البقرة: 142] إلى آخرِ الآيةِ. "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 25، 26).
* قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ ﴾ [البقرة: 143].
ممَّا صحَّ: ما جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «لمَّا وُجِّهَ النبيُّ ﷺ إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهم يُصَلُّون إلى بيتِ المقدسِ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْۚ﴾ [البقرة: 143]». أخرجه أبو داود (٤٦٨٠)، والترمذي (٢٩٦٤).
* قولُه تعالى: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256].
جاء عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «كانت المرأةُ مِن الأنصارِ تكونُ مِقْلاةً، لا يكادُ يعيشُ لها ولَدٌ، فتَجعَلُ على نفسِها إن عاش لها ولَدٌ أن تُهوِّدَهُ، فلمَّا أُجلِيَتْ بنو النَّضيرِ، كان فيهم مِن أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِي اْلدِّينِۖ ﴾ [البقرة: 256]». أخرجه أبو داود (٢٦٨٢).
* قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286].
سببُ نزولِ هذه الآيةِ: ما جاء عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: «لمَّا نزَلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ: ﴿ لِّلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اْللَّهُۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَاْللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فأتَوْا رسولَ اللهِ ﷺ، ثم برَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِن الأعمالِ ما نُطِيقُ؛ الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجهادَ، والصَّدقةَ، وقد أُنزِلتْ عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتُريدون أن تقولوا كما قال أهلُ الكتابَينِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قُولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ»، قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفْرانَكَ ربَّنا وإليك المَصِيرُ، فلمَّا اقترَأَها القومُ، ذَلَّتْ بها ألسنتُهم؛ فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: ﴿ ءَامَنَ اْلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَاْلْمُؤْمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اْلْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلمَّا فعَلوا ذلك، نسَخَها اللهُ تعالى؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اْللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اْكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرٗا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى اْلَّذِينَ مِن قَبْلِنَاۚ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نَعم. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ}، قال: نَعم. {وَاْعْفُ عَنَّا وَاْغْفِرْ لَنَا وَاْرْحَمْنَآۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَاْنصُرْنَا عَلَى اْلْقَوْمِ اْلْكَٰفِرِينَ}، قال: نَعم». صحيح مسلم (125).
* ثبَت لسورة (البقرة) اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهراء):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ». أخرجه مسلم (804).
«والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضيئتان، واحدتُها: زَهْراءُ». "لسان العرب" (4 /332).
وقد عَدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوَينِ) في هذا الحديثِ هو مِن باب الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* أمَرنا النبيُّ ﷺ أن نقرأَها في بيوتِنا؛ فإنَّ الشيطانَ يَنفِرُ منها:
كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «لا تَجعَلوا بيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ يَنفِرُ مِن البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». أخرجه مسلم (780).
* هي السُّورة التي لا يستطيعها البَطَلةُ:
فعن بُرَيدةَ بن الحُصَيب الأَسْلمي رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبيِّ ﷺ، فسَمِعْتُه يقول: «تَعلَّموا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه أحمد (٢٢٩٥٠).
* آخِرُ آيتَينِ منها تكفيانِ قارئَهما:
فعن عبدِ الرحمنِ بن يَزيدَ، قال: لَقِيتُ أبا مسعودٍ رضي الله عنه عند البيتِ، فقلتُ: حديثٌ بلَغني عنك في الآيتَينِ في سورةِ (البقرة)، فقال: نعم، قال رسولُ الله ﷺ: «الآيتانِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرَأهما في ليلةٍ كَفَتَاهُ». أخرجه مسلم (807).
* سورة (البقرة) تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القيامة:
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* لحافِظِها فضلٌ خاصٌّ وشأن عظيم:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (3/120) (12236).
وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: بعَث رسولُ اللهِ ﷺ بَعْثًا، وهم ذو عَدَدٍ، فاستقرَأهم، فاستقرَأ كلَّ رجُلٍ منهم ما معه مِن القرآنِ، فأتى على رجُلٍ منهم - مِن أحدَثِهم سنًّا -، فقال: «ما معك يا فلانُ؟!»، قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: «أمعك سورةُ البقرةِ؟!»، فقال: نعم، قال: «فاذهَبْ؛ فأنت أميرُهم»، فقال رجُلٌ مِن أشرافِهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما منَعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ إلا خشيةُ ألَّا أقُومَ بها! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرَؤوه؛ فإنَّ مثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَه، فقرَأه وقام به: كمثَلِ جرابٍ محشوٍّ مِسْكًا، يفُوحُ رِيحُه في كلِّ مكانٍ، ومثَلَ مَن تعلَّمَه، فيرقُدُ وهو في جوفِه: كمثَلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسْكٍ». أخرجه الترمذي (٢٨٧٦).
* لها نزَلتِ الملائكةُ مستمِعةً:
فعن أُسَيدِ بن حُضَيرٍ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، بينما أنا أقرأُ الليلةَ سورةَ البقرةِ، إذ سَمِعْتُ وَجْبةً مِن خَلْفي، فظنَنْتُ أنَّ فَرَسي انطلَقَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فالتفَتُّ فإذا مِثْلُ المِصباحِ مُدَلًّى بين السماءِ والأرضِ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَأْ يا أبا عَتِيكٍ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أمضيَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تلك الملائكةُ؛ نزَلتْ لقراءةِ سورةِ البقرةِ، أمَا إنَّك لو مضَيْتَ، لرأيْتَ العجائبَ». أخرجه ابن حبان (779).
* فيها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ الله؛ وهي آيةُ (الكُرْسيِّ):
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: «يا أبا المُنذِرِ، أتدري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ معك أعظَمُ؟»، قلتُ: {اْللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: «واللهِ، لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنذِرِ». أخرجه مسلم (٨١٠).
* لعلَّ رسولَ الله ﷺ قرَأها في صلاةِ الكسوف:
فقد جاء عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «لمَّا كسَفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، توضَّأَ، وأمَرَ فنُودي: إنَّ الصَّلاةَ جامعةٌ، فقام، فأطال القيامَ في صلاتِهِ، قالت: فأحسَبُه قرَأَ سورةَ البقرةِ، ثم ركَعَ، فأطال الرُّكوعَ، ثم قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثم قام مِثْلَ ما قام، ولم يسجُدْ، ثم ركَعَ، فسجَدَ، ثم قام، فصنَعَ مِثْلَ ما صنَعَ، ثم ركَعَ ركعتَينِ في سَجْدةٍ، ثم جلَسَ، وجُلِّيَ عن الشمسِ». أخرجه البخاري (١٠٤٦).
* وكذا كان يَقرَؤُها ﷺ في قيامِهِ بالليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثمَّ يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عزَّ وجلَّ إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢). وقد ورَد نحوُ هذا الحديث عن عوفِ بن مالك الأشجَعيِّ. انظر: النسائي (١١٣١).
حوَتْ سورةُ (البقرةِ) كثيرًا من الموضوعات المتنوِّعة، وقد جاءت على هذا الترتيبِ:
هداية القرآن وخلافة الإنسان (١-٣٩).
هداية القرآن وموقف الناس منها (١-٢٠).
أمر الناس باتِّباع المنهج، ونموذج الاستخلاف الأول (٢١- ٣٩).
بنو إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٠-١٦٢).تذكير وعتاب (٤٠-٤٨).
ثم ذِكر أحوال بني إسرائيل ومسوِّغات عزلِهم عن الخلافة (٤٩-٧٤).
وبعد ذلك ذِكر مواقفِ اليهود المعاصرين للنبيِّ عليه السلام (٧٥-١٢٣).
دعوة إبراهيم وتبرئتها من انتساب اليهود والنصارى إليها (١٢٤-١٤١).
انتقال القِبْلة والإمامة في الدِّين لأمَّة محمد عليه السلام (١٤٢-١٦٢).
مقوِّمات استحقاقِ أمَّة الإسلام للخلافة (١٦٣-٢٨٣).
الشرائع التفصيلية للدِّين الإسلامي (١٦٣-١٧٧).
تفصيل بعض أمور البِرِّ (١٧٨-٢٠٣).
نماذجُ بشرية ومواعظُ إلهية (٢٠٤-٢٢٠).
تفصيل أحكام الأُسرة (٢٢١-٢٤٢).
قِصص الإحياء والإماتة (٢٤٣-٢٦٠).
الإنفاق؛ آدابه والمستحِقون له (٢٦١-٢٧٤).
حفظ الأموال عن الحرام والإضاعة (٢٧٥-٢٨٣).
دعاءٌ وإجابة (٢٨٤-٢٨٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسُوَر القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /19).
جاءت هذه السُّورةُ الكريمة ببيانِ منهج خلافة الله في الأرض بين مَن أضاعوه ومَن أقاموه، وسُمُوِّ هذا الدِّين على ما سبَقه، وعُلُوِّ هَدْيِه، وأصولِ تطهيره النفوسَ بعد تبيينِ شرائعِ هذا الدِّين لأتباعه، وإصلاحِ مجتمَعِهم بعد إقامة الدليل على أنَّ الكتابَ هدًى؛ ليُتَّبعَ في كلِّ حال. وأعظَمُ ما يَهدِي إليه: الإيمانُ بالغيب؛ ومَجمَعُه: الإيمان بالآخرة، ومدارُه: الإيمان بالبعث، الذي أعرَبتْ عنه قصةُ (البقرة)، التي مدارها: الإيمانُ بالغيب؛ فلذلك سُمِّيتْ بها السورةُ. ينظر: "مصاعد النظر" للبقاعي (2 /10)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /203).