ولما كان معنى
﴿الم﴾ هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله
﴿ذلك الكتاب﴾ لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين. ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال
﴿لا ريب فيه﴾ أي في شيء من معناه ولا نظمه في
79
نفس الأمر عند من تحقق بالنظر فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب.
قال الحرالي:
«ذا» اسم مدلوله المشار إليه، واللام مدلوله معها بُعدمّا
﴿الكتاب﴾ من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام
﴿لا﴾ لنفي ما هو ممتنع مطلقاً أو في وقت
«الريب» التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منها. انتهى. وأصله قلق النفس واضطرابه، ومنه
80
ريب الزمان لنوائبه المقلقة، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال:
﴿هدى﴾ وخص المنتفعين لأن الألد لا دواء له والمتعنت لا يرده شيء فقال:
﴿للمتقين﴾ أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعاً للريب أصلاً.
قال الحرالي: جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى
81
أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب. انتهى.
ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفاً لهم فقال:
﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره، وعبر بالمصدر للمبالغة.
﴿ويقيمون الصلاة﴾ أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها. ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدماً للجار ناهياً عن الإسراف ومنبهاً
82
بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وآمراً بالورع وزاجراً عما فيه شبهة [لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه]
﴿ومما رزقناهم﴾ أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم
﴿ينفقون﴾ أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام.
قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج
﴿إن الذين كفروا ويصدون﴾ [الحج: ٢٥] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار. انتهى. وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى
﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ [البقرة: ٩١] قاطع في ذلك.
83
وقال الحرالي:
﴿يؤمنون﴾، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه، و
«الغيب» ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة
﴿يؤمنون﴾ و
﴿يقيمون﴾ تقتضي الدوام على الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و
﴿الصلاة﴾ الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل
84
أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة.
ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنياً على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهداً للإيمان وتكراراً، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله
﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ [الحديد: ٧] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما. ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفاً غير متمسك بأمر كان إذا أرشد
85
إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيباً، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول.
فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضاً انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس. انتهى.
ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل
86
فيه أهل الكتاب دخولاً أولياً فقال
﴿والذين يؤمنون﴾ أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجاداً مستمراً
﴿بما أنزل اليك﴾ أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛
﴿وما أنزل من قبلك﴾ أي على الأنبياء الماضين، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جداً بينه بالتقديم إظهاراً لمزيد الاهتمام فقال:
﴿وبالآخرة﴾ أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر. قال الحرالي: الآخرة معاد تمامه على أوليته. انتهى. ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال:
﴿هم يوقنون﴾
87
لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد. انتهى. فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله. والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية
88
والماليه من الأفعال والتروك، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر
﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] وكلاهما من أعمال البدن، والنفقه عمل مالي، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلاً على السالكين، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعباً أيسر على النفس من الكف عما تشتهي. وفي وصفهم أيضاً بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه.
ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال:
﴿أولئك﴾ أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: {على
89
هدى} أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله:
﴿من ربهم﴾ أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين
﴿وأولئك﴾ أي العالو الرتبه
﴿هم﴾ أي خاصة
﴿المفلحون﴾ أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى.
90
قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم. والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير.
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالاً من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال
91
مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟
﴿إن الذين كفروا﴾ أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان
92
على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى
﴿سواء عليهم أأنذرتهم﴾ أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب
﴿أم لم تنذرهم﴾ أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام، قال سيبوية: جرى هذا على
93
حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. انتهى. ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم
﴿لا يؤمنون﴾ وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران، فصار ممتنعاً لإرادته عدم وقوعه، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصّافّات عند
﴿افعل ما تؤمر﴾
[الصافات: ١٠٢] تتمة لهذا.
94
قال الحرالي: فحصل بمجموع قوله:
﴿سواء عليهم﴾ إلى آخره وبقوله:
﴿لا يؤمنون﴾ خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحداً ملتئماً كتباً سابقاً وكوناً لاحقاً. انتهى. وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عناداً وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد.
ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله:
﴿ختم الله﴾ أي بجلاله
﴿على قلوبهم﴾ أي ختماً مستعلياً عليها فهي لا تعي حق الوعي، لأن الختم على الشيء يمنع
95
الدخول إليه والخروج منه، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال:
﴿وعلى سمعهم﴾ فهم لا يسمعون حق السمع، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر، قال الحرالي: وشرّكه في الختم مع القلب لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل. انتهى.
﴿وعلى أبصارهم غشاوة﴾ فهم لا ينظرون بالتأمل.
ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه، ولما
96
كان الأصم، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب.
ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم فقال:
﴿ولهم عذاب عظيم﴾ قال الحرالي: وفي قوله:
﴿ولهم﴾ إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد عيان المعرفة به - أي العذاب - وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيماً آخذاً في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئاً من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك. انتهى.
97
وسيأتى عند قوله تعالى:
﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً﴾ [البقرة: ١٦٥] ما يلتفت إلى هنا.
قال الحرالي:
«الكفر» تغطية ما حقه الإظهار، و
«الإنذار» الإعلام بما يحذر، و
«الختم» إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و
«القلب» مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلباً، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمقلب القلوب،
«والغشاوة» غطاء مجلل لا يبدو معه من المغطى شيء و
«العذاب» إيلام لا إجهاز فيه، و
«العظيم» الآخذ في الجهات كلها.
98
انتهى. وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له. إذ قال
«اهدنا» فهداه، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحّلوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة.
ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى:
تحرّز من الجهال جهدك أنهم | وإن أظهروا فيك المودة أعداء |
وإن كان فيهم من يسرك فعله | فكل لذيذ الطعم أوجله داء |
لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم،
99
فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى:
﴿ومن الناس من يقول﴾ أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين: مؤمن وكافر، وانقسم الكافر قسمين: فمنهم من جاهر وقال: لا نؤمن أبداً، ومنهم من يقول، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال
100
مضطرباً بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحده. قال الحرالي، وعرف للجنس أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم،
﴿آمنا بالله﴾ أي وحده بما له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا:
﴿وباليوم الآخر﴾ الذي جحده المجاهرون،
﴿وما هم بمؤمنين﴾ أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره، وجمع هنا وأفرد في [يقول] تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة
101
من يسمح منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم في الكفر وقوتهم.
وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف: مهتدين ومعاندين وضالين، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة: متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل.
وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة، قال ابن هشام في تلخيص ذلك: وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل! وكان يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
102
يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنما محمد أذن» وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عامد إلى أحد: لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال
«هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر»، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق
«إن بيوتنا عورة» وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد من خيار المسلمين، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة: غررتم والله هذا المسكين من نفسه! وبشير بن أبيرق أبو طعيمة. وفي نسخة: طعمة، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه {ولا
103
تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} [النساء: ١٠٧] وقزمان حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إنه من أهل النار، فجرح فبشر بالجنة فقال: والله ما قاتلت إلا حمية لقومي! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش يده فمات».
ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل والجد بن قيس وهو الذي قال:
«ائذن لي ولا تفتني» وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون
104
وهو القائل
﴿ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقون: ٨] وفيه وفي وديعة العوفي ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل
﴿ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب﴾ [الحشر: ١١] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصدق الله وكذبوا.
وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مات:
«قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين»، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق:
«لا تخافوا، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين»، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا. فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم. انتهى. وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
105
وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى - جواباً لسؤال من كأنه قال: فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته؟
﴿يُخادعون الله﴾ أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده
﴿والذين آمنوا﴾ أي يعاملونهم تلك المعاملة، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم. قال
106
الحرالي: وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر. انتهى.
﴿وما يخدعون﴾ أي بما يغرون به المؤمنين
﴿إلا أنفسهم﴾ يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوساً، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبداداً منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه. انتهى. وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد
107
أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء
﴿يخادعون الله وهو خادعهم﴾ [النساء: ١٤٢]. انتهى.
﴿وما يشعرون﴾ أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم. وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز. وانتهى.
ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال: ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور؟
﴿في قلوبهم مرض﴾ أي من
108
أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال
﴿فزادهم الله﴾ أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها
﴿مرضاً﴾ أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألماً في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة، والزيادة قال الحرالي: استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء. انتهى.
﴿ولهم﴾ أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم
﴿عذاب أليم﴾ في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم. قاله الحرالي
﴿وبما كانوا﴾ قال الحرالي: من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه. انتهى.
﴿يكذبون﴾ أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون
109
في الكذب، أو ينسبون الصادق إلى الكذب، وذلك أشنع الكذب.
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله:
﴿وإذا قيل لهم﴾ وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان
﴿لا تفسدوا في الأرض﴾ أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة، والفساد انتقاض صورة الشيء. قاله الحرالي،
﴿قالوا﴾ قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين
﴿إنما نحن مصلحون﴾ والإصلاح تلافي خلل الشيء. قاله الحرالي.
ولما كان حالهم مبيناً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً فكانوا يناظرون عليه
110
بأنواع الشبه كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم
﴿ألا إنهم هم﴾ أي خاصة
﴿المفسدون﴾ أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن.
وقال الحرالي: ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، ولذلك قيل: ما يصلح المنافق، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء - انتهى.
ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه بقوله:
﴿ولكن لا يشعرون﴾ أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم
111
يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم.
ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهاً فقال:
﴿وإذا قيل﴾ أي من أي قائل كان
﴿لهم آمنوا﴾ أي ظاهراً وباطناً
﴿كما آمن الناس﴾ أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي،
112
وهو مفهم لما صرح به قوله: وما هم بمؤمنين
﴿قالوا أنؤمن﴾ أي ذلك الإيمان
﴿كما آمن السفهاء﴾ أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال:
﴿ألا إنهم هم السفهاء﴾ لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس
﴿ولكن لا يعلمون﴾ أي ليس لهم علم أصلاً لا بذلك ولا بغيره، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم، قال الحرالي: ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه - انتهى. ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه.
113
ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلاً على إفسادهم بقوله:
﴿وإذا لقوا﴾ واللقاء اجتماع بإقبال
﴿الذين آمنوا﴾ أي حقاً ظاهراً وباطناً، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلاً في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من الملتقيين.
انتهى
﴿قالوا﴾ خداعاً
﴿آمنا﴾ معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث.
114
﴿وإذا خلوا﴾ منتهين
﴿إلى شياطينهم﴾ أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير - قاله الحرالي،
﴿قالوا إنا معكم﴾ معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعاً لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال: ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم؟
﴿إنما نحن مستهزئون﴾ أي طالبون للهُزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي.
فأجيب من كأنه قال: بماذا جوزوا؟ بقوله:
﴿اللهُ يستهزىء بهم﴾ أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره
115
المرذي لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان مجدداً لهم ذلك بحسب استهزائهم، وذلك أنكأ من شيء دائم توطّن النفس عليه، فلذلك عبر بالفعليه دون الاسمية. مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية.
﴿ويمدهم﴾ من المد بما يلبس عليهم. وقال الحرالي: من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه،
﴿في طغيانهم﴾ أي تجاوزهم الحد في الفساد. وقال الحرالي: إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها انتهى. وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم
﴿يعمهون﴾ أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلاً. قال الحرالي: من العمه وهو انبهام الأمور
116
التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدون حداً إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبداً متزايدو الطغيان - انتهى.
فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف
﴿أولئك﴾ أي الشديدو البعد من الصواب
﴿الذين اشتروا﴾ أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا
﴿الضلالة﴾ أي التي هي أقبح الأشياء
﴿بالهدى﴾ الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة
﴿فما﴾ أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما
﴿ربحت تجارتهم﴾ مع ادعائهم أنهم أبصر الناس بها
﴿وما كانوا﴾ في نفس جبلاتهم
﴿مهتدين﴾ لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال، لأنه لم يبق
117
في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية.
118
فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى
﴿مثلهم﴾ أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها
﴿كمثل الذي استوقد ناراً﴾ أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها، فوقدت وأنارت.
﴿فلما أضاءت﴾ أي النار، وأفراد الضمير باعتبار لفظ
«الذي» فقال:
118
﴿ما حوله﴾ وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد
﴿ذهب الله﴾ الذي له كمال العلم والقدرة، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخر فقال:
﴿بنورهم﴾ أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل: بضوئهم، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط، لأن الضوء أعظم من مطلق النور
﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً﴾ [يونس: ٥] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور، وعبر بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صيّر بترك فقال:
﴿وتركهم في ظلمات﴾
119
أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته
﴿لا يبصرون﴾ أي لا إبصار لهم أصلاً ببصر ولا بصيرة.
ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشىء عن عدم الإدراك الناشىء عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار فقال:
﴿صم﴾ أي عن السماع النافع
﴿بكم﴾ عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها
120
خير تقذفه إلى الألسنة
﴿عمي﴾ في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء،
﴿فهم﴾ أي فتسبب عن ذلك أنهم
﴿لا﴾ ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال:
﴿يرجعون﴾ أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون عن حالهم هذا أصلاً، لأنهم كمن هذا حاله، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر.
121
﴿أو﴾ مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد
﴿كصيب﴾ أي أصحاب صيب أي مطر عظيم، وقال الحرالي: سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقاً لأن المراد الحقيقة قوله:
﴿من السماء﴾ وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس، يعني هذا أصلة والمراد هنا معروف، ومثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله:
﴿فيه ظلمات﴾ أي لكثافة السحاب واسوداده
﴿ورعد﴾ أي صوت مرعب يرعد عند سماعه
﴿وبرق﴾ أي نور مبهت للمعانه وسرعته قاله الحرالي، والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما لم يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه.
122
ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازاً فقال:
﴿يجعلون أصابعهم﴾ أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم
﴿في آذانهم من الصواعق﴾ أي من أجل قوتها، لأن هولها يكاد أن يصم، وقال الحرالي: جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد، ثم علل هذا بقوله:
﴿حذر الموت والله﴾ أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿محيط بالكافرين﴾ فلا يغنيهم من قدره حذر، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره.
ثم استأنف الحديث عن بقية حالهم فقال:
﴿يكاد البرق﴾ أي من
123
قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه
﴿يخطف أبصارهم﴾ فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل: ماذا يصنعون عند ذلك؟ فقال:
﴿كلما﴾ وعبر بها دون إذا دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي عند الإضاءة
﴿أضاء لهم مشوا فيه﴾ مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوته قوله:
﴿وإذا أظلم عليهم قاموا﴾ أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم بصائر بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام
124
بل حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه.
﴿ولو شاء الله﴾ الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم، ودل على مفعول شاء بقوله:
﴿لذهب بسمعهم﴾ أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم
﴿وأبصارهم﴾ بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها، ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿على كل شيء﴾ أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبوية يقع على كل ما أخبر عنه، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال،
125
وقول الأشاعرة: إن المعدوم ليس بشيء، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان متميز فيها
﴿قدير﴾ إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب، قال الحرالي: القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى.
ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني، أو لأنه مثل المنافقين، جعلت مدة صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ. لأن الضلال فيه أشنع وأفظع. فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً، والظلمات متشابهه، والصواعق
126
وعيده، والبرق وعده، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً
﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾ [المنافقون: ٤] وكلما بشروا انقادوا رجاء، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها، لا نفوذ لهم إلى ما وراءها أصلاً، بل هم كالأنعام، لا نظر لهم ألى ما سوى الجزيئات والأمور المشاهدات،
﴿فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم﴾ [النساء: ١٤١]
﴿يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاًعظيماً﴾ [النساء: ٧٣] والكلام الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد، وفي الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع بأصحاب
127
الصيب لا بمثلهم؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن استوى وجودهما وعدمهما،
128
فصار عادماً للثلاثة، فكان من هذه الجهة مساوياً للأصم الأبكم الأعمى، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي، فهو حينئذ مثل البهائم التي لا تقاد للمراد إلا بقائد، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى:
﴿كمثل الذي ينعق﴾ [البقرة: ١٧١] ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم إلى آخره و
«او» بمعنى الواو، ولعله عبر بها دونها لأنه وإن كان كل من المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد، لأن الأول أظهر في الأول والثاني في الثاني.
129
وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال: ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم، فضرب لهم المثل الأول، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا لما رأوا من معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين اتهى. وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً به فكان حرف الحمد، وذلك أنه حرف عام محيط شامل
130
لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه
«عروة المفتاح» : هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات بضرب مثل من المشهودات، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً لما هو أخفى منه، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي فيما يعلم
﴿وله المثل الأعلى في السماوات والأرض﴾ [الروم: ٢٧] {الذين يحملون
131
العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر: ٧] وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد
﴿وله الحمد في السماوات والأرض﴾ [الروم: ١٨] وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان خُلقه القرآن
﴿لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم﴾
[الحجر: ٨٧] ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه
﴿ضرب لكم مثلاً من أنفسكم﴾ [الروم: ٢٨] ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً
﴿إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها﴾ [البقرة: ٢٦]
﴿مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً﴾ [العنكبوت: ٤١] وللمثل حكم من ممثوله، إن كان حسناً حسنَ مثله، وإن كان سيئاً ساء مثله؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق، وهو أدنى مثل لما خفى من أمر الخلق، كما أن الحمد أعلى مثل غاب من أمر الحق
132
وبين الحدين؛ أمثال حسنة وسيئة
﴿مثل الجنة التي وعد المتقون﴾ [الرعد: ٣٥] الآيتين،
﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها﴾ [الجمعة: ٥]
﴿فمثله كمثل الكلب﴾ [الأعراف: ١٧٦] الآيتين. وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف،
﴿فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى، وبذلك يكون القارىء من القراء الذين قال فيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إنهم أعز من الكبريت الأحمر» ﴿يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾ [آل عمران: ٧٤].
ثم قال فيما به يحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن قراءة الأحرف
133
الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً
﴿وله الدين واصباً﴾ [النحل: ٥٢] و
﴿الذين هم على صلاتهم دائمون﴾ [المعارج: ٢٣] فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف السته التفصيلية، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامه المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى:
﴿وله المثل الأعلى﴾ [الروم: ٢٧] وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة؛ ولجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله، وعنه
134
كمل الدين بالإحسان، وصفا العلم بالإيقان، وشوهد في الوقت الحاضر، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو لكل شيء بداء وختام انتهى.
ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول العلم المستلزمان للواحدانية أنتج قطعاً إفراده بالعباده الموجبه
135
للسعاده المضمنة لإياك نعبد، فوصل بذلك قوله مقبلاً عليهم بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذاناً بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطاً لهم في عبادته وترغيباً وتحريكاً إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضاً عنه بدوام الترقيه، فيزال ما أشار إليه حرف النداء والتعبير عن المنادى من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة
﴿ياأيها الناس﴾.
قال الحرالي في تفسيره
﴿يا﴾ تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي المقصورة
«أيّ» اسم مبهم، مدلوله
136
اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل،
«ها» كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه - انتهى. وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين المقصود بالنداء تنبيهاً على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد.
وقال الحرالي: اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب فكذلك أيضاً جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها، ولذلك تترجم السورة عدة سور، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم مع ذلك أن كل نبىء منبأ - يقرأ بالهمز - من النبأ وهو الخبر، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
137
نبياً منبياً من النبوة - يقرأ بغير همز. ومعناه رفعة القدر والعلو، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طيّة أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبأ في كل كتاب، فأعلمه بأنه تعالى جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب: منهم من فُطِر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهراً والكفر باطناً، وإن كلاًّ ميسر لما خلق له؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء - بالهمز، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته
﴿الم﴾ ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة
138
إلى العبادة يعني بهذه الآية، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن.
ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله فلم يجر خطاب ذلك على لسانه، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للعالمين فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم، ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار
139
دينه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاويه خلقه، ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله:
﴿وبشر﴾ [البقرة: ٢٥] ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ
﴿أن اعبدوا الله﴾ [المائدة: ١١٧] ونحو فعزّ على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك العقول، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالاً على النفوس، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي
140
كالشمس والقمر ونحو ذلك، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء، واقتضى اليسر الذي
141
أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها - انتهى.
ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال:
﴿اعبدوا ربكم﴾ أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني. ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال:
﴿الذي خلقكم﴾، قال الحرالي:
﴿الذي﴾ اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف
142
يعقب به وهي الصلة اللازمة له، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة
﴿والذين من قبلكم﴾ القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه - انتهى.
ثم بين نتيجتها بقوله:
﴿لعلكم تتقون﴾ أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى، وهي اجتناب القبيح من خوف الله، وسيأتي في قوله:
﴿لعلكم تشكرون﴾ ما ينفع هنا. وقال الحرالي: لعل كلمة ترج لما تقدم سببه، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم
143
وأفعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم. بذلك تقوى - انتهى.
وما أحسن الأمر بالعبادة حال الاستدلال على استحقاقها بخلق الأولين والآخرين وما بعده عقب إثبات قدرة الداعي المشيرة إلى الترهيب من سطواته! ولقد بدع هذا الاستدلال على التفرد بالاستحقاق عقب أحوال من قرب أنهم في غاية الجمود بأمور مشاهدة يصل إليها كل عاقل بأول وهلة من دحو الأرض وما بعده مما به قوام بقائهم من السكن والرزق في سياق منبّه على النعمة محذر من سلبها دال على الإله بعد
144
الدلالة بالأنفس من حيث إن كل أحد يعرف ضرورة أنه وُجد بعد أن لم يكن، فلا بد له من موجد غير الناس، لما يشاهد من أن حال الكل كحاله بالدلالة بالآفاق من حيث إنها متغيرة، فهي مفتقرة إلى مغير هو الذي أحدثها ليس بمتغير، لأنه ليس بجسم ولا جسماني في سياق مذكر بالنعم الجسام الموجبة لمحبة المنعم وترك المنازعة وحصول الانقياد فقال:
﴿الذي جعل﴾ قال الحرالي: من الجعل وهو إظهار أمر عن سبب وتصيير
﴿لكم الأرض﴾ أي المحل الجامع لنبات كل نابت ظاهر أو باطن، فالظاهر كالموالد وكل ما الماء أصله، والباطن كالأعمال والأخلاق وكل ما أصله ما الماء آيته كالهدى والعلم ونحو ذلك؛ ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها فقيل: أرض أريضة، للكريمة المنبتة، وأصل معناها ما سفل في مقابلة معنى السماء الذي
145
هو ما علا على سفل الأرض كأنها لوح قلمه الذي يظهر فيها كتابه - انتهى.
﴿فراشاً﴾ وهي بساط سقفه السماء وهي مستقر الحيوان من الأحياء والأموات، وأصله كما قال الحرالي: بساط يضطجع عليه للراحة ونحو ذلك،
﴿والسماء بناء﴾ أي خيمة تحيط بصلاح موضع السكن وهو لعمري بناء جليل القدر، محكم الأمر، بهي المنظر، عظيم المَخْبَر.
ورتبت هذه النعم الدالة على الخالق الداعية إلى شكره أحكم ترتيب، قدم الإنسان لأنه أعرف بنفسه والنعمة عليه أدعى إلى الشكر، وثنى
146
بمن قبله لأنه أعرف بنوعه، وثلث بالأرض لأنها مسكنه الذي لا بد له منه، وربع بالسماء لأنها سقفه، وخمس بالماء لأنه كالأثر والمنفعة الخارجة منها وما يخرج بسببه من الرزق كالنسل المتولد بينهما فقال:
﴿وأنزل﴾ قال الحرالي: من الإنزال وهو الإهواء بالأمر من علو إلى سفل - انتهى.
﴿من السماء﴾ أي بإثارتها الرياح المثيرة للسحاب الحامل للماء
﴿ماء﴾ أي جسماً لطيفاً يبرد غلة العطش، به حياة كل نام. قال الحرالي: وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق
﴿فأخرج﴾ من الإخراج وهو إظهار من حجاب، وفي سوقه بالفاء تحقيق للتسبيب في الماء - انتهى.
وأتي بجمع القلة في الثمر ونكر الرزق مع المشاهدة لأنهما بالغان في الكثرة إلى حد لا يحصى تحقيراً لهما في جنب قدرته إجلالاً له فقال:
147
﴿به من الثمرات رزقاً﴾ وإخراج الأشياء في حجاب الأسباب أوفق بالتكليف بالإيمان بالغيب، لأنه كما قيل: لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب، والثمر كما قال الحرالي: مطعومات النجم والشجر وهي عليها، وعُبر بِمن لأن ليس كل الثمرات رزقاً لما يكون عليه وفيه من العصف والقشر والنوى، وليس أيضاً من كل الثمرات رزق فمنه ما هو للمداواة ومنه سموم وغير ذلك. وفي قوله:
﴿لكم﴾ إشعار بأن في الرزق تكملة لذواتهم ومصيراً إلى أن يعود بالجزاء منهم.
وقد وصف الرب في هذه الآية بموصولين ذكر صلة الثاني بلفظ
148
الجعل، لأن حال القوام مرتب على حال الخلق ومصيّر منه، فلا يشك ذو عقل في استحقاق الانقياد لمن تولى خلقه وأقام تركيبه؛ ولا يشك ذو حس إذا تيقظ من نوم أو غفلة فوجد بساطاً قد فرش له وخيمة قد ضربت عليه وعولج له طعام وشراب قدم له أن نفسه تنبعث بذاتها لتعظيم من فعل ذلك بها ولتقلد نعمته وإكباره؛ فلتنزيل هذه الدعوة إلى هذا البيان الذي يضطر النفس إلى الإذعان ويدخل العلم بمقتضاها في رتبة الضرورة والوجدان كانت هذه الدعوة دعوة عربية جارية على مقتضى أحوال العرب، لأن العرب لا تعدو بأنفسها العلم الضروري وليس من شأنها تكلف الأفكار والتسبب إلى تواني العلوم النظرية المأخوذة من مقتضى الإمارات والأدلة، فعوملت بما جبلت عليه فتنزل لها لتكون
149
نقلتها من فطرة إلى فطرة ومن علم وجداني إلى علم وجداني عليّ لتحفظ عليها رتبة الإعراب والبيان بأن لا يتسبب لها إلى دخول ريب في علومها، لأن كل علم مكتسب يتكلف التسبب له بآيات وعلامات ودلائل تبعد من الحس وأوائل هجوم العقل تتعارض عليه الأدلة ويعتاده الريب، فحفظت هذه الدعوة العربية عن التكلف وأجريت على ما أحكمه صدر السورة في قوله تعالى:
﴿لا ريب فيه﴾.
واعلم أن حال المخلوق في رزقه محاذي به حاله في كونه، فيعلم بالاعتبار والتناسب الذي شأنه أن تتعلم من جهته المجهولات أن الماء بزر كون الإنسان كما أن الماء أصل رزقه، ولذلك قال عليه السلام لمن سأله ممن هو فلم يرد أن يعين له نفسه:
«نحن من ماء» ويعلم كذلك
150
أيضاً أن للأرض والسماء مدخلاً في أمشاج الإنسان رتب عليه مدخلها في كون رزقه، وفي ذكر الأرض معرفة أخذ للأرض إلى نهايتها وكمالها، ولذلك قال عليه السلام:
«من اغتصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين» وكذلك ذكر السماء أخذ لها إلى نهايتها وكمالها؛ وقدم الأرض لأن نظر النفوس إلى ما تحتها أسبق لها من نظرها إلى ما علا عليها. ثم قال: ولوضوح آية الربوبية تقلدها الأكثر وإنما توقفوا في الرسالة ولذلك وصل ذكر الرسالة بالتهديد - انتهى.
ولما أمر بعبادته وذكرهم سبحانه بما يعلمون أنه فاعله وحده حسن النهي عن أن يشرك به ما لا أثر له في شيء من ذلك بفاء التسبب عن الأمرين كليهما قال معبراً بالجلالة على ما هو الأليق بالتوبيخ على تألّه الغير
﴿فلا تجعلوا لله﴾ أي ما إحاطته بصفات الكمال. ويجوز أن
151
يكون مسبباً عن التقوى المرتجاة فتكون لا نافية والفعل منصوب
﴿أنداداً﴾ أي على حسب زعمكم أنها تفعل ما تريدون. قال الحرالي: جمع ند وهو المقاوم في صفة القيام والدوام، وعبر بالجعل لأن بالجعل والمصير من حال إلى حال أدنى منها ترين الغفلة على القلوب، حتى لا تشهد في النعم والنقم إلا الخلق من ملك أو ذي إمرة أو من أي ذي يد عليا كان، ولما شهدوا ذلك منهم تعلق بهم رجاؤهم وخوفهم وعاقبهم ربهم على ذلك بأيديهم فاشتد داعي رجائهم لهم وسائق خوفهم منهم فتذللوا لهم وخضعوا، فصاروا بذلك عبدة الطاغوت وجعلوهم لله أنداداً - انتهى. وما أحسن قوله في تأنيبهم وتنبيههم على ما أزروا بأنفسهم
﴿وأنتم تعلمون﴾ أي والحال أنكم ذوو علم على ما تزعمون
152
فإنه يلوّح إلى أن من أشرك به مع قيام هذه الأدلة لم يكن ممن يصح منه العلم فكان في عداد البهائم. وفيه كما قال الحرالي: إعلام بظهور آيات ما يمنع جعل الند لما يشاهد أن جميع الخلق أدناهم وأعلاهم مقامون من السماء وفي الأرض ومن الماء، فمن جعل لله نداً مما حوته السماء والأرض واستمد من الماء فقد خالف العلم الضروري الذي به تقلد التذلل للربوبية في نفسه فإن يحكم بذلك على غيره مما حاله كحاله أحق في العلم - انتهى.
وفي تعقيبها لما قبلها غاية التبكيت على
153
من ترك هذا القادر على كل شيء وعبد ما لا يقدر على شيء.
وهذه الآية من المحكم الذي اتفقت عليه الشرائع واجتمعت عليه الكتب، وهو عمود الخشوع، وعليه مدار الذل والخضوع. قال الإمام أبو الحسن الحرالي في العروة: وجه إنزال هذا الحرف تحقيق اتصاف العبد بما هو اللائق به في صدق وجهته إلى الحق بانقطاعه عن نفسه وبراءته منها والتجائه إلى ربه استسلاماً، وجهده في خدمته إكباراً واستناده إليه اتكالاً، وسكونه له طمأنينة
﴿يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية﴾ [الفجر: ٢٧، ٢٨]، ويتأكد تحلي العبد بمستحق أوصافه لقراءة هذا الحرف والعمل به بحسب براءته من التعرض لنظيره المتشابه، لأن اتباع المتشابه زيغ لقصور العقل والفهم عن نيله، ووجوب الاقتصار على الإيمان به من غير موازنة بين ما خاطب الله به عباده للتعرف وبين ما جعله للعبد للاعتبار، سبحانه من لم يجعل سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى:
﴿اقرأ باسم ربك﴾ [العلق: ١] الآيات، وما قدم في الترتيب في قوله تعالى: {يا أيها الناس
154
اعبدوا ربكم} إلى ما ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب التي هي المعرفة
﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: ٥٦] فليكن أول ما تدعوهم إليهم عبادة الله فإذا عرفوا الله، ومن ذكر عبادة النفس التي هي الإجمال في الصبر وحسن الجزاء
﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم﴾ [الكهف: ٢٨]
﴿ويدرؤون بالحسنة السيئة﴾ [الرعد: ٢٢]
﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ [المؤمنون: ٢] لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه إلى سائر أحوال العبد التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب، وما تقدم من حرفي الحلال والحرام لإصلاح الدنيا، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابه، والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق وعياذ من العتق، فلذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك في نفس ولا غير، ولذلك بدىء بتنزيله النبي العبد، وهو ثمرة ما قبله وأساس
155
ما بعده، وهو للعبد أحوال محققة لا يشركه فيها ذو رثاء ولا نفاق، ويشركه في الأربعة المتقدمة - يعني النهي والأمر والحلال والحرام، لأنها أعمال ظاهرة فيتحلى بها المنافق، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة، ولا بالخشوع ولا بالخضوع، ولا بالشوق للقاء ولا بالحزن في الإبطاء، ولا بالرضا بالقضاء، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن وأحاديثه الواردة للبيان، وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمن
﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ [الفرقان: ٦٣] الذين ليس للشيطان عليهم سلطان
﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ [الحجر: ٤٢، والإسراء: ٦٥].
ولما كان حرف المحكم مستحق العبد في حق الرب في فطرته التي فطر عليها كان ثابتاً في كل ملة وفي كل شرعة فكانت آياته لذلك هن أم الكتاب المشتمل على الأحرف الأربعة، لتبدلها وتناسخها وتناسبها في الشرع والملل واختلافها على مذاهب الأئمة في الملة الجامعة، مع اتفاق الملل في الحرف المحكم فهو أمها وقيامها الثابت حال تبدلها وهو حرف الهدى الذي يهدي به الله من يشاء، وقرأته العملة به هم المهتدون أهل السنة والجماعة، كما أن المتبعين لحرف المتشابه هم المتفرقون في الملل وهم أهل البدع والأهواء المشتغلون بما لا يعنيهم،
156
وبهذا الحرف المتشابه يضل الله من يشاء؛ فحرف المحكم للاجتماع والهدى، وحرف المتشابه للافتراق والضلال
﴿والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾ [الأحزاب: ٤].
ثم قال: اعلم أن قراءة الأحرف الماضية الأربعة هو حظ العامة من الأمة العاملين لربهم على الجزاء المقارضين له على المضاعفة، وقراءة هذا الحرف تماماً هو حظ المتحققين بالعبودية المتعبدين بالأحوال الصادقة المشفقين من وهم المعاملة، لشعورهم أن العبد لسيده مصرّف فيما شاء وكيف شاء، ليس له في نفسه حق ولا حكم، ولا حجة له على سيده فيما أقامه فيه من صورة سعادة أو شقاوة
﴿في أيّ صورة ما شاء ركبك﴾ [الانفطار: ٨]
﴿على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون﴾ [الواقعة: ٦٣].
والذي تحصل به قراءة هذا الحرف إما من جهة القلب فالمعرفة بعبودية الخلق للحق رقّ خلق ورزق وتصريف فيما شاء مما بينه وبين ربه ومما بينه وبين نفسه ومما بينه وبين أمثاله من سائر العباد، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يأخذ إلا ما أعطاه سيده، ولا يتقي
157
إلا ما وقاه سيده، ولا يكشف السوء عنه إلا هو، فيسلم له مقاليد أمره في ظاهره وباطنه، وذلك هو الدين عند الله الذي لا يقبل سواه
﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ [آل عمران: ١٩] و
﴿من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾ [آل عمران: ٨٥] وهو دين النبي العبد، وما يتحقق للعبد من ذلك عن اعتبار العقل وخلوص اللب هي الملة الحنيفية ملة النبي الخليل - هذا من جهة القلب؛ وإما من جهة حال النفس فجميع أحوال العبد القن المعرق في الملك: إنما أنا عبد آكل مثل ما يأكل العبد؛ وجماع ذلك وأصله الذل انكساراً والذل عطفاً والبراءة من الترفع والفخر على سائر الخلق والتحقق بالضعة دونهم على وصف النفس، بذلك ينتهي حسن التخلق مع الخلق وصدق التعبد للحق؛ وإما من جهة العمل فتصرف الجوارح وإسلامها لله قولاً وفعلاً وبذلاً، ومسالمة الخلق لساناً ويداً، وهو تمام الإسلام وثبته، لا يكتب أحدكم في المسلمين حتى يسلم الناس من لسانه ويده، ويخص
158
الهيئة من ذلك ما هو أولى بهيئات العبيد كالذي بنيت عليه هيئة الصلاة من الإطراق في القيام ووضع اليمنى على اليسرى بحذاء الصدر هيئة العبد المتأدب المنتظر لما لا يدري خبره من أمر سيده وكهيئة الجلوس فيها الذي هو جلوس العبيد، كذلك كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس لطعامه ليستوي حال تعبده في أمر دنياه وأخراه ويقول:
«إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد» ويؤثر جميع ما هو هيئة العبيد في تعبده ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه وظعنه وإقامته
﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ [آل عمران: ٣١] فبهذه الأمور من تحقق العبودية للقلب وذل النفس وانكسار الجوارح تحصل قراءة حرف المحكم والله الولي الحميد - انتهى.
159
ولما ثبتت هذه الأدلة فوجب امتثال ما دعت إليه ولم يبق لمتعنت شبهة إلا أن يقول: لا أفعل حتى أعلم أن هذا الكتاب الذي تقدم أنه الهدى كلام الله، قال مبيناً إنه من عنده نظماً كما كان من عنده معنى محققاً ما ختم به التي قبلها من أن من توقف عما دعا إليه من التوحيد وغيره لا علم له بوجه، وأتى بأداة الشك سبحانه مع علمه بحالهم تنبيهاً على أنه من البعيد جداً أن يجزم بشكهم بعد هذا البيان
﴿وإِن﴾ أي فإن كنتم من ذوي البصائر الصافية والضمائر النيرة علمتم بحقية هذه المعاني وجلالة هذه الأساليب وجزالة تلك التراكيب أن هذا
159
كلامي، فبادرتم إلى امتثال ما أمر والانتهاء عما عنه زجر.
﴿وإن كنتم في ريب﴾ أي شك محيط بكم من الكتاب الذي قلت - ومن أصدق مني قيلاً - إنه
﴿لا ريب فيه﴾.
160
وأشار هنا أيضاً إلى عظمته وعظمة المنزل عليه بالنون التفاتاً من الغيبة إلى التكلم فقال:
﴿مما نزلنا﴾ قال الحرالي: من التنزيل وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة ونحو ذلك - انتهى.
﴿على عبدنا﴾ أي الخالص لنا الذي لم يتعبد لغيرنا قط، فلذلك استحق الاختصاص دون عظماء القريتين وغيرهم، فارتبتم في أنه كلامنا نزل بأمرنا وزعمتم أن عبدنا محمداً أتى به من عنده لتوهمكم أن فيما سمعتم من الكلام شيئاً مثله
161
لأجل الإتيان به منجماً أو غير ذلك من أحواله.
﴿فأتوا﴾ أي على سبيل التنجيم أو غيره، قال الحرالي: الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة
﴿بسورة﴾ أي نجم واحد. قال الحرالي: السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة - انتهى. وتفصيل القرآن إلى سور وآيات، لأن الشيء إذا كان جنساً وجعلت له أنواع واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه وأنبل ولا سيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة
162
الانتظام، وتجاوبت النظائر بحسن الالتيام، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام وجمال الأحكام، وذلك أيضاً أنشط للقارىء وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة أو سورة معلومة وغير ذلك
﴿من مثله﴾ أي من الكلام الذي يمكنكم أن تدعوا أنه مثل ما نزلنا كما قال:
﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله﴾ [الإسراء: ٨٨] فإن عبدنا منكم ونشأ بين أظهركم، فهو لا يقدر على أن يأتي بما لا تقدرون على مثله إلا بتأييد منا.
ولما كانوا يستقبحون الكذب قال:
﴿وادعوا شهداءكم﴾ أي من تقدرون على دعائه من الموجودين بحضرتكم في بلدتكم أو ما قاربها،
163
والشهيد كما قال الحرالي من يكثر الحضور لديه واستبصاره فيما حضره - انتهى.
﴿من دون الله﴾ أي لينظروا بين الكلامين فيشهدوا بما تؤديهم إليه معرفتهم من المماثلة أو المباينة فيزول الريب ويظهر إلى الشهادة الغيب أو ليعينوكم على الإتيان بمثل القطعة المحيطة التي تريدون معارضتها. قال الحرالي: والدون منزلة القريب فالقريب من جهة سفل، وقد عقلت العرب أن اسم الله لا يطلق على ما ناله إدراك العقل فكيف بالحس! فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم ونالته عقولهم فإنه من دون الله - انتهى.
164
ففي التعبير به توبيخ لهم بأنهم لم يرضوا بشهادته سبحانه.
وحكمة الإتيان بمن التبعيضية في هذه السورة دون بقية القرآن أنه سبحانه لما فرض لهم فيها الريب الذي يلزم منه زعمهم أن يكونوا اطلعوا له على مثيل أو سمعوا أن أحداً عثر له على شبيه اقتضى الحال الإتيان بها ليفيد أن المطلوب منهم في التحدي قطعة من ذلك المثل الذي ادعوه حكيمة المعاني متلائمة المباني منتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتيام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره سواء كانت القطعة المأتي بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها، فالتحدي هنا منصرف إلى الآية بالنظر الأول وإلى ما فوقها بالنظر الثاني.
والمراد بالسورة هنا مفهومها اللغوي، لأنها من المثل المفروض
165
وهو لا وجود له في الخارج حتى يكون لقطعة اصطلاح في الأسماء معروف، ولأن معرفة المعنى الاصطلاحي كانت مخصوصاً بالمصدقين ولو أريد التحدي بسورة من القرآن لقيل: فائتوا بمثل سورة منه، ولما كان هذا هو المراد قصرهم في الدعاء على من بحضرتهم من الشهداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يونس عليه السلام وبقية السور المذكورة فيها هذا المعنى ما يتم به هذا الكلام. وفي قوله:
﴿إن كنتم صادقين﴾ إيماء إلى كذبهم في دعوى الشك فيه، قال الحرالي: والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقاً لما احتوى عليه قلبه مما له حقيقة ثابتة بحسبه، وقال: اتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق، لأنهما رزقان: أحدهما ظاهر يعم الكافر في نزوله، والآخر وهو الوحي رزق
166
باطن يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتاً؛ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولته عمومه فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من مثله تحقق اختصاص من نزل عليه به وأجرى ذكره باسم العبودية إعلاماً بوفائه بأنحاء التذلل وإظهاراً لمزية انفراده بذلك دونهم ليظهر به سبب الاختصاص.
وانتظم النون في
﴿نزلنا﴾ من يتنزل بالوحي من روح القدس والروح الأمين ونحو ذلك، لأنها تقتضي الاستتباع، واقتضت النون في لفظ
﴿عبدنا﴾ ما يظهره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم من الانقياد والاتباع وما اقتضاه خلقه العظيم من خفض الجناح، حتى أنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحتى أنه يتصف بأوصاف العبد في أكله كما قال:
«آكل كما يأكل العبد» انتهى.
والتحدي بسورة يشمل أقصر سورة كالكوثر ومثلها في التحدي
167
آية مستقلة توازيها وآيات، كما قاله الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلي في شرح جمع الجوامع، وسبقه الإمام شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي فنظمه في القنية في الأصول ونقله في شرحها عن ظاهر كلام إمام الحرمين في الشامل وعن كلام الفقهاء في الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية، وسبقهما العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني فقال في تلويحه على توضيح صدر الشريعة: المعجز هو السورة أو مقدارها هكذا ذكر الذين تكلموا في الإعجاز من الأصوليين وغيرهم أن التحدي وقع بسورة من القرآن، والصواب أنه إنما وقع بقطعة آية فما فوقها، لأن المراد بالسورة مفهومها اللغوي لا الاصطلاحي كما تقدم بيانه.
والحاصل أنه لما كان في آيات المنافقين ذكر الأمثال وكانوا قد استغربوا بعض أمثال القرآن وجعلوها موضعاً للشك من حيث كانت موضعاً لليقين فقالوا: لو كان هذا من عند الله لما ذكر فيه أمثال هذه الأمثال، لأنه أعظم من أن يذكر ما دعاهم إلى المعارضة في هذه السورة
168
المدنية بكل طريق يمكنهم، وأخبرهم بأنهم عاجزون عنها وأن عجزهم دائم تحقيقاً لأنهم في ذلك الحال معاندون لا شاكون.
ولما كان سبحانه عالماً بأن الأنفس الأبية والأنوف الشامخة الحمية التي قد لزمت شيئاً فمرنت عليه حتى صار لها خلقاً يصعب عليها انفكاكها عنه ويعسر خلاصها منه عبر عن هذا الإخبار بالعجز مهدداً في سياق ملجىء إلى الإنصاف بالاعتراف أو تفطر القلوب بالعجز عن المطلوب بقوله تعالى:
﴿فإن لم تفعلوا﴾ فأتى بأداة الشك تنفيساً لهم وتهكماً في نفس الأمر بهم واستجهالاً لهم، ثم لم يتمم ذلك التنفيس حتى ضربهم ضربة
169
فضمت ظهورهم وقطعت قلوبهم فقال لتكون الآية كافلة لصحة نسبة النظم والمعنى آيد وآكد لادعائهم المقدرة بقوله تعالى:
﴿ولن تفعلوا﴾ فألزمهم الخزي بما حكم عليهم به من العجز، فلم يكن لهم فعل إلا المبادرة إلى تصديقه بالكف، فكانوا كمن ألقم الحجر فلم يسعه إلا السكوت، واستمر ذلك التصديق لهم ولأمثالهم على وجه الدهر في كل عصر ينادي مناديه فتخضع له الرقاب ويصدّح مؤذنه فتنكسر
170
الرؤوس، والتعبير بالفعل الأعم من الإتيان أبلغ لأن نفيه نفي الأخص وزيادة.
والفعل قال الحرالي ما ظهر عن داعية من الموقع كان عن علم أو غير علم لتدين كان أو لغيره كما تقدم مراراً - انتهى.
فقد ثبت أن هذا الكتاب الذي بين أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أعظم دليل على إفراده بالعبادة واختصاصه بالمراقبة التي أرشدنا إليها بقوله:
﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ [الفاتحة: ٤] الآية بما ثبت فيه من أدلة التفرد بالإلهية بما ثبت من عجزهم عن معارضته وعجز جميع العرب الذين كانوا أفصح الخلق وكذا جميع من ولد في بلادهم وانطبع بلسانهم من اليهود والنصارى الذين لهم من الفصاحة والعلم ما هو مشهور فقد كان لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة الشريفة وخيبر واليمن وغيرها،
171
ومن دخل في دينهم من العرب من الفصاحة والبلاغة والعلم ما لا يحتاج من طالع السيرة فيه إلى توقف، وكان النصارى من بني إسرائيل ومن دان دينهم من العرب وهم كثير كثرة قوم المنذرين ماء السماء، وما قارب الشيء من عبد القيس وتنوخ وعامله وغسان كلهم فصحاء بلغاء، وزاد كثير منهم على ذلك العلم وكان منهم الشعراء المبرزون؛ ومع ذلك فلم يقدر أحد منهم على طعن في هذا القرآن ولا عارضه منهم إنسان إلا ما قاله مسيلمة والأسود العنسي فيما افتضحوا به وأكذبهم الله تعالى فيه وسارت بفضائحهم الركبان فكانوا بها مثلاً في سائر البلدان.
172
قال عمرو بن بحر الجاحظ
«في كتاب الحجة في تثبيت خبر الواحد» إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم إلى حظهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وقتلوا أعمامه وبني أعمامه وعلية أصحابه وأعلام أهله، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن وغيره ويدعوهم صباحاً ومساء
173
إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً بعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا؛ قال: فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واتساع لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم
174
وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الحرائب؛ وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في العقل والرأي بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم؛ فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر
175
والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد علمهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر! وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك أيضاً محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه - انتهى.
فثبت بهذا عجزهم وخرس قطعاً إفصاحهم ورمزهم وطأطأ ذلاً كبرهم وعزهم، وكيف يمكن المخلوق مع تمكنه في سمات النقص ودركات الافتقار والضعف معارضة من اختص بصفات
176
الكمال وتعالى عن الأنداد والأشباه والأشكال.
وقد اختلف الناس في سبب الإعجاز وأحسن ما وقفت عليه من ذلك ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي في كتابه البرهان عن الإمام أبي سليمان الخطابي - وقال: وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر - أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها ووضعوا فيه إلى حكم الذوق، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل؛
177
وهذه الأقسام هي الكلام الفاضل المحمود، فالقسم الأول أعلاه والقسم الثاني أوسطه والقسم الثالث أدناه وأقربه؛ فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعاً من الزعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن لتكون آية بينة لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما تعذر على البشر جميعاً الإتيان بمثله لأمور، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا
178
باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم؛ وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه؛ وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن يوجد مجموعه في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم
179
في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم؛ فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر - لما رأوه منظوماً - ومرة: إنه سحر - لما رأوه معجوزاً عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعاً في القلوب وفزعاً في النفوس يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه
180
لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: إنه
﴿أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً﴾ [الفرقان: ٥] مع علمهم أن صاحبه أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز - انتهى.
وأول كلامه يميل إلى أن الإعجاز بمجرد النظم من غير نظر إلى المعنى، وآخره يميل إلى أنه بالنظر إلى النظم والمعنى معاً من الحيثية التي ذكرها، وهو الذي ينبغي أن يعتقد لكن في التحدي بسورة واحدة وأما بالعشر فبالنظر إلى البلاغة في النظم فقط - نقله البغوي في تفسير سورة هود عن المبرد وقد مر آنفاً مثله في كلام الجاحظ.
وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان: اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه وهو لا يحيط به علمه فلا يصل إلى غاية البلاغة
181
فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائناً في ذكره لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبىء عن الآتي أعوزه البيان كله إلا ما يقدّره أو يزوّره؛ فبيانه في الكائن ناقص وبيانه في الماضي أنقص وبيانه في الآتي ساقط
﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ [القيامة: ٥] وبيان الله سبحانه عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه
﴿قل إنما العلم عند الله﴾ [الملك: ٢٦] وعن المنقطع كونه بحسب إحاطته بالكائن وسبحانه من النسيان
﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ [طه: ٥٢] وعن الأتي بما هو الحق الواقع
﴿فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق﴾ [الأعراف: ٧، ٨] والمبين الحق الذي لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه، والإنسان يتهم نفسه في البيان ويخاف أن ينسب إلى العي فيقصد استقراء البيان ويضعف مفهوم بيانه ضعفاً من منته ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف أنبائه وقل ما ينقص عن نظيره - انتهى.
وقال الإمام محمد بن عبد الرحمن المراكشي الأكمه في شرح نظمه
182
لمصباح ابن مالك في المعاني والبيان ما يصلح أن يكون متناً وجملة وما تقدم شرحاً له وتفصيلاً قال: الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في علم البيان وهو كما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى وعن تعقيده، وتعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال، لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة، ولا مجرد تأليفها وإلا لكان كل تأليف معجزاً، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزاً، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزاً - والأسلوب الطريق - ولكان هذيان مسيلمة معجزاً، ولأن الإعجاز يوجد دونه أي الأسلوب في نحو
﴿فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا﴾ [يوسف: ٨٠]
﴿فاصدع بما تؤمر﴾ [الحجر: ٩٤] ولا بالصرف عن معارضته، لأن تعجبهم كان من فصاحته، ولأن مسيلمة وابن المقفّع والمعري وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع
183
وتنفر منه الطباع ويضحك منه في أحوال تركيبه ويهان بتلك الأحوال، أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء؛ فعلى إعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى، ودليل تفصيلي مقدمته التفكر في خواص تركيبه، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شيء علماً - انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في أواخر العنكبوت ما ينفع ها هنا وأشار سبحانه في تهديدهم بقوله:
﴿فاتقوا النار﴾ كذا قال الحرالي، وهي جوهر لطيف يفرط لشدة لطافته في تفريط
184
المتجمد بالحر المفرط وفي تجميد المتمتع بالبرد المفرط.
وقال غيره: جسم لطيف مضيء حار من شأنه الإحراق
﴿التي وقودها﴾ أي الشيء الذي يتوقد ويتأجج به
﴿الناس والحجارة﴾ التي هي أعم من أصنامهم التي قرنوا بها أنفسهم في الدنيا إلى أنهم لم يقدروا على المعارضة واستمروا على التكذيب، كانوا معاندين ومن عاند استحق النار، وإلى أنهم إذا أحرقوا فيها أوقد عليهم بأصنامهم تعريضاً بأنها وإن كانت في الدنيا لا ضرر فيها ولا نفع باعتبار ذواتها فهي في الآخرة ضرر لهم بلا نفع بشفاعة ولا غيرها؛ وتعريف النار وصلة الموصول لأن أخبار القرآن بعد ثبوت أنه من عند الله معلومة مقطوع بها فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم تنبيهاً على أن ما جهله لم يجهله أحد.
185
وقال الحرالي: الحجارة ما تحجَّر أي اشتد تصام أجزائه من الماء والتراب،
﴿واتقوا﴾ أي توقفوا عن هذه التفرقة بين الله ورسوله حيث تذعنون لربوبيته وترتابون في رسوله، فالنار معدة للعذاب بأشد التفريق لألطف الأجزاء الذي هو معنى الحرق لمن فرق وقطع ما يجب وصله، أي لما فاتتكم التقوى بداعي العلم فلا تفتكم التقوى بسائق الموجع المخصوص المناسب عذابه لفعلكم، فإنها نار غذاؤها واشتعالها بالكون كله أنهاه تركيباً وهم الناس الملائمون لمارجها بالنوس وأطرفه وأجمده وهي الحجارة فهي تسع ما بين ذلك من باب الأولى، وفيه
186
إشعار بمُنتها وقوتها وأنها بحكم هذا الوسع للالتصاق بخلق يعني وليست كنار الدنيا التي غذاؤها من ضعيف الموالد وهو النبات ولا تفعل في الطرفين إلا بواسطة وكان غذاؤها ووقودها النبات إذ كانت متقدحة منه كما قال:
﴿الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً﴾ [يس: ٨٠] وتقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وذلك على حكم ما تحقق أن الغذاء للشيء مما منه أصل كونه وقال:
﴿وقودها﴾ لأن النار أشد فعلها في وقودها لأن بتوسطه تفعل فيما سواه، فإذا كان وقودها محرقها كانت فيه أشد عملاً لتقويها به عليه، ويفهم اعتبارها بنار الدنيا
187
انقداحها من أعمال المجزيين بها ومن كونهم، فهم منها مخلوقون وبها مغتذون إلا أنها منطفية الظاهر في الدنيا متأججة في يوم الجزاء ومثال كل مجزي منها بمقدار ما في كونه من جوهرها.
قلت: ويؤيده
﴿إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين﴾ [الإسراء: ٢٧] أي في أن الغالب عليهم العنصر الناري المفسد لما قاله:
﴿ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً﴾ [مريم: ٢٧] قال: وفي ذكر الحجارة إفهام عموم البعث والجزاء لما حوته السماء والأرض وأن كل شيء ليس الثقلين فقط يعمه القسم بين الجنة والنار كما عمه القسم بين الخبيث والطيب؛ وإنما اقتصر في مبدأ عقيدة الإيمان على الإيمان ببعث الثقلين وجزائهم تيسيراً واستفتاحاً، وما سوى ذلك فمن زيادة الإيمان وتكامله كما قال:
﴿ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم﴾ [الفتح: ٤] ومن العلماء من وقف بإيمانه على بعث الثقلين وجزائهما، حتى أن منهم من ينكر جزاء ما سواهما ويتكلف تأويل مثل قوله عليه السلام:
«يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» انتهى.
ولما تم ذلك وكان
﴿الناس﴾ عاماً للكافر وغيره كان كأنه قيل: هذه النار لمن؟ فقيل:
﴿أعدت﴾ أي هيئت وأكملت قبل زمن استعمالها
188
وتقاد للمجهول لأن المشتكي إذا جهل فاعله كان أنكأ
﴿للكافرين﴾ فبين أنها موجودة مهيأة لهم ولكل من اتصف بوصفهم وهو ستر ما ظهر من آيات الله. قال الحرالي: وهي عدة الملك الديان لهم بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا - انتهى. ولما ذكر ما لهم ترهيباً اتبعه ما للمؤمنين ترغيباً فقال صارفاً وجه الخطاب بالرحمة إلى نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاطفاً على ما تقديره: فأنذرهم بذلك، ولكنه طواه لأن السياق للاستعطاف
﴿وبشر﴾ والبشرى قال الحرالي إظهار غيب المسرة بالقول:
﴿الذين آمنوا﴾ أي صدقوا الرسل
﴿وعملوا﴾ قال الحرالي: من العمل وهو فعل بُني على علم أو زعمه
﴿الصالحات﴾ من الأقوال والأفعال، قال الحرالي: جمع صالحة،
189
وهو العمل المتحفظ به من مداخل الخلل فيه، وإذا كانت البشرى لهؤلاء فالمؤمنون أحق بما فوق البشرى، وإنما يبشر من يكون على خطر، والمؤمن مطمئن فكيف بما فوق ذلك من رتبة الإحسان إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وما لا يناله علم نفس ولا خطر على قلب بشر.
ولما ذكر المبشر اتبعه المبشر به فقال:
﴿أن لهم جنّات﴾ أي متعددة، قال الحرالي: لتعدد رتب أفعالهم التي يطابق الجزاء ترتبها وتعددها كما قال عليه الصلاة والسلام للتي سألت عن ابنها: «إنها جنان وإن
190
ابنك أصاب الفردوس الأعلى» وفي التعبير بلهم إشعار بأن ذلك الذي لهم ينبغي لحاقه بذواتهم ليحصل به من كمال أمرهم وصلاح حالهم نحو مما يحصل بكمال خلقهم وتسويتهم. والجنات مبتهجات للنفوس تجمع ملاذ جميع حواسها، تُجن المتصرف فيها أي تخفيه وتجن وراء نعيمها مزيداً دائماً - انتهى.
ثم وصفها بأنها
﴿تجري﴾ قال الحرالي: من الجري وهو إسراع
191
حركة الشيء ودوامها،
﴿من تحتها﴾ أي من تحت غرفها، والتحت ما دون المستوى،
﴿الأنهار﴾ جمع نهر، وهو المجرى الواسع للماء - انتهى. فإسناد الجري إليها مجاز، والتعريف لما عهده السامع من الجنس ويحتمل أن يكون المعنى أن أرضها منبع الأنهار، فَتَحتَ كل شجرة وغرفة منبع نهر، فهي لا تزال غضّة يانعة متصلة الزهر والثمر لا كما يجلب إليه الماء وربما انقطع في وقت فاختلّ بعض أمره.
قال الحرالي: وإذا تعرف حال العامل من وصف جزائه علم أن أعمالهم كانت مبنية على الإخلاص الذي هو حظ العاملين من التوليد الذي الماء آيته - انتهى.
فلما كانت الجنان معروفة بالثمار ساق وصفها بذلك مساق ما لا شك فيه بخلاف جري الأنهار فقال:
﴿كلما﴾ وهي كلمة تفهم تكرر الأمر في عموم الأوقات
﴿رزقوا منها من ثمرة﴾ أيّ ثمرة كانت رزقاً
﴿قالوا﴾ لكونه على صورة ما في الدنيا
﴿هذا﴾ أي الجنس لاستحكام الشبه
﴿الذي رزقنا من قبل﴾ أي في الدنيا، ولما كان الرزق معلوماً ولم يتعلق غرض بمعرفة الآتي بالرزق بُنيا للمجهول فقال تعالى عاطفاً
192
على ما تقديره لأنا خلقناه على شكل ما كان ليكونوا به أغبط ولمزيته أعرف وله أقبل وإليه أميل موحداً للضمير إشارة إلى أنه لاستحكام الشبه كأنه واحد
﴿وأتوا به﴾ أي جيء لهم بهذا الجنس المرزوق لهم في الدارين في الجنة من غير تطلب وتشوق
﴿متشابهاً﴾ في مطلق اللون والجنس ليظن أنه متشابه في الطعم، فيصير فضله في ذلك بالذوق نعمة أخرى والتشابه المراد هنا اشتراك في ظاهر الصورة، والإتيان بأداة التكرار يدل على أن الشبه يزداد عظمة في كل مرة فيزداد العجب وجعل الحرالي
193
هذا خاصاً بثمار الجنة فقال: من قبل إعلام بأن أشخاص ثمر الجنة وآحادها لا تتمايز لأنها على أعلى صورتها لا تتفاوت بأعلى وأدنى ولا يتراخى زمان عودها، فهي تتخلف لآنِ قطفها ولا تتمايز صور المقطوف من الخالف حتى يظن القاطف أن المتخلف عين الأول؛ فحال ثمر الجنة كحال الماء الذي هو أصله، وبسرعة الخلف من ثمر الجنة وأنه متصل جرية الوجود قال عليه السلام في عنقود من ثمرها:
«لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» ويشعر ذلك عند اعتبار العمل به بأن نياتهم في الأعمال صالحة ثابتة مرابطة حتى جرُّوا بها هذا الاتصال وكمال الصورة في الرزق ومنه حديث مرفوع أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد:
«نية المؤمن خير من عمله» ﴿وأتوا به متشابهاً﴾ أظهر عذرهم في توهم
194
اتحاد الثمر وعرف بأمنتهم من العنا، لأنه لو تفاوت تبعه الكراهة للأدنى وتكلف للانتقاء للأعلى وذلك إنما هو لائق بكيد الدنيا لا بنعيم الجنة، وقد ذكر بعض العلماء اطراد هذا التشابه في ثمر الجنة وإن اختلفت أصنافه، ويضعفه ما يلزم منه كمال الدلالة في المعنى والصورة في نحو
195
قوله تعالى:
﴿فيهما فاكهة ونخل ورمان﴾ [الرحمن: ٦٨] وما يجري مجراه - انتهى.
ولما ذكر المسكن الذي هو محل اللذة وأتبعه المطعم المقصود بالذات وكانت لذة الدار لا تكمل إلا بأنس الجار لا سيما المستمتع به قال:
﴿ولهم فيها﴾ أي مع ذلك
﴿أزواج﴾ ولما كن على خلق واحد لا نقص فيه أشار إليه بتوحيد الصفة، وأكد ذلك بالتعبير بالتفعيل إلماماً بأنه عمل فيه عمل ما يبالغ فيه بحيث لا مطمع في الزيادة فقال:
﴿مطهرة﴾.
قال الحرالي: والزوج ما لا يكمل المقصود من الشيء إلا معه على نحو من الاشتراك والتعاون، والتطهير تكرار إذهاب مجتنب بعد مجتنب عن الشيء؛ ولما ذكر تعالى الرزق المستثمر من أعمال الذين آمنوا وصل به ذكر الأزواج المستثمرة من حال نفوسهم من
196
حسن أخلاقها وجمال صورتها الباطنة في الدنيا، وكانت المرأة زوج الرجل لما كان لا يستقل أمره في النسل والسكن إلا بها - انتهى.
ولما كان خوف الزوال أو الانتقال إلى أدنى منغصاً فلا تروق اللذة إلا مع الاستقرار وكان هذا الوصف عاماً في جميع الجنان العلى وغيرها قال مقدماً للجار إشارة إلى أنهم لا يكونون في جنة إلا وهذه صفتها وأن نعيمهم لا آخر له
﴿وهم فيها﴾ ولما أفاد تقديم الظرف تخصيص الكون بها وعدم الكون في غيرها وكان ذلك معنى الخلود وكان قد يطلق على الإقامة بلا نهاية على طول الإقامة وإن كان له آخر صرح به بياناً بأن المراد ما لا آخر له وإلا لم يفد شيئاً جديداً فقال:
﴿خالدون﴾
197
والخلود طول الإقامة بالقرار، وسياق الامتنان أغنى عن تقييده بالتأبيد والدوام.
198
ولما ثبت بعجزهم عن المعارضة أن هذا الكلام كلامه سبحانه ثبت أن ما فيه من الأمثال أقواله فهددهم في هذه السورة المدنية على العناد وتلاه بالآية التي أخبر فيها بأن ثمار الدنيا وأزواجها وإن شابهت ما في الجنة بالاسم وبعض الشكل فقد باينته بالطعوم والطهارة وما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى فاضمحلت نسبتها إليها، وكان في ختم الآية بخالدون إشارة إلى أن الأمثال التي هي أحسن كلام الناس وإن شابهت أمثاله سبحانه في الاسم ودوام الذكر فلا نسبة لها إليها لجهات لا تخفى على المنصف فلم يبق إلا طعنهم بأنها لكونها بالأشياء الحقيرة لا تليق بكبريائه فبين حسنها ووجوب الاعتداد بها وإنعام النظر فيها بالإشارة بعدم الاستحياء من ضربها لكونها حقاً إلى أن الأشياء كلها وإن عظمت حقيرة بالنسبة إلى جلاله وعظمته وكماله، فلو ترك التمثيل بها لذلك
198
لانسد ذلك الباب الذي هو من أعجب العجاب فقال تعالى على طريق الاستنتاج من المقدمات المسلَّمات وأكد سبحانه دفعاً لظن أنه يترك لما لبّسوا به الأمثال التي هي أكشف شيء للأشكال وأجلى في جميع الأحوال. وقال الحرالي: لما كانت الدعوة تحوج مع المتوقف فيها
199
والآبي لها إلى تقريب للفهم بضرب الأمثال وكانت هذه الدعوة جامعة الدعوات وصل بها هذه الآية الجامعة لإقامة الحجة في ضرب الأمثال وأن ذلك من الحق سبحانه
﴿والله لا يستحيي من الحق﴾ [الأحزاب: ٥٣] وليختم ذكر ما تضمنه صدر السورة من الحروف التي أنزل عليها القرآن بسابعها الذي هو حرف المثل، وبين تعالى أن مقدار الحكمة الشاهد للممثل في البعوضة وفيما هو أظهر للحس وآخذ في العلم. وإنما يجب الالتفات للقدر لا للمقدار ولوقع المثل على ممثله قل أو جل دنا أو علا فتنزه تعالى عما يجده الخلق عندما ينشأ من بواطنهم وهمهم أن يظهروا أمراً فيتوهمون فيه نقصاً فيرجعهم ذلك عن إظهاره قولاً أو فعلاً - انتهى. فقال تعالى:
﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء جلالاً وعظمة
200
وكمالا
﴿لا يستحيي﴾ أي لا يفعل ما يفعله المستحي من ترك ما يستحي منه.
والحياء قال الحرالي انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصاً حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن
﴿أن﴾ كلمة مدلولها ممن أجريت عليه حقيقة باطن من ذاته وعلمه يتصل بها ما يظهرها، وسيبويه رحمه الله يراها اسماً، وعامة النحاة لانعجام معناها عليهم يرونها حرفاً
﴿يضرب﴾ من ضرب المثل وهو وقع المثل على الممثل،
201
لأن أصل الضرب وقع شيء على شيء، والمعنى أن يوجد الضرب متجدداً مستمراً وهذا لا يساويه أن يقال من ضربه مثلاً، فإنه يصدق لمثل واحد سابق أو لاحق، وتحقيقه أن المصدر لا يقع إلا على كمال الحقيقة من غير نظر إلى زمان ولا غيره وأما بفعل فإنه يفهم إيقاع الحقيقة من غير نظر أيضاً إلى زمان، وبفهمها مع النظر إلى الزمان مع التجدد والاستمرار ومع كمال الحقيقة وقبل كمالها عند الشروع فيها وإلى هذا القيد الأخير ينظر قول الحرالي: إن الحياء من أن يضرب المثل استحياء من وقعه في الباطن، والحياء من ضربه المثل استحياء من إظهاره بالقول، فنفى الأصل الأبلغ الذي بنفيه يكون نفي الضرب أحق، فليراجع هذا المعنى مع تكرار كلمة
«إن» فإنها كثيرة الدور في القرآن جليلة قدر المعنى في مواقعها، وإنما يجري
202
على ترك الالتفات إلى موقع معناها ما يقوله النحاة في معنى التقريب إنّ أنّ والفعل في معنى المصدر، والواجب في الإعراب والبيان الإفصاح عن ترتب معانيهما، وعند هذا يجب أن تكون أن اسماً والفعل صلتها نحو من وما
﴿مثلاً ما﴾ مثل أمر ظاهر للحس ونحوه، يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره و
«ما» في نحو هذا الموقع لمعنى الاستغراق، فهي هنا لشمول الأدنى والأعلى من الأمثال - انتهى.
ثم بين ذلك بقوله:
﴿بعوضة﴾.
وقال الحرالي: ولما كان ضرب المثل متعلقاً بمثل وممثل كان الضرب واقعاً عليهما، فكان لذلك متعدياً إلى مفعولين: مثلاً ما وبعوضة، والبعوض جنس معروف من أدنى الحيوان الطائر مقداراً وفيه استقلال وتمام خلقة، يشعر به معنى البعض الذي منه لفظه، لأن البعض يوجد فيه
203
جميع أجزاء الكل فهو بذلك كل،
﴿فما فوقها﴾ أي من معنى يكون أظهر منها، والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون - انتهى. والمعنى أن ذلك إن اعتبر بالنسبة إليه سبحانه كان هو وأنتم وغيركم بمنزلة واحدة في الحقارة، وإن اعتبر بالنسبة إليكم كان الفريقان بمنزلة واحدة في أنه خلق حقير ضعيف صغير من تراب، وأما شرف بعضه على بعض فإنما كان بتشريف الله له ولو شاء لعكس الحال.
ثم ذكر شأن قسمي المؤمنين والكافرين بقسمي كل منهم في قبول أمثاله فقال مؤكداً بالتقسيم لأن حال كل من القسمين حال المنكر لما وقع للآخر:
﴿فأما﴾، قال الحرالي: كأنها مركبة من
«إن»
204
دالة على باطن ذات و
«ما» دالة على ظاهر مبهم، يؤتى به للتقسيم - انتهى.
﴿الذين آمنوا﴾ أي بما ذكرنا أول السورة، ولما تضمن أما معنى الشرط كما فسره سيبويه بمهما يكن من شيء أجيب بالفاء في قوله:
﴿فيعلمون أنه﴾ أي ضرب المثل
﴿الحق﴾ كائناً
﴿من ربهم﴾ أي المحسن إليهم بجميع أنواع الإحسان، وأنه ما أراد بهم إلا تربيتهم بالإحسان بضربه على عوائد فضله، وأما أمثال غيره فإن لم يكن فيها نوع من الباطل فلا بد فيها من ضرب من التسمُّح تكون به غير جديرة باسم الحق ولا عريقة فيه.
قال الحرالي: لما كان الذين آمنوا ممن بادر فأجاب وكان ضرب المثل تأكيد دعوة وموعظة لمن حصل منه توقف حصل للذين آمنوا استبصار بنور الإيمان في ضرب المثل، فصاروا عالمين بموقع الحق فيه، وكما استبصر فيه الذين آمنوا استغلق معناه على الذين كفروا وجهلوه
205
فاستفهموا عنه استفهام إنكار لموقعه - انتهى. فلذا قال
﴿وأما الذين كفروا﴾ أي المجاهرون منهم والمساترون
﴿فيقولون﴾ أي قولاً مستمراً
﴿ماذا﴾ أي الذي
﴿أراد الله﴾ الذي هو أجل جليل
﴿بهذا﴾ الحقير أي بضربه له
﴿مثلاً﴾ أي على جهة المثلية استهزاء وجهلاً وعناداً وجفاءً؛ ثم وصل بذلك ذكر ثمرته عند الفريقين جواباً لسؤال من سأل
206
منهم فقال:
﴿يضل به كثيراً﴾ أي منهم بأن لا يفهمهم المراد منه فيظنون بذلك الظنون. وقال الحرالي: وكان إضلالاً لهم، لأن في ضرب المثل بما يسبق لهم استزراؤه بنحو الذباب والعنكبوت الذي استزروا ضرب المثل به تطريق لهم إلى الجهالة فكان ذلك إضلالاً، وقدم الجواب بالإضلال لأنه مستحق المستفهم، والإضلال التطريق للخروج عن الطريق الجادة المنجية - انتهى.
﴿ويهدي به كثيراً﴾ أي ببركة اعتقادهم الخير وتسليمهم له الأمر يهديهم ربهم بإيمانهم فيفهمهم المراد منه ويشرح صدورهم لما فيه من المعارف فيزيدهم به إيماناً وطمأنينة وإيقاناً، والمهديون كثير في الواقع قليل بالنسبة إلى الضالين. ولما كان المقام للترهيب كما مضى في قوله:
﴿فاتقوا النار﴾ اكتفى في المهتدين بما سبق من بشارتهم وقال في ذم القسم الآخر وتحذيره:
﴿وما يضل به إلا﴾، قال الحرالي: كأنها مركبة
207
من
«إن» و
«لا» مدلولها نفي حقيقة ذات عن حكم ما قبلها - انتهى.
﴿الفاسقين﴾ أي الخارجين عن العدل والخير. وقال الحرالي: الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية، لأن الفسق خروج عن محيط كالكمام للثمرة والجحر للفأرة - انتهى.
ثم بينهم بقوله:
﴿الذين ينقضون﴾ من النقض وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض
﴿عهد الله﴾ أي الذي أخذه عليهم على ما له من العظمة بما ركز فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل والعهد التقدم في الأمر - قاله الحرالي.
208
ولما كان المراد عهداً خاصاً وهو إرسال الرسل عليهم السلام أثبت الخبر فقال:
﴿من بعد ميثاقه﴾ أي بدلالة الكتب على ألسنة الرسل مع تقريبه من الفطر وتسهيله للنظر، والوثاق شدة الربط وقوة ما به يربط - قاله الحرالي
﴿ويقطعون ما أمر الله﴾ أي الملك الأعظم، ولما كان البيان بعد الإجمال أروع للنفس قال:
﴿به﴾ ثم فسره بقوله:
﴿أن يوصل﴾ أي من الخيرات، قال الحرالي: والقطع الإبانة في الشيء الواحد والوصل مصيراً لتكملة مع المكمل شيئاً واحداً كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها فيسقطون عن مستواها وقد أمر الله أن يوصل بمزيد علم يتصل بها حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه، وكذلك حالهم في كل أمر
209
يجب أن يوصل فيأتون فيما يطلب فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص - انتهى.
﴿ويفسدون﴾ ولما قصر الفعل ليكون أعم قال:
﴿في الأرض﴾ أي بالنكوب عن طريق الحق. قال الحرالي: ولما كانت الأرض موضوعة للنشىء منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية اللازمة الجسمية ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال والأخلاق وكان الإفساد نقض الصور كما قال تعالى:
﴿وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾ [البقرة: ٢٠٥] كان فعلهم فيها من نحو
210
فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل والتقصير بما شأنه التكملة فكان إفساداً لذلك - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: إن فعل هؤلاء لقبيح جداً فما حالهم؟ قال:
﴿أولئك﴾ أي الأباعد من الصواب
﴿هم الخاسرون﴾ أي الذين قصروا الخسران عليهم، والخسارة النقص فيما شأنه النماء - قاله الحرالي، ومن المعلوم أن هذا نتيجة ما مضى من أوصافهم. قال الحرالي: ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة حال من نقص ما شأنه
211
النماء كانوا بذلك خاسرين فلذلك انختمت الآية بهذا؛ وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير - انتهى.
ولما دعا سبحانه إلى التوحيد ودل عليه وأنذر من أعرض وبشر من أقبل وذكر حال الفريقين في قبول الأدلة التي زبدتها الأمثال وإبائها التفت إلى تبكيت المدبر لعله يستبصر، واستمر سبحانه في دلائل التوحيد حتى قامت قيام الأعلام ونفذت نفوذ السهام حتى تخللت صميم العظام لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر القمر في أسلوب مشيراً إلى البعث منبه على التخلص من الخسارة، وما أبدع افتتاح ذلك عقب
«الخاسرين» بقوله على طريق التفات المغضب المستعطف المعجب!
﴿كيف﴾
212
وقال الحرالي: لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف فضربت الأمثال فاستدرك وآمن وتمادى متماد على كفره صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى وأجري على لسان لؤم وإنكار، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر، وجاء بلفظ كيف لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة فإن كيف كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس، فكأنه يقال لهم بمدرك: أي حاسة تماديتم على الكفر بالله؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في
﴿تكفرون﴾ انتهى.
وقال:
﴿بالله﴾ أي مع ظهور عظمته وعلوه، والإنكار الموجب لنفي المنكر، كما في قولك: أتطير بغير جناح، يفيد أنه كان ينبغي أن يكون الكفر في حيز الممتنع لما على بطلانه وصحة التوحيد من الأدلة التي تفوت الحصر، وإنكار حاله إنكار لوجوده على طريق البرهان، لأنه إذا امتنع أن يوجد في حال
213
من الأحوال امتنع وجوده مطلقاً.
قال الحرالي: وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم
«الله» لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادراً ولا تالياً حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال. ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غايات من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما - انتهى.
﴿وكنتم﴾ أي والحال أنكم تعلمون أنكم كنتم
﴿أمواتاً﴾ بل مواتاً تراباً ثم نطفاً. قال الحرالي: من الموت وهو حال خفاء وغيب يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة - انتهى. وإطلاق الموت على ما لم تحله حياة مجاز، وسرّ التعبير به التنبيه على أنه أكثر ما تكون الإعادة التي ينكرونها مثل الابتداء، فلا وجه أصلاً لإنكارها مع الاعتراف بالابتداء. فكيف والإعادة دونه
﴿فأحياكم﴾ فصرتم ذوي حس وبطش وعقل. قال
214
الحرالي: وجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت الذي قبل حياة الولادة، والحياء تكامل في ذات ما أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه إلى حياة ما يدب بحركته وحسه إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه إلى ما وراء ذلك من التكامل - انتهى.
﴿ثم يميتكم﴾ بعد مد الأعمار والتقليب في الأطوار فإذا أنتم أجساد كالفخار كأنه لم تحل بها حياة ساعة قط، وبدلتم بعد الأنس بكم الوحشة، وإثر محبة القرب منكم النفرة؛ وتمثيل الموت بما نعهده أن طلب الملك كما أنه يحصل به من الروع ما يكاد يتلف وربما أتلف كان طلب ملك الملوك موجباً للموت. قال الحرالي: وهذه الأحوال الثلاثة أي الموت المعبر به عن العدم ثم الحياة ثم الموت معروفة لهم لا يمكنهم إنكارها، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله، كما قال تعالى: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض
215
بقادر على أن يخلق مثلهم} [يس: ٨١] ولَدُن ذلك من العلم أن الموت والحياة مزدوجان متضايفان، وإذا استوفى الموت الأول إحياؤه فلا بد من استيفاء الموت الثاني إحياؤه أيضاً، لأنه لولا استقبال الحياة لما كان موتاً بل بُطلاً وفقداً واضمحلالاً، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور، والحياة نهاية ثابتة، والموت مبدأ غيب زائل، فجنس الموت كله متقض ونهاية، والحياة ثابتة دائمة؛ ولذلك ورد ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أن الموت يُذبح، إعلام بانقضاء جنسه وثبات الحياة، ولذلك قدم في الذكر وأعقب بالحياة حيث استغرقتهما كلمة
«أل» في
216
قوله:
﴿خلق الموت والحياة﴾ [الملك: ٢] وثبت الخطاب على إقرار الحياة والكمال، كما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
«نعيم الجنة لا آخر له» فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما اقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية بعد ميتة الدنيا - انتهى.
ولما كان على البعث والحشر من الأدلة ما جعلهما كالمحسوسين عدهما في حيز المعلوم لهم كالإحياء الأول والموت فقال:
﴿ثم يحييكم﴾ فينشركم بعد طيكم ويبعثكم بعد حبسكم في البرزخ، فتكونون كما كنتم أول مرة ذوي قدرة على الانتشار بتلك القدرة التي ابتدأكم بها وأماتكم،
217
وهذا لا ينفي أن يكون لهم في البرزخ إحساس بدون هذه الهيئة الكاملة،
﴿ثم إليه ترجعون﴾ فيحشركم بعد طول الوقوف للجزاء من الثواب والعقاب؛ وفي هذا كما قال الحرالي: إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله سبحانه بداعي العلم في الدنيا فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهراً حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله، وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله فيرجعون قسراً وسوقاً فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم، كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء
﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ [البقرة: ٢٨١] وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم ولسان النكير عليهم، ولذلك كانت آية:
﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١] آخر آية أنزلت في القرآن، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء؛ والرجع عود
218
الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها - انتهى.
ولما أجمل سبحانه في أول هذه الآية أول أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنه منبه على أن الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصله على وجه داع لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى فساق سبحانه ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده بما فيه من منافعهم ليكون داعياً إلى توحيده من وجهين: كونه دالاً
219
على عظمة مؤثرة وكمال قدرته، وكونه إحساناً إلى عباده ولطفاً بهم، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فقال:
﴿هو﴾، قال الحرالي: وهي كلمة مدلولها العلي غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء، فذاته أبداً غيب، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزل اسم الملك، فما بينهما من الأسماء المظهرة، ثم قال: لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله وكان هذا خطاباً خاصاً مع المتمادي على كفره اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم تهديداً رمى به بين أكتافهم وتسبيباً نيط بهم ومُدّ لهم كالمرخى له في السبب الذي يراد
220
أن يجذب به، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعاً، أو يراد به قسراً عند انتهاء مدى إدباره، وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها وتلك على أظهر الاتساق؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم هو الذي هو غيب اسم الله وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس - انتهى.
﴿الذي خلق لكم﴾ ديناً ودنيا لطفاً بكم
﴿ما في الأرض﴾ أي بعد أن سواهن سبعاً، قال الحرالي: وقوله:
﴿جميعاً﴾ إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء وإنما تقوم بكلية ما في الأرض حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها - انتهى. والآية دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يمنع شيء إلا بدليل.
221
ولما كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لا يرام، والجوهر البالغ في الأحكام، والزينة البديعة النظام، المبنية على المصالح الجسام، وكثرة المنافع والأعلام، عبر في أمرها بثم فقال:
﴿ثم استوى إلى السماء﴾ أي وشرف على ذلك جهة العلو بنفس الجهة والحسن والطهارة وكثرة المنافع، ثم علق إرادته ومشيئته بتسويتها من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير، والإفراد الصالح لجهة العلو
222
تنبيهاً على الشرف، وللجنس الصالح للكثرة، ولذلك أعاد الضمير جمعاً، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء؛ على أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة. وقال الحرالي: أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول المخوفات منه عليهم فقيل لهم: هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلِم وقوعها نبأ عن الأول الحق، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه في نبأ الله عن نفسه أحق
223
حقيقة، ثم النبأ به عن الروح مثلاً واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلاً واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم
﴿فسوَّاهُنَّ﴾ التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء
﴿سبع سماوات﴾ أعطى لكل واحدة منهن حظها
﴿وأوحى في كل سماء أمرها﴾ [فصلت: ١٢] انتهى. وخلق جميع ما فيها لكم، فالآية من الاحتباك؛
224
حذف أولاً كون الأراضي سبعاً لدلالة الثاني عليه، وثانياً كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه؛ وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته
«الإدراك لفن الاحتباك».
ولما كان الخلق على هذه الكيفية دالاً بالبديهة على أتم قدرة لصانعه وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجاً إلى تأمل اغتنى في مقطع الآية بقوله:
﴿وهو بكل شيء عليم﴾ أي فهو على كل شيء قدير. ولما ذكر
225
الحياة والموت المشاهدين تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله تعالى عطفاً على قوله:
﴿اعبدوا ربكم﴾ وبياناً لقوله:
﴿رب العالمين﴾ [الفاتحة: ٢] إذ من البدءة تعلم العودة لمن تدبر، أو يكن عطفاً على ما تقديره: اذكر هذا لهم، وذلك أنه سبحانه لما خاطبهم بهذا الاستفهام الذي من معانيه الإنكار ذاكراً الاسم الأعظم الذي هو أعلى الأسماء وأبطنها غيباً والضمير الذي
«هو» أبطن منه، وأتبعه بعض ما هم له منكرون أو به جاهلون، وأشار بقوله:
«لكم» مثبتة فيما هو ظاهر عندهم ومحذوفة مما هو خفي عنهم، كما نبه عليه في الاحتباك إلى أنه لم يخلق هذا النوع البشري للفناء بل للبقاء بما أبان عن أنه إنما خلق جميع
226
ما في هذه الأكوان لأجلهم، فالبعض رزق لهم والبعض أسباب له، والبعض أسجدهم لأبيهم وهم في صلبه ووكلهم بهم في حفظ أعمالهم وقسم أرزاقهم ونفخ أرواحهم وغير ذلك من تربيتهم وإصلاحهم؛ لم يكونوا أهلاً لفهم هذا الخطاب حق فهمه تلقياً عن الله لعلوه سبحانه وعلو هذا الخطاب بالأسماء الباطنة وما نظم بها من المعاني اللائقة بها علواً وغيباً فأعلم سبحانه بعطف
«إذ» على غير ظاهر أنه معطوف على
227
نحو: اذكر لهم أيها الرسول هذا، لأنه لا يفهمه حق فهمه عنا سواك، وهم إلى الفهم عنك أقرب
«وإذ» أي واذكر ما اتفق إذ، وحذف هذا المعطوف عليه لاحتمال المأمور بذكره الإنكار والسياق لإيراد الرفق والبشارة على لسانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعطافاً لهم إليه وتحبيباً فيه وفي حذفه أيضاً والدلالة عليها بالعاطف حث على تدبر ما قبله تنبيهاً على جلالة مقداره ودقة أسراره، ولما علمت الإشارة لكن لأهل البصارة أتبعها قصة آدم عليه السلام دليلاً ظاهراً ومثالاً بيناً لخلاصة ما أريد بهذه الجمل مما نبه عليه بالعاطف من أن النوع الآدمي هو المقصود بالذات من هذا الوجود، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يترك بعد موته من غير إحياء يرد به إلى دار لا يكون في شيء من أمورها من أحد نوع من الخلل وتكون الحكمة فيها ظاهرة جداً لا خفاء بها أصلاً.
فيظهر الحمد أتم ظهور؛ ولذلك ذكر تفضيل آدم عليه السلام
228
بالعلم، ثم بإسجاد الملائكة له، ثم بإسكانه الجنة، ثم بتلقي أسباب التوبة عند صدور الهفوة؛ وقد روى البيهقي في أواخر الدلائل والحارث بن أبي أسامة والحاكم في المستدرك عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال:
«إن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: رحمك الله! فأين الملائكة؟ فنظر أليّ وضحك فقال: يا ابن أخي! وهل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السماء وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق التي لا تعصي الله شيئاً، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وقال البيهقي: إنه ليس بموقوف بل حكمه الرفع. وقال الحرالي: لما جعل الله تعالى نور العقل هادياً لآيات ما ظهر في الكون وكان من الخلق مهتد به ومعرض عنه بعث الله النبيين مبشرين لمن اهتدى بنور العقل بمقتضى الآيات المحسوسة وتلك هي الحنيفية والملة الإبراهيمية، ومنذرين لمن أعرض عن ذلك وشغلته شهوات دنياه،
229
فترتب لذلك خطاب الكتاب بين ما يخاطب به الأعلين المهتدين وبين ما يخاطب به الأدنين المعرضين، وكذلك تفاوت الخطاب بين ما يخاطب به الأئمة المهتدين والمؤتّمون بهم، فكان أعلى الخطاب ما يقبل على إمام الأئمة وسيد السادات وأحظى خلق الله عند الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان أول الخطاب ب الم ذلك الكتاب إقبالاً عليه وإيتاء له من الذكر الأول كما قال عليه السلام:
«أوتيت البقرة وآل عمران من الذكر الأول» وهو أول مكتوب حين كان الله ولا شيء معه، وكتب في الذكر الأول كل شيء، فخاطبه الله عز وجل بما في الذكر الأول وأنزله قرآناً ليكون آخر المنزل الخاتم هو أول الذكر السابق ليكون الآخر الأول في كتابه كما هو في ذاته، فمن حيث كان الخطاب الأول من أعلى خطاب الله لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتظم به ما هو أدنى خطاب من آيات الدعوة تنبيهاً لمن أعرض عن الاستضاءة بنور العقل لما بين الطرفين من
230
تناسب التقابل؛ ثم عاد وجه الخطاب إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هو إعلام بغائب الماضي عن كائن الوقت من أمر ابتداء مفاوضة الحق ملائكته في خلق آدم ليكون ذلك ترغيباً للمبشرين في علو الرتب إلى التكامل كما كانت آية الدعوة تنبيهاً للمعرضين ليعودوا إلى الإقبال، وخصوص الإنزال إنما هو في الإنباء بغيب الكون من ملكوته وغائب أيام الله الماضية ومنتظر أيام الله الآتية، فذلك الذي يخص المهتدين بنور العقل ليترقوا من حد الإيمان إلى رتبة اليقين، وإنما يرد التنبيه والتنزيل بما في نور العقل هدايته من أجل المعرضين؛ فكان ما شمله التنزيل بذلك أربعة أمور: أحدها التنبيه على الآيات بمقتضى أسماء الله من اسمه الملك إلى اسمه الرحمن الرحيم إلى اسمه رب العالمين إلى اسمه العظيم الذي هو الله، والثاني التنبيه على غائب المنتظر الذي الخلق صائرون إليه ترغيباً وترهيباً، والثالث الإعلام بماضي أمر الله جمعاً للهمم للجد والانكماش في عبادة الله، والرابع التبصير ببواطن كائن الوقت الذي في ظاهره إعلامه؛ فكان أول التنزيل في هذه السورة أمر أول يوم من ذكر الله وهو كتب مقتضى العلم والقدرة في قسمه تعالى عباده بين مؤمن وكافر ومنافق، ثم أنزل الخطاب إلى آية الدعوة من وراء حجاب الستر بسابق التقدير فعم به الناس ونبههم
231
على آيات ربوبيته وحياً أوحاه الله منه إليه، ثم عطف على ذلك إعلاماً لابتداء المفاوضة في خلق آدم عطفاً على ذلك الذي يعطيه إفهام هذا الإفصاح، فلذلك قال تعالى
﴿وإذ﴾ فإن الواو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله إفصاحاً في اللفظ أو إفهاماً في المعنى، وإنما يقع ذلك لمن يعلو خطابه ولا يرتاب في إبلاغه.
وإذ اسم مبهم لما مضى من الأمر والوقت،
﴿قال﴾ من القول وهو إبداء صور الكلم نظماً بمنزلة ائتلاف الصور المحسوسة جمعاً، فالقول مشهود القلب بواسطة الأذن، كما أن المحسوس مشهود القلب بواسطة العين وغيره.
ثم قال: لما أنبأ الله عز وجل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما في الذكر من التقدير الذي هو خبء الشرعة ونظم به ما أنزل من دعوة الخلق إلى حكمه فانتظم ذلك رتبتي أمر نظم تعالى بذلك إنزال ذكر خلق معطوفاً على ذكر خلق أعلى رتبة منه، نسبته منه كنسبة الدعوة من خبئها، فذكر خلق آدم ظاهر خبء ما عطف عليه وهو والله أعلم ذكر خلق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو خبء خلق آدم، فكأنه تعالى أعلم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر خلقه له بدء وحي سر ثم أعلن بما عطف عليه
232
من ذكر خلق آدم وحي علن ليكون أمر خلق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الخاصة فهماً كما كان أمر خلق آدم عند العامة إفصاحاً؛ وكان المفهوم: اذكر يا محمد إذ كان في خلقك كذا وإذ قال:
﴿ربك﴾ أي المحسن إليك برحمة العباد بك الذي خبأك في إظهار خلق آدم
﴿للملائكة﴾ ما أنزل، وتأويل الملائكة عند أهل العربية أنه جمع ملاك مقلوب من مألك من الألك وهي الرسالة، فتكون الميم زائدة ويكون وزنه معافلة، ويكون الملك من الملك وهو إحكام ما منه التصوير، من ملكت
233
العجين، وجمعه أملاك، تكون فيه الميم أصلية، فليكن اسم ملائكة جامعاً للمعنيين منحوتاً من الأصلين، فكثيراً ما يوجد ذلك في أسماء الذوات الجامعة كلفظ إنسان بما ظهر فيه من أنه من الأنس والنسيان معاً، وهو وضع للكلم على مقصد أفصح وأعلى مما يخص به اللفظ معنى واحداً، فللكلام رتبتان: رتبة عامة ورتبة خاصة أفصح وأعلى كَلِماً وكلاماً.
قال: وفيه أي هذا الخطاب مع ذلك استخلاص لبواطن أهل الفطانة من أن تعلق بواطنهم بأحد من دونه حين أبدى لهم انفراده بإظهارهم خلقاً دون ملائكته الأكرمين، حتى لا تعلق قلوبهم بغيره من أهل الاصطفاء فكيف بمن يكون في محل البعد والإقصاء! توطئة لقبيح ما يقع من بعضهم من اتباع خطوات الشيطان؛ وذلك لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها؛ وبذلك
234
كان انتظام الآي داخلاً في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
﴿إني﴾ إن حرف يفهم توكيداً من ذات نفس المؤكد وعلمه. والياء اسم عليّ يخص المضيف إلى نفسه الذي يضيف الأشياء إليه،
﴿جاعل في الأرض﴾ ولما كانت خلافة آدم عليه السلام كاملة في جميع الأرض بنفسه وبذريته وحّد لذلك مع أنه يصح أن يراد به الجنس فقال:
﴿خليفة﴾ الخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب رتبة ذلك الخليفة منه، فهو خليقة الله في كونه مُلكه وملكوته، وهم أيضاً بعضهم خلفاء بعض؛ فهو خليفة بالمعنيين - انتهى.
وجعل سبحانه هذا التذكير في سياق داع إلى عبادته وقائد إلى محبته حيث متّ إلى هذا النوع الآدمي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم قبل
235
إيجادهم، فذكر لهم ما حاجّ به ملائكته عنهم، وما شرف به أباهم آدم من العلم وأمر الملائكة المقربين بالسجود له، ثم ما وقع لإبليس معه وهما عبدان من عبيده فتاب عليه ولم يتب على إبليس مع سبقه له بالعبادة بل أوجب طرده وأبّد بعده فقال تعالى حكاية عن الملائكة جواباً لسؤال من كأنه قال ما قالوا حين أخبرهم سبحانه بذلك:
﴿قالوا﴾ طالبين الإيقان على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر
﴿أتجعل فيها﴾ أي في الأرض
﴿من يفسد فيها﴾ أي بأنواع المعاصي بالقوة الشهوانية،
﴿ويسفك﴾
236
من السفك، قال الحرالي: وهو سكب بسطوة
﴿الدماء﴾ أي بغير حقها بالقوة الغضبية، لعدم عصمتهم، وخلقهم جوفاً لا يتمالكون، وأصحاب شهوات عليها يتهالكون؛ وكأنهم لما رأوا صورة آدم تفرسوا فيها ذلك لو سألوا عن منافع أعضائه وما أودع فيها من القوى والمعاني أخبرهم تعالى بما تفرسوا منه ذلك والدم.
قال الحرالي: رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه
﴿ونحن﴾ أي والحال إنا نحن، وهذا الضمير
237
كما قال الحرالي: اسم القائل المستتبع لمن هو في طوع أمره لا يخالفه
﴿نسبح﴾ أي نوقع التسبيح أي التنزيه لك والإبعاد عما لا يليق بك ملتبسين في التسبيح
﴿بحمدك﴾ والحاصل إنا نبرئك عن صفات النقص حال إثباتنا لك صفات الكمال، وحذف المفعول للتعميم؛ وقال الحرالي: التسبيح تنزيه الحق تعالى عن بادية نقص في خلق أو رتبة، وحمد الله استواء أمره علواً وسفلاً ومحو الذم عنه والنقص منه، وذلك تسبيح أيضاً في علو أمر الله، فما سبح بالحمد إلا أهل الحمد من آدم ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغاية المسبح الحمد، والحمد تسبيح لمن غايته وراء ذلك الاستواء - انتهى.
﴿ونقدس﴾ أي نطهر كل شيء نقدر عليه من نفوسنا وغيرها،
238
﴿لك﴾ أي لا لغيرك لعصمتنا بك، أو المعنى نوقع التقديس أي التطهير لك بمعنى أنك في الغاية من الطهارة والعلو في كل صفة. قال الحرالي: القدس طهارة دائمة لا يلحقها نجس ظاهر ولا رجس باطن، واللام تعلة للشيء لأجله كان ما أضيف به - انتهى.
ولما تضمن تفرسهم هذا نسبتهم أنفسهم إلى العلم المثمر للإحسان، ونسبة الخليفة إلى الجهل المنتج للإساءة أعلمنا سبحانه لنشكره أنه حاجَّ ملائكته عنا، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا بقوله استئنافاً:
﴿قال إني أعلم﴾ أي من ذلك وغيره
﴿ما لا تعلمون﴾. وقال الحرالي: وأعلم تعالى بما أجرى عليه خلقه من القضاء بما ظهر والحكم على الآتي بما مضى حيث أنبأ عن ملائكته بأنهم قضوا على الخليفة في الأرض بحال من تقدمهم في الأرض من الجبلة الأولين من الجن الذين أبقى منهم عزازيل وغيرهم ليتحقق أن أمر الله جديد وأنه كل يوم هو في شأن لا يقضي على آتي وقت بحكم ما فيه ولا بما مضى قبله - انتهى. والأظهر
239
ما ذكرته أنهم إنما قالوا ذلك تفرساً بحكم ما ظهر لهم من صورته ونحو ذلك من إعلامهم بأنه يجمع فيه بين الشهوة والعقل، ومن المعلوم أن الشهوة حاملة على الفساد؛ وعلم سبحانه ما خفي عنه من أنه يوفق من أراد منهم للعمل بمقتضى العقل مع قيام منازع الشهوة والهوى، فيأتي غاية الكمال التي هي فوق درجة العامل بمقتضى العقل من غير منازع له فيظهر تمام القدرة والله أعلم.
240
ولما أعلم سبحانه الملائكة أن الأمر على خلاف ما ظنوا شرع
240
في إقامة الدليل عليه فقال عاطفاً على قوله:
«قال» :
﴿وعلم﴾ أي لإقامة الدليل على ذلك، والتعليم تكرار العلم ليثبت لما في جبلة المعلَّم من النسيان،
﴿آدم﴾ من الأدم من الأديم وهو جلدة الأرض التي منها جسمه، وحظ ما فيه من أديم الأرض هو اسمه الذي أنبأ عنه لفظ آدم،
﴿الأسماء﴾
241
أي التي للأشياء
﴿كلها﴾ وهو جمع اسم وهو ما يجمع اشتقاقين من السمة والسمو؛ فهو بالنظر إلى اللفظ وسم وبالنظر إلى الحظ من ذات الشيء سمو، وذلك السمو هو مدلول الاسم الذي هو الوسم الذي ترادفه التسمية - قاله الحرالي، وقال في كتاب له في أصول الفقه: الاسم يقال على لفظ التسمية ويقال على حظ ونصيب من ذوات الأشياء، وتلك هي المعروضة على الملائكة، واسم التسمية يحاذي به المسمى معلومه من الشيء المسمى الذي هو الاسم المعروض، وهو عند آدم علم وعند الملائكة ومن لا يعلم حقيقة الاسم المعروض توقيف ونبأ - انتهى.
242
ولما كان العرض على الملائكة بالغاً في المراد أشار إلى تعظيمه بحرف التراخي فقال: ثم
﴿عرضهم﴾ أي الأشياء. قال الحرالي: أظهرهم عن جانب وهو العرض والناحية
﴿على الملائكة﴾ القائلين لذلك. وقال الحرالي: لما ذكر تعالى مراجعة الملائكة في خلق هذا الخليفة ذكر إبداءه لهم وجه حكمة علية بما أعلى هذا الخليفة من تعليمه إياه حقائق جميع الذوات المشهودة لهم على إحاطتهم بملكوت الله وملكه شهوداً فأراهم إحاطة علم آدم بما شهدوا صورة ولم يشهدوا حقيقة مدلول تسميتها، وعلمه حكمة ما بين تلك الأسماء التي هي حظ من الذوات وبين تسمياتها من النطق ليجتمع في علمه خلق كل شيء صورة وأمره كلمة فيكمل علمه في قبله على سبيل سمعه وبصره، واستخلفه في علم ما له من الخلق والأمر، وذلك في بدء كونه فكيف يحكم حكمة الله فيما يتناهى إليه كمال خلقه إلى خاتمة أمره فيما انتهى إليه أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما هو مبهم في قوله تعالى:
﴿وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً﴾ [النساء: ١١٣] فأبدى الله عز وجل لهم بذلك وجه خلافة علمية وعملية في
243
التسمية إعلاء له عندهم، وقد جعلهم الله عز وجل مذعنين مطيعين فانقادوا للوقت بفضل آدم على جميع الخلق وبدا لهم علم أن الله يعلي من يشاء بما يشاء من خلافة أمره وخلقه، وتلك الأسماء التي هي حظوظ من صور الموجودات هي المعروضة التي شملها اسم الضمير في قوله تعالى
﴿ثم عرضهم﴾ وأشار إليه
«هؤلاء» عند كمال عرضهم، وأجرى على الجميع ضمير
«هم» لاشتمال تلك الكائنات على العاقلين وغيرهم؛ وبالتحقيق فكل خلق ناطق حين يستنطقه الحق، كما قال تعالى
﴿اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم﴾ [يس: ٦٥] وإنما العجمة والجمادية بالإضافة إلى ما بين بعض الخلق وبعضهم - انتهى.
وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: ويقال إن الاسم مأخوذ من السمو وهو العلو والرفعة، وإنما جعل الاسم
244
تنويهاً بالدلالة على معنى الاسم لأن المعنى تحت الاسم - هذا قول النحويين؛ والسمة تدل على صاحبها، لأنهما حرفان سين وميم، فالسين من السناء والميم من المجد وهو لب الشيء، فكأنه سمى اسماً لأنه يضيء لك عن لب الشيء ويترجم عن مكنونه، وليس شيء إلا وقد وسمه الله بسمة تدل على ما فيه من الجوهر؛ فاحتوت الأسماء على جميع العلم بالأشياء، فعلمها الله آدم وأبرز فضيلته على الملائكة عليهم السلام - انتهى.
﴿فقال﴾ معجزاً لهم
﴿أنبئوني﴾ أي أخبروني إخباراً عظيماً قاطعاً
﴿بأسماء هؤلاء﴾ أي الموجودات بتفرسكم فيها
﴿إن كنتم صادقين﴾ أي فيما تفرستموه في الخليفة وفي أنساله. قال الحرالي: هذه الأسماء المواطئة للتسمية من السمة والأسماء الأول هي الحظوظ من الذوات التي المتسم بها هو المسمى، ومع ذلك فبين التسمية والاسم مناسبة مجعول الحكمة بينهما بمقتضى أمر العليم الحكيم - انتهى.
﴿قالوا﴾ متبرئين من العلم
245
﴿سبحانك﴾ أي ننزهك تنزيهاً يجل عن الوصف عن أن ننسب إليك نقصاً في علم أو صنع، ونتبرأ إليك مما يلزم قولنا من ادعاء العلم لسواك.
قال الحرالي: وفي هذا المعنى إظهار لفضلهم وانقيادهم وإذعانهم توطئة لما يتصل به من إباء أبليس - انتهى. والحاصل أنه تصريح بتنزيه الله تعالى عن النقص وتلويح بنسبته إليهم اعتذاراً منهم عما وقعوا فيه، ولذا قالوا:
﴿لا علم لنا﴾ أي أصلاً
﴿إلا ما علمتنا﴾ فهو دليل على أنه لا سبيل
246
إلى علم شيء من الأشياء إلا بتعليم الله. قال الحرالي: رداً لبدء الأمر لمن له البدء، ولذلك ورد في أثارة من علم: من لم يختم علمه بالجهل لم يعلم، وذلك الجهل هو البراءة من العلم إلا ما علم الله - انتهى.
ثم خصوه بما نفوه عن أنفسهم فقالوا:
﴿إنك أنت﴾ أي وحدك
﴿العليم﴾ أي العالم بكل المعلومات
﴿الحكيم﴾ أي فلا يتطرق إلى صنعك
247
فساد بوجه فلا اعتراض أصلاً. قال الحرالي: توكيد وتخليص وإخلاص للعلم والحكمة لله وحده، وذلك من أرفع الإسلام، لأنه إسلام القلوب ما حلاها الحق سبحانه به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به؛ والحكمة جعل تسبيب بين أمرين يبدو بينهما تقاض من السابق واستناد من اللاحق - انتهى.
وأصلها في اللغة المنع من الفساد ولا يكون ذلك إلا عن تمام العلم.
فلما قالوا ذلك وأراد إشهادهم فضل آدم عليه السلام استأنف في جواب
248
من كأنه قال: ما قال لهم عند ذلك؟ قوله:
﴿قال﴾ مظهراً لفضيلة العلم الموجبة لشرف العالم
﴿يا آدم أنبئهم﴾ أي ليزدادوا بصيرة في أن العالم من علّمته والسعيد من أسعدته في أي صورة ركبته
﴿بأسمائهم﴾ فأنبأهم بها. قال الحرالي: ولم يقل: علمهم، فكان آدم عليماً بالأسماء وكانوا هم مخبرين بها لا معلميها، لأنه لا يتعلمها من آدم إلا من خلقه محيط كخلق آدم، ليكون من كل شيء ومنه كل شيء، فإذا عرض عليه شيء مما منه آنس علمه عنده؛ فلذلك اختصوا بالإنباء دون التعليم، فلكل شيء عند آدم عليه السلام بما علمه الله وأظهر له علاماته في استبصاره
249
والشيء اسمان جامعان: اسم بيصّره من موجود الشيء واسم يذكره لإبداء معنى ذلك الشيء إلى غاية حقيقته، ولكل اسم جامع عنده وجوه متعددة يحاذي كلَّ وجه منها بتسمية تخصه، وبحسب تلك الوجوه تكثرت عنده الألسنة وتكثرت الألسن الأعجمية، فأفصحها وأعربها الاسم الجامع وذلك الاسم هو العربي الذي به أنزل خاتم الكتب على خاتم المرسلين وأبقى دائماً في مخاطبة أهل الجنة لمطابقة الخاتمة إحاطة البادئة
﴿حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ [الزخرف: ١، ٤] وطابق الختم البدء إحاطة لإحاطة - انتهى. وهذا كما كان ولده محمد خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلم كل إنسان بلغته من قبائل العرب ومن العجم بل ومن البهائم العجم لكان علمه لبعض اللغات من غير مخالطة لأهلها ولا إلمام بلسانهم
250
دليلاً على علم سائر اللغات، لأنه لا معلم له إلا العالم بكل شيء.
﴿فلما أنبأهم﴾ أي أخبرهم إخباراً عظيماً يأخذ بالألباب، و
﴿لما﴾ كلمة تفهم وجوب أمر لأمر في حين فتجمع معنى الشرط والظرف - قاله الحرالي
﴿بأسمائهم﴾ عل ما هي عليه.
قال الحرالي في التفسير وكتاب له في أصول الفقه: هذه التسميات ليس الأسماء التي هي موجودة من الذوات، لأن تلك لا ينالها إلا العلم
251
وشهود البصيرة وقد جرى ذلك في وراثة في ولد آدم حتى كان رؤبة وأبوه العجاج يرتجلان اللغة ارتجالاً ويتعلمها منهم من سواهم من العرب، لأن التسمية التي ينالها الإنباء للاسم الذي يناله العلم كالمثل له المبدي لصورة معناه للأذن لمناسبة ومواصلة بين خصوص التسمية واسمها من الذات، فيعلم ما يحاذي الشيء المفرد من منتظم الحروف كما يعلم الواصف ما يحاذي الشيء ويحاكيه من منتظم الكلم، فيحاذيه ويحاكيه الواصف بكلام، ويحاذيه ويسميه المسمى له بكلمة واحدة، وكما أنه ليس لكل أحد مُنّة أن يصف فكذلك ليس لكل أحد منة أن يسمى، ومنه ما يجري من ألسنة العامة من النبز والألقاب وقد كان يجب الاكتفاء بما في هذه الآية من العلم ببدء أمر المسميات عما وقع فيها من الاختلاف بين التوقيف والاصطلاح، فقد تبين أنها عن علم علمه الله آدم لا عن توقيف كما هو عند الملائكة من آدم ولا عن اصطلاح كما قيل - انتهى.
252
﴿قال﴾ أي الله تعالى مثبتاً مدخول النفي كما هو شأن همزة التقرير
﴿ألم أقل لكم﴾ يا ملائكتي! ولما كان هذا خبراً جسيماً نبه على بلوغه النهاية في العظمة وأنه مما يستغربه بعض الخلق بالتأكيد فقال:
﴿إني أعلم﴾ علماً مستمراً لا انقضاء له
﴿غيب السماوات والأرض﴾ فمن أردت تعليمه شيئاً من ذلك كان عالماً به، وأما غيري فلا طريق له إلى معرفة المستقبل إلا الفراسة وقد تحظى. قال الحرالي: قررهم حتى لا يكون لهم ثانية وأعلم بذلك عباده من ولد آدم حتى يستنوا بحكم التسليم لله في ما يبديه من غير تعرض ولا اعتراض، فمنهم من آمن ومنهم من كفر - انتهى.
253
﴿وأعلم ما تبدون﴾ في كل حين
﴿وما كنتم تكتمون﴾ فيما مضى وفيما يأتي. قال الحرالي: وفي صيغة تكتمون من الدلالة على تمادي ذلك في كيانهم ما في صيغة تبدون من تمادي بادى ذلك منهم - انتهى.
ولما أخبرنا سبحانه بهذه النعمة على أبينا ضم إليها الإنعام بإسجاد الملائكة له ونحن في ظهره فقال عاطفاً على
«إذ» الأولى وعدل عن الغيبة إلى التكلم ثم إلى كونه في مظهر العظمة إعلاماً بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه. وقال الحرالي: لما أنبأ تعالى بأمر مفاوضة الملائكة وما كان من ادعائهم وتسليمهم الأمر لله ولمن علمه الله وهو
254
آدم عليه السلام نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلاً كما انقادوا له علماً تماماً لكمال حالهم في التسليم علماً وعملاً فقال تعالى - انتهى.
﴿وإذ قلنا﴾ أي على عظمتنا
﴿للملائكة﴾ أي الذين أكرمناهم بقربنا
﴿اسجدوا لآدم﴾ عبدنا اعترافاً بفضله لتفضيلنا له.
قال الحرالي: فجعله باباً إليه وكعبة يجلّونه بجلاله تعالى ومحراباً وقبلة، يكون سجودهم له سجوداً لله تجاه آدم كسجود آدم تجاه الكعبة، وظهر بذلك سوء إباء إبليس عن السجود حين خالفهم في طينة الكيان، لأن الملائكة خلقت من نور والنور طوع لا يحوزه أين ولا يختصه جهة، ولأن الجان خلقت من نار وهي مما يحوزه أين وتختصه جهة
255
لا يرجع عنها إلا بقهر وقسر، فلم ينزل عن رتبة قيامه في جبلته لمخلوق الطين حيث لم يشعر بإحاطة خلق آدم كما تلقته الملائكة - انتهى. فبادروا الامتثال
﴿فسجدوا﴾ أي كلهم له كما امرهم الله تعالى
﴿إلا إبليس﴾ قال الحرالي: من الإبلاس وهو انقطاع سبب الرجاء الذي يكون عنه اليأس من حيث قطع ذلك السبب - انتهى.
فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل:
﴿أبى﴾، من الإباء وهو امتناع عما حقه الإجابة فيه - قاله الحرالي.
﴿واستكبر﴾ عن السجود له، من الاستكبار وهو استجلاب
256
الكبر، والكبر بطر الحق وغمض الناس وغمطهم، وموجب ذلك استحقار الغير من وجه واستكمال النفس من ذلك الوجه - قاله الحرالي.
﴿وكان﴾ أي في أصل جبلته بما أفهمه الاستكبار من نسبتنا إلى ترك الحكمة إما جهلاً أو جوراً في أمرنا بسجوده لآدم وهو على زعمه خير منه
﴿من﴾ وهي كلمة تفهم اقتباس الشيء مما جعل منه - قاله الحرالي.
﴿الكافرين﴾ أي الذين سبق علمنا بشقاوتهم لم يتجدد لنا بذلك علم ما لم نكن نعلمه.
257
وفي الآيات الثلاث
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ و
﴿كيف تكفرون بالله﴾ و
﴿إذ قال ربك للملائكة﴾ أيضاً إشارة إلى اختلاف الحال في الخطاب بوصف الربوبية مع الخُلّص ومع من دونهم وفي الخطاب بأوصاف الذات، وذلك أنه تعالى لما بين أن الضالين في حسن أمثاله هم الخاسرون عجب ممن يكفر به إشارة إلى شدة ظهوره وانتشار نوره في أمثاله وجميع أقواله وأفعاله وأن شهوده في كل اعتبار أوضح من ضياء النهار، لأنه ما ثمَّ إلا ذاته وأفعاله وصفاته:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
متجلياً عليهم باسم الإلهية في أفعاله التي هم لها ناظرون وبها عارفون، فقال:
﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ إلى أن قال:
﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً﴾ الآية، وأدرج في ذلك أمر البعث بقوله
﴿ثم إليه ترجعون﴾ تنبيهاً على مشاركته لبقية ما في الآية من الظهور، لما قدم من الاستدلال عليه بإخراج الثمرات حين تعرف إليهم بوصف الربوبية
258
الناظر إلى العطف والامتنان والتربية والإحسان في مثل ما هنا من أفعاله الظاهرة وآثاره الباهرة فقال:
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم﴾ إلى آخرها؛ وختم هذه الآية بوصف العلم الشامل لما قام عليه من الدليل ضمن هذا التعجيب إشارة إلى الاستدلال على كمال الأمثال وتحديداً لمن يستمر على الكفران بعد هذا البيان بأنه بمرأى منه ومسمع في كل حال، فلما فرغ من خطابهم بالأمور الظاهرة على قدر فهومهم ومبلغ علومهم رقي الخطاب إلى رتبة نبيه عليه الصلاة والسلام لترقية البيان إلى غيب مقاولته لملائكته فقال:
﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل﴾ الآية فلكل مقام مقال، ولكل مخاطب حد في الفهم وحال.
259
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب السَابع في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن: اعلم أن الربوبية إقامة المربوب بما خلق له وأريد له، فرب كل شيء مقيمه بحسب ما أبداه وجوده، فرب المؤمن ربه ورباه للإيمان، ورب الكافر ربه ورباه للكفران، ورب محمد ربه ورباه للحمد -
«أدبني ربي فأحسن تأديبي»، ورب العالمين ربى كل عالم لما خلق له
﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ [طه: ٥٠] ؛ فللربوبية بيان في كل رتبة بحسب ما أظهرته آية مربوبه - من عرف نفسه عرف ربه
﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ [الأعلى: ١]
﴿فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك﴾ [الكهف: ١٨]
﴿اعبدوا ربكم الذي خلقكم﴾ ﴿لهم أجرهم عند ربهم﴾ [البقرة: ٢٦٢].
وقال في الباب الذي بعده: فخطاب الإقبال على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم إفهام في القرآن
﴿ألم تر إلى ربك كيف مد الظل﴾ [الفرقان: ٤]
260
الآية
﴿وهو الذي جعل لكم الليل لباساً﴾ [الفرقان: ٤٧] الآية، تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين وكما يتضح لأهل التعرف رتب البيان بحسب إضافة اسم الرب فكذلك يتحقق لأهل الفهم وجوه إحاطات البيان بحسب النعوت والتبيان في اسم الله غيباً في متجلى الآيات للمؤمن، وعيناً للكامل الموقن، وجمعاً وإحاطة عن بادىء الدوام للمحقق الواحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد
﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم﴾ [آل عمران: ١٠١]
﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص: ١] ؛ والتفطن في رتب البيان في موارد هذا النحو من الخطاب في القرآن من مفاتيح الفهم وبوادىء مزيد العلم - انتهى.
وقد أوقع سبحانه ذكر ابتداء الخلق على ترتيب إيجاده له فقد روى مسلم في صحيحه والنسائي في التفسير من سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه
261
قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي فقال:
«خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وقال المزي في الأطراف قال البخاري في التاريخ: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب وهو أصح - انتهى.
وما يقال من أنه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خلق
262
يعصون قاس عليهم الملائكة عليهم السلام حال آدم عليه السلام، كلام لا أصل له، والذي يدل عليه حديث مسلم هذا كما ترى أنه أول ساكني الأرض؛ والذي يلوح من اسمه في بدئه بالهمزة التي هي أول الحروف وختمه بالميم التي هي آخرها وختامها أنه أول ساكنيها بنفسه، كما أنه خاتمهم بأولاده، عليهم تقوم الساعة. ورأيت في ترجمة للتوراة وهو أولها: خلق الله ذات السماء وذات الأرض وكانت الظلمة فقال الله:
263
ليكن النور، فكان النور، فأراد أن يفرق بين النور والحِندِس فسمى النور نهاراً والحندس مساءً؛ ثم قال: ليكن جَلَد وسط الماء ويميز بين الماء الأعلى والماء الأسفل.
وفي نسخة: ليكن سقف بين المياه ليفصل بين الماء والماء، فكان كذلك فخلق الله سقفاً وفصل به بين الماء الذي تحت الجلد والماء الذي فوق الجلد وسمى الله الجلد سماء؛ وقال الله: لتجتمع المياه التي تحت
264
السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، فكان كذلك فسمى الله اليابسة أرضاً وسمى مجامع المياه بحوراً؛ وقال: لتخرج الأرض نبت عشب يزرع منه زرع لجنسه وشجر ذات ثمار تثمر لجنسها يغرس منه غرس على الأرض، فأينعت الأرض نبتاً عشباً يزرع منه زرع لجوهره وشجر ذات ثمار لجوهرها؛ فقال الله: ليكن نجمان في جلد السماء ليضيئا على الأرض وليميزا بين النهار والليل وليكونا للآيات والأزمان والعدد والأيام والسنين، فخلق الله نورين عظيمين: المصباح الأكبر لسلطان النهار والمصباح الأصغر لسلطان الليل وخلق النجوم، وكان المساء والصباح من اليوم الرابع؛ فقال الله: ليحت الماء حيتاناً ذات أنفس حية، وليطر الطير فوق الأرض في جو السماء، فكان كذلك؛ وخلق تنانين عظيمة وكل نفس حية تدب في الماء لأجناسها وكل طيور ذات أجنحة
265
لأصنافها وباركها وقال: انموا واكثروا واملؤوا مياه البحور وليكثر الطير على وجه الأرض؛ وقال الله: لتخرج الأرض أنفساً حية لجنسها دواب وسباع الأرض لأجناسها، فكان كذلك؛ وخلق الله سباع الأرض لأجناسها والدواب لأصنافها وجميع هوام الأرض لجواهرها.
فأراد الله أن يخلق خلقاً يتسلط على حيتان البحر وطير السماء وعلى الدواب وجميع السباع وعلى الحشرة التي تدب على الأرض فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى وبارك عليهما وقال لهما: انميا وأكثرا وتسلطا على حيتان البحر وطير السماء والدواب وجميع السباع؛ وقال: ها أنا ذا
266
قد أعطيتكما جميع العشب الذي يزرع على وجه الأرض كلها وكل شجر ذات ثمار تغرس فيها ليكون لكما مأكلاً ولجميع سباع البر وطيور السماء ولكل ما يدب على الأرض فيه نفس حية، فكان كذلك؛ وكملت السماء والأرض وجميع ما فيهما في اليوم السادس، ولم يكن ظهر على الأرض شيء من عشب الأرض، لأن الله لم يكن أهبط المطر على وجه الأرض بعد، وذلك لأن آدم لم يكن خلق بعد ليعمل في الأرض، وكان ينبوع يظهر في قعر عدن فيسقي جميع وجه الأرض.
فجبل الله الرب آدم من تربة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة فصار آدم ذا نفس حية وغرس الله الرب فردوساً بعدن من قبل وأسكنه آدم، وأنبت الله كل شجرة حسنة المنظر شهية المأكل وشجرة الحياة وسط الفردوس وشجرة علم الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الفردوس وكان ينفصل من هناك وينفرق على أربعة أطراف: اسم أحدها سيحون الذي يحيط بجميع أرض الهند وتلك البلاد الكثيرة، وذَهَب تلك الأرض جيد جداً، هنالك المها وحجر البلور، واسم النهر الثاني جيحون الذي يحيط بجميع أرض الحبشة،
267
واسم النهر الثالث دجلة الذي يخرج قبالة الموصل، والنهر الرابع الفرات؛ فتقدم الرب إلى آدم وقال له: كل من جميع أشجار الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً.
وقال الله: لا يحسن أن يكون آدم وحده فلنخلق له عوناً مثله، فجمع الرب من الأرض جميع سباع البر وطير السماء وأقبل بها إلى آدم ليرى ما يسميها وكل نفس حية سماها آدم فذلك اسمها فسمى الجميع، فألقى الله على آدم سباتاً فرقد، فنزع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له بدله لحماً، فخلق الله من الضلع الذي أخذ من آدم امرأة، فأقبل بها إلى آدم فقال: هذه الآن التي قرنت إليّ! وفي هذه عظم من عظامي ولحم
268
من لحمي! فلتدع امرأة لأنها أخذت من الرجل، ولذلك يدع الرجل أباه وأمه ويلحق بامرأته ويكونان كلاهما جسداً واحداً؛ وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته ولا يستحييان.
وكانت الحية أعز دواب البر كلها فقالت الحية للمرأة: أحق أن الله قال لكما: لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟ فقالت المرأة: إنا لنأكل من كل ثمر الجنة، فأما من ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة فإن الله قال لنا: لا تأكلا منها ولا تقرباها لكيلا تموتا؛ قالت الحية: لستما تموتان، ولكن الله علم أنكما إن تأكلا منها تنفتح أعينكما وتكونا كالإله تعلمان الخير والشر. فرأت المرأة الشجرة طيبة المأكل شهية في العين
269
فأخذت من ثمرتها فأكلت وأعطت بعلها فأكل، فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين وصنعا مآزر.
ثم ذكر أن الله تعالى سأله عن ذلك فقال آدم: المرأة التي قرنتها معي هي أطعمتني من الشجرة فأكلت، فقال الله الرب للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: إن الحية أعطتني فأكلت، فقال للحية: ملعونة تكونين من جميع الدواب ومن كل ماشية البر، وعلى بطنك تمشين، والتراب تأكلين كل أيام حياتك، وأغرى العداوة بينك وبين المرأة وبين ولدها، وولدها يطأ رأسك وأنت تلدغينهم بأعقابهم! وقال للمرأة: أكثر أوجاعك وإحبالك وبالوجع تلدين البنين، وإلى
270
بعلك تردين وهو مسلط عليك! وقال لآدم: من أجل طاعتك امرأتَك وأكلك الشجرة التي نهيتك عنها ملعونة الأرض من أجلك بالشقاء تأكل منها كل أيام حياتك أجاجاً وشوكاً تنبت لك، وتأكل عشب الأرض، وبرشح جبينك تأكل طعامك حتى تعود في الأرض التي منها أخذت من أجل أنك تراب وإلى التراب تعود.
فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حي، وصنع الله الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسها، فأرسله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ، فأخرجه الله ربنا وأحاط من مشرق عدن ملكاً من الكروبيين بيده حربة يطوف بها ليحرس طريق شجرة الحياة.
ثم قال بعد ذلك: فكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة ثم توفي عليه السلام - هذا نص التوراة. والكروب بوزن زبور
271
بلغة العبرانيين الشخص الصغير، فكان الكروبيون الملائكة المنسوبين إلى مخالطة الناس بالوحي أخذاً من الكروبَين تثنية كروب وهما شخصان في قبة الزمان كان يسمع كلام الله من بينهما، كما يأتي قريباً.
فإن أنكر منكر الاستشهاد بالتوراة أو بالإنجيل وعمي عن أن الأحسن في باب النظر أن يرد على الإنسان بما يعتقد تلوت عليه قول الله تعالى استشهاداً على كذب اليهود:
﴿قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين﴾ [آل عمران: ٩٣] وقوله تعالى:
﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه﴾ [المائدة: ٤٨]- في آيات من أمثال ذلك كثيرة؛ وذكرته باستشهاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التوراة في قصة الزاني كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المائدة مستوفى. وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تكون الأرض
272
يوم القيامة خبزة نزلاً لأهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم! ألا أخبرك بنُزُل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه» وقريب من ذلك حديث الجساسة في أشباهه. هذا فيما يصدقه كتابنا.
وأما ما لا يصدقه ولا يكذبه فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه، وهو معنى ما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
273
كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: ﴿آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم﴾ » الآية، فإن دلالة هذا على سُنِّية ذكر مثل ذلك أقرب من الدلالة على غيرها، ولذا أخذ كثير من الصحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتاب.
فإن فهم أحد من الشافعية منع أئمتهم من قراءة شيء من الكتب القديمة مستنداً إلى قول الإمام أبي القاسم الرافعي في شرحه: وكتب التوراة والإنجيل مما لا يحل الانتفاع به، لأنهم بدلوا وغيروا، وكذا قال غيره من الأصحاب؛ قيل له: هذا مخصوص بما علم تبديله، بدليل أن كل من قال ذلك علل بالتبديل فدار الحكم معه، ونص الشافعي ظاهر في ذلك، قال المزني في مختصره في باب جامع السير: وما كان من كتبهم أي الكفار فيه طب وما لا مكروه فيه بِيعَ وما
274
كان فيه شرك أبطل وانتفع بأوعيته.
وقال في الأم في سير الواقدي في باب ترجمته كتب الأعاجم قال الشافعي: وما وجد من كتبهم فهو مغنم كله، وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه، فإن كان علماً من طب أو غيره لا مكروه فيه باعه كما يبيع ما سواه من المغانم، وإن كان كتاب شرك شقوا الكتاب فانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها، ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو - انتهى.
فقوله في الأم: كتاب شرك، مفهم لأنه كله شرك، ولهذا عبر المزني عن ذلك بقوله: وما كان فيه شرك، أي في أبواب الكتاب وفصوله، وأدل من ذلك قولهم في باب الأحداث: إن حكمها في مس المحدث حكم ما نُسِخَتْ تلاوته من القرآن في أصح الوجهين، والتعبير بالأصح على ما اصطلحوا عليه يدل على أن الوجه القائل بحرمة مس المحدث وحمله لها قوى، وأدل من ذلك ما ذكره محرر المذهب الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله في مسائل ألحقها في آخر باب الأحداث من شرح المهذب وأقرّه أن المتولي قال: فإن ظن أن فيها شيئاً غير مبدل كُرِه مسه - انتهى. فكراهة المس للاحترام، والاحترام فرع جواز الإبقاء والانتفاع بالقراءة، وأصرح من ذلك
275
كله قول الشافعي رحمه الله: إن ما لا مكروه فيه يباع، وكذا قول البغوي في تهذيبه في آخر باب الوضوء: وكذلك لو تكلم - أي الجنب - بكلمة توافق نظم القرآن أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة والإنجيل أو ذكر الله سبحانه أو صلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجائز، قالت عائشة رضي الله عنها:
«كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه» فإنه لا يتخيل أنه يجوز للجنب ما لا يجوز للمحدث، بل كل ما جاز للجنب قراءته من غير أمر ملجىء جاز للمحدث ولا عكس، وتعليله لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها دال على أن ذلك ذكر الله تعالى، ولا يجوز الحمل على العموم لا سيما إذا لوحظ قول القاضي الحسين: إنه يجوز الاستنجاء بهما، لأنه مبني على الوجه القائل بأن الكل مبدل؛ وهو ضعيف أو محمول على المبدل منهما، لأنه لا يخفى على أحد أن مسلماً فضلاً عن عالم لا يقول: إنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح قال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكونن لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي
276
الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، لا تقسم بالرب إلهك كذباً، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور.
وقد أشبع الكلام في المسألة شيخنا حافظ عصره أبو الفضل بن حجر في آخر شرحه للبخاري، وآخر ما حط عليه التفرقة بين من رسخ قدمه في العلوم الشرعية - فيجوز له النظر في ذلك فإنه يستخرج منه ما ينتفع به المهتدون - وبين غيره فلا يجوز له ذلك، وأيده بنظر الأئمة فيهما قديماً وحديثاً والرد على أهل الكتابين بما يستخرجونه منهما؛ فلولا جواز ذلك ما أقدموا عليه - والله الموفق وقد حررت المسألة في فن المرفوع من حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العراقي فراجعه إن شئت - والله الهادي؛ ثم صنفت في ذلك تصنيفاً حسناً سميته
«الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة».
تنبيه: اعلم أن التوراة ثلاث نسخ مختلفة اللفظ متقاربة المعنى إلا يسيراً: إحداها تسمى توراة السبعين، وهي التي اتفق عليها اثنان
277
وسبعون حبراً من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عدداً من حفاظ التوراة، فأرسل إليه اثنين وسبعين حبراً، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّاباً وتراجمة، فكتبوا التوراة بلسان اليونان، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي وهي في أيدي النصارى؛ والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين، والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم.
ثم اعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها. على حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها، فالظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً، فكان في الورقة الأولى منها محو في أطراف الأسطر فكملته من نسخة السبعين، ثم قابلت نسختي كلها مع
278
بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم لو كان هو القارىء، فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق لفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب، هذا وظاهر القرآن في قوله تعالى:
﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ [الحجر: ٢٩] أن الأمر بالسجود له كان قبل إتمام خلقه وأن السجود كان عقب النفخ، وبه صرح البغوي في تفسيره، وأجاب عن قوله تعالى في سورة الأعراف
﴿ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ [الأعراف: ١١] بأجوبة، منها أن الخلق والتصوير لآدم وحده، وذكره بضمير الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلقهم وتصويره تصويرهم؛ ومنها أن (ثم) بمعنى الواو ليست للترتيب - انتهى. والتصوير شق السمع والبصر والأصابع - قاله يمان، والتسوية تعديل الخلق وإتمامه وتهيئته لنفخ الروح، ويمكن أن يكون
﴿خلقناكم﴾ وما بعده بمعنى قدرنا ذلك تقديراً قريباً من الإخراج من
279
العدم؛ وبذلك يتضح قوله في التوراة: فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى، ثم قال بعد ذلك: لأن آدم لم يكن خلق بعد، ثم حكى خلقه وخلق زوجه منه؛ فهذا خلق بمعنى الإيجاد، وذلك بمعنى التقدير القريب منه - والتهيئة لقبول الغايات - والله أعلم. ومشى البيضاوي على أن الأمر بالسجود كان بعد الإنباء بالأسماء ولم يذكر دليلاً يصرف عن هذا الظاهر على أن المشي عليه أولى من جهة المعنى، لأن سجود الملائكة عليهم السلام قبل يكون إيماناً بالغيب على قاعدة التكاليف، وأما بعد إظهار فضيلة العلم فقد كُشِف الغطاء وصار وجه الفضل من باب عين اليقين؛ وأما الترتيب في الذكر هنا على هذا الوجه وهو جعل السجود بعد الإنباء فهو لنكتة بديعة وهي أنه تعالى لما كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعماً فبين أولاً نعمته على كل نفس في خاصتها بخلقها وإفاضة الرزق عليها. ثم ذكر الكل بنعمة تشملهم وهي محاجّته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم قبل إيجاده اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة فذكر ما آتاه من العلم، فلما فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكر بنيه بنعمة السجود
280
له، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل. ولما فرغ من نعمة التفضيل في الصفات الذاتية بين النعمة بشرف المسكن مع تسخير زوج من الجنس لكمال الأنس وما يتبع ذلك فقال تعالى. وقال الحرالي: لما أظهر الله سبحانه فضيلة آدم فيما أشاد به عند الملائكة من علمه وخلافته والإسجاد له وإباء إبليس عنه أظهر تعالى إثر ذلك ما يقابل من أحوال آدم حال ما ظهر للملائكة بما فيه من حظ مخالفة يشارك بها إفراط ما في الشيطان من الإباء لإحاطة خلق آدم بالكون كله علواً وسفلاً، وليظهر فضل آدم في حال مخالفته على إبليس في حال إبائه مما يبدو على آدم من الرجوع بالتوبة كحال رجوع الملائكة بالتسليم، فيظهر فيه الجمع بين الطرفين والفضل في الحالين: حال علمه وحال توبته في مخالفته، فجعل تعالى إسكان الجنة توطئة لإظهار ذلك من أمره فقال تعالى:
﴿ {وقلنا يا آدم اسكن﴾، من السكن وهو الهدوء في الشيء الذي في طيه
281
إقلاق، أن في قوله:
﴿أنت﴾ اسم باطن الذات علماً هي المشتركة في أنا وأنتَ وأنتِ وأن تفعل كذا، والألف في أنا إشارة ذات المتكلم، وفي مقابلتها التاء إشارة لذات المخاطب ذكراً أو أنثى
﴿وزوجك الجنة﴾ فأجنت لآدم ما فيها من خبء استخراج أمر معصيته ليكون ذلك توطئة لكمال باطنه بإطلاعه على سر من أسرار ربه في علم التقدير إيماناً والكمال ظاهره يكون ذلك توطئة لفضيلة توبته إسلاماً ليس لبنيه التوبة
282
إثر المعصية مخالفة لإصرار إبليس بعد إبائه وشهادة عليه بجهله في ادعائه، وجعل له ذلك فيما هو متنزل عن رتبة علمه فلم تلحقه فيه فتنة حفيظة على خلافته وأنزلت معصيته إلى محل مطعمه الذي هو خصوص حال المرء من جهة أجوفية خلقه ليبدو نقص الأجوف ويبدي ذلك إكبار الصمد الذي يُطْعِم ولا يُطعَم، فكان ذلك من فعله تسبيحاً بحمد ربه؛ لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له انتهى.
ولما كان السياق هنا لمجرد بيان النعم استعطافاً إلى المؤالفة كان عطف الأكل بالواو في قوله:
﴿وكلا منها﴾ كافياً في ذلك، وكان التصريح بالرغد الذي هو من أجل النعم عظيم الموقع فقال تعالى:
﴿رغداً﴾ أي
283
واسعاً رافهاً طيباً هنيئاً
﴿حيث﴾ أي أيّ مكان
﴿شئتما﴾ بخلاف سياق الأعراف فإنه أريد منه مع التذكير بالنعم التعريف بزيادة التمكين وأنها لم تمنع من الإخراج تحذيراً للمتمكنين في الأرض المتوسعين في المعايش من إحلال السطوات وإنزال المثلاث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هو المعاني فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميع المعنى أو بعضه ولم يكن هناك مناقضة فإن القصة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة ثم إن الله تعالى يعبر لنا في كل سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عما يليق من المعاني ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام، وسأبين ما يطلعني الله عليه من ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
ولما أباح لهما سبحانه ذلك كله أتبعه بالنهي عن شجرة واحدة. قال الحرالي: وأطلق له الرغد إطلاقاً وجعل النهي عطفاً ولم يجعله استثناء ليكون آدم أعذر في النسيان لأن الاستثناء أهم في الخطاب من التخصيص وقال:
﴿ولا تقربا﴾ ولم يقل: ولا تأكلا، نهياً عن حماها
284
ليكون ذلك أشد في النهي - انتهى.
﴿هذه﴾ ولما كان اسم الإشارة لا دلالة له على حقيقة الذات افتقر إلى بيان ذات المشار إليه فقال:
﴿الشجرة﴾ أي فإنكما إن قربتماها تأكلا منها
﴿فتكونا﴾ أي بذلك
﴿من الظالمين﴾ أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في
285
الظلام؛ وفي هذا النهي دليل على أن هذه السكنى لا تدوم، لأن المخلد لا يناسب أن يعرض للحظر بأن يحظر عليه شيء ولا أن يؤمر ولا ينهى، ولذلك دخل عليه الشيطان من جهة الخلد، ولا داعي لبيان نوع الشجرة لأن السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة لا لتعيين المنهي عنه فليس بيانه حينئذ من الحكمة.
286
ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال:
﴿فأزلهما﴾، قال الحرالي: من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق
286
وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير بناحية منه؛
﴿الشيطان﴾ هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق كلفظ إنسان وملائكة
﴿عنها﴾ أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت كقولهم: رميت عن القوس - انتهى.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها
﴿فأخرجهما﴾ أي فتسبب عن إيقاعهما في الزلل الناشىء عن تلك المواقعة أنه أخرجهما
﴿مما كانا فيه﴾ من النعمة العظيمة التي تجل عن الوصف. قال الحرالي:
«في» كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة، ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما
287
في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرهما حمد أظهره الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع عليها. ثم قال: وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، إن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال
288
منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة - انتهى.
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة، وفي ذلك نفخيم للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج، وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً
289
عليه
﴿وقلنا﴾ أي له وللمغرور:
﴿اهبطوا﴾ وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط.
قال الحرالي: سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى، فكأنه أمسك حقيقته - أي آدم - في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له - من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة {بعضكم
290
لبعض} البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في تلك الجملة،
﴿عدو﴾ من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة - انتهى. فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر واجتناب النواهي.
قال الحرالي: وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً.
﴿ولكم في الأرض مستقر﴾ تكونون فيه، وهو من القرار وهو كون
291
الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛
﴿ومتاع﴾ تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه، من حيث إن لفظ المتابع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة؛
﴿إلى حين﴾ أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً، ومنهم الذي يناله كبيراً - انتهى.
292
ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له أنه أُلهم الدعاء بما رحم به عبر عن ذلك بقوله:
﴿فتلقى﴾ أي فهبطوا فتلقى
﴿آدم﴾ بعد الهبوط، والتلقي ما يتقبله القلب باطناً وحياً، أو كالوحي أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظاً وعلماً ظاهراً أو كالظاهر - قاله الحرالي:
﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه في كل حال
﴿كلمات﴾ أي ترضيه سبحانه بما أفهمه التعبير بالتلقي، وهي جمع كلمة؛ وهي دعاء دعا به ربه أو ثناء أثنى به عليه؛ وتطلق الكلمة أيضاً على إمضاء أمر الله من غير
293
تسبيب حكمة ولا ترتيب حكم - قاله الحرالي ثم قال: في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه، ويعاضد معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه فكان مستحقاً لها، فكانت متلقية له بما جمعت القراءتان من المعنى
﴿فتاب﴾ من التوب وهو رجوع بظاهر باطنه الإنابة وهو رجوع بعلم باطنه الأوبة وهو رجوع بتقوى قلب - انتهى.
﴿عليه﴾ لذكره إياه بالكلمات مخلصاً في نيته، ثم علل بقوله
﴿إنه هو﴾ أي خاصة
294
﴿التواب﴾ أي البليغ التوبة المكرر لها، ولما كان قد جعل على نفسه المقدس أن يتفضل على المحسن قال:
﴿الرحيم﴾ أي لمن أحسن الرجوع إليه وأهله لقربه.
قال الحرالي: وكان إقراره بلفظه أدباً وإذعاناً لقيام حجة الله على عباده بما أنبأ عنه من قوله:
﴿ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ [الأعراف: ٢٣] الآية، وهذه توبة قلب وعمل لا ينقض مخصوص حال القلب منها ناقض وهي التوبة النصوح التي تبرىء من الذنب بتحقيق توحيد القلب وتوجب تكفير الخطايا الظاهرة التي لا أصل لها في القلب من حجاب دعوى في الأفعال وشرك في أمر الله، فبمقتضى ما في باطنه ظهر فيه اسمه الرحيم الذي هو من الرحمة وهو اختصاص فضله بالمؤمن، وبمقتضى ما ظهر عليه من الضراعة والإقرار ظهر فيه مقتضى اسمه التواب؛ فجمعت توبته الأمرين - انتهى.
ولما أعلموا بالعداوة اللازمة كان كأنه قيل: فما وجه الخلاص منها؟ فقيل: اتباع شرعنا المشروع للتوبة والرحمة فإنا
﴿قلنا﴾ كما تقدم
﴿اهبطوا﴾ ولما كان الهبوط الماضي يحتمل أن يكون من مكان من
295
الجنة إلى أدنى منه ولم يخرجوا منها فكرره هنا للتأكيد تصويراً لشؤم المعصية وتبشيعاً لها قال:
﴿منها﴾ أي الجنة
﴿جميعاً﴾ أي لا يتخلف منكم أحد سواء كان ذلك قِران واحد أو على التعاقب، وعهدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى واعدين من اتبع متوعدين من امتنع فقلنا:
﴿فإما يأتينكم﴾،
296
وقال الحرالي: مورد هذه الآية بغير عطف إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم يتقدمه إيجاء بباطن كما تقدم في السابقة، وتكرر الإهباطان من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار في الدنيا والاغتذاء فيها وذرء الذرية وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس، وهذا الإهباط الثاني إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية التي كانت خفية في أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس، وفي قوله:
﴿جميعاً﴾ إشعار بكثرة ذرء الخلقين وكثرة الاحداث في أمر الديانة من النقلين - انتهى.
297
وخص في إبراز الضمير بمحض الإفراد من غير إيراد بمظهر العظمة إبعاداً عن الوهم فقال:
﴿مني هدى﴾ أي بالكتب والرسل، ولما كان الهدى الذي هو البيان لا يستلزم الاهتداء قال:
﴿فمن تبع﴾ أي أدنى اتباع يعتد به، ولذلك اكتفى في جزائه بنفي الخوف الذي قد يكون عن توبة من ضلال بخلاف ما في طه كما يأتي إن شاء الله تعالى. والتبع السعي أثر عَلَم الهدى - قاله الحرالي.
﴿هداي﴾ أي المنقول
298
أو المعقول، فالثاني أعم من الأول. لأنه أعم من أن يكون منقولاً عن الرسل أو معقولاً بالقياس على المنقول عنهم، أو بمحض العقل كما وقع لورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما المشار إليهم بالقليل في قوله تعالى:
﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً﴾ [النساء: ٨٣] قال العارف شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية: فالعفل حجة الله الباطنة والقرآن حجة الله الظاهرة. قال الحرالي: وجاء
﴿هداي﴾ شائعاً ليعم رفع الخوف والحزن من تمسك بحق ما من الحق الجامع، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فيما بينه وبين الحق وفيما بينه وبين الخلق - انتهى.
ولما كان الخوف أشد لأنه يزداد بمر الزمان، والحزن يحفّ، قدّمه فقال:
﴿فلا خوف عليهم﴾ أي من شيء آت فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضارّ - قاله الحرالي.
﴿ولا هم يحزنون﴾ أي على شيء فات، لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة والحزن كما قال الحرالي: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به رَوح، والقرب
299
منه راحة، وجاء في الحزن بلفظ
﴿هم﴾ لاستبطانه، وبالفعل لأنه باد من باطن تفكرهم في فائتهم، وجاء نفي الخوف منعزلاً عن فعلهم لأنه من خوف باد عليهم من غيرهم - انتهى.
ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله:
﴿والذين كفروا﴾ قال الحرالي: هذا من أسوأ الكفر
300
لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علماً على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما قال تعالى:
﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة﴾ [الشورى: ٢٩] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نوراً يُقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان، وإما صاحب نار، فقال:
﴿وكذبوا بآياتنا﴾ لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة، فكفروا بما رأوا فكانوا عمياً، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صُمّاً - انتهى.
والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب
301
والألسنة
﴿أولئك﴾ أي البُعَداء البغضاء
﴿أصحاب النار﴾ وبين اختصاصهم بالخلود بقوله:
﴿هم فيها خالدون﴾ فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة، فالآية من الاحتباك، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول، وقد علم من ذلك مع قوله
﴿مستقر ومتاع إلى حين﴾ أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها! فكأنه جواب سائل قال: هل بعد هذا الهبوط من صعود؟ قال الحرالي: وقوله:
﴿هم﴾ فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير
302
ذلك من إحراق النار بواطنهم، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون
«الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله. فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيباً وفي الآخرة عياناً وفي القبر عرضاً
﴿لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين﴾ [التكاثر: ٦، ٧]
﴿النار يعرضون عليها غدواً وعشياً﴾ [غافر: ٤٦] وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الناس كلهم تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم، وكافرهم
303
لكافرهم» انتهى. يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول، وهو شامل لغيرهم، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث، وعلى النبوة من حيث إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر عنها موافقاً لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها - ذكره الأصفهاني عن الإمام. وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها: اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نوراً من نوره، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقاً، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضاً وبسطاً، ولأنه رزقه نوراً من نوره كان أصفى عقلاً وأخلص لباً وأفصح نطقاً وأعرب بياناً جمعاً وفصلاً، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكاً وحساً، وعقّله ما أقام من أمره فهماً وعلماً،
304
ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفاناً ووجداً؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعاً وأنساً فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهاً، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفاً
﴿الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري﴾ [الكهف: ١٠١]
﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾ [البقرة: ١٣٠]
﴿إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً﴾ [النحل: ١٢٠]. ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد،
305
وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً وعملاً، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله أمامه من قرأه علماً وحالاً وعملاً، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار - أكثر منافقي أمتي قراؤها،
﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾ [النساء: ١٤٥] فإذاً لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها
306
إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه
﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء﴾ [الأعراف: ١٤٥] فخذها بقوة
﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة﴾ [مريم: ١٣]
﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ [هود: ١١٢] فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره؛ ولكل حرف شرط يخصه - انتهى.
ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعياً للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أحق من دُعِي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل ضلالهم فكان جديراً بالرجوع والكف عن غيه والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام؛ فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار وختم بأن وعد في
307
اتباع الهدى وتوعد شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خُص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى مذكراً لهم بنعمه الخاصة بهم:
﴿يا بني إسرائيل﴾ ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر فيقال: لما
308
كان الكفار قسمين: قسم محض كفره، وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحق منه، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال:
﴿إن الذين كفروا سواء عليهم﴾ إلى آخره. ثم أتبعه قسم المنافق، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر، فقال:
﴿ومن الناس من يقول آمنا﴾ إلى آخره؛ ولما فرغ من ذلك ومما استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل، والاستعطاف بذكر النعم، شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق ويخفيه
309
فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر باطناً، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته، فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار فتُسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار، ولقد نشر سبحانه في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين؛ هذا إجمال الأمر، وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف، تذاق بحسن التعليم ويشفى عيّ جاهلها بلطيف التكليم - والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.
310
وقال الحرالي: ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظماً بابتداء خطاب العرب من قوله:
﴿يا أيها الناس﴾ وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه. ثم قال: لما انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها
﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور﴾ [المائدة: ٤٤]
311
وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدي بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق - انتهى.
312
وابتدأ سبحانه بتذكيرهم بما خصهم به عن النوع الآدمي من النعم التي كانوا يقابلونها بالكفران وما عاملهم به من إمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة مما يبين سعة رحمته وعظيم حلمه، وابتدأ من أوامرهم بالإيفاء بالعهود التي من أعظمها متابعة هذا النبي الكريم والإيمان بكتابه الذي نفى عنه الريب فقال:
﴿يا بني إسرائيل﴾ أي الذي شرفته
312
وشرفت بنيه من أجله
﴿اذكروا﴾ من الذكر بالكسر والضم بمعنى واحد يكونان باللسان وبالجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر باللسان وبالضم بالقلب، والذي بالقلب ضده النسيان، والذي باللسان ضده الصمت - نقله الأصفهاني. وقال الحرالي: من الذكر وهو استحضار ما سبقه النسيان.
﴿نعمتي﴾ وهي إنالة الشخص ما يوافق نفسه وبدنه وعند المتفطن ما يوافق باطنه وظاهره مما بين قلبه وشعوبه من أهله وحشمه
﴿التي﴾ تي منها إشارة لباطن نازل متخيل مبهم تفسره صلته بمنزلة ذي وال منها إشارة لذلك المعنى بالإشارة المتخيلة - انتهى
﴿أنعمت﴾ أي بها ودللت على شرفها بإضافتها إلى
﴿عليكم﴾ وتلك النعمة الشريفة هي
313
الإتيان بالهدى من الكتب والرسل الذي استنقذتكم به من هوان الدنيا والآخرة
﴿وأوفوا﴾ من الوفاء وهو عمل لاحق بمقتضى تقدم علم سابق - قاله الحرالي.
﴿بعهدي﴾ أي الذي أخذته عليكم في لزوم ما أنزل إليكم من متابعة نبيكم ومن آمَرَكم باتباعه من بعده، والعهد التقدم في الشيء خفية اختصاصاً لمن يتقدم له فيه - قاله الحرالي، وقال الأصفهاني: حفظ الشيء
314
ومراعاته حالاً فحالاً، قال الخليل: أصله الاحتفاظ بالشيء وإجداد العهد به،
﴿أوف بعهدكم﴾ أي في جعلكم ممن لا خوف عليهم ولا حزن بسعة العيش والنصر على الأعداء كما يأتي عن نص التوراة في مظانه من هذا الكتاب
﴿وإياي﴾ أي خاصة
﴿فارهبون﴾ أي ولا تزلّوا اجْعَلْكم في مصير الكافرين بعد الضرب بأنواع الهوان في الدنيا، والرهب حذر النفس مما شأنها منه الهرب لأذى تتوقعه، وخوطبوا بالرهبة لاستبطانها فيما يختص لمخالفة العلم، قال الحرالي: وأطال سبحانه في حجاجهم جرياً على قانون النظر في جدال العالم الجاحد وخطاب المنكر المعاند، وفي قوله تعالى:
﴿وآمنوا بما أنزلت﴾
315
أي أوجدت إنزاله
﴿مصدقاً لما معكم﴾ تقرير لذلك الكتاب لا ريب فيه، وأمروا كما قال الحرالي تجديد الإيمان بالقرآن لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده - ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة - انتهى. وفي قوله:
﴿ولا تكونوا أول كافر به﴾ معنى دقيق في تبكيتهم وأمر جليل من تعنيفهم وذلك أنه ليس المراد من
﴿أول﴾ ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن فإن العرب
316
كثيراً ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته بل المبالغة في السبق، كما قال مقيس بن صبابة وقد قتل شخصاً من الصحابة رضوان الله عليهم كان قتل أخاه خطأ ورجع إلى مكة مرتداً.
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي | وكنت إلى الأوثان أول راجع |
هذا في جانب الإثبات، فإذا نفيت ناهياً فقلت: لا تكن أول فاعل لكذا، فمعناه إنك إن فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له، وعبر به تنبيهاً على أنهم لما تركوا اتباع هذا الكتاب كانوا لما عندهم من العلم بصحته في غاية اللجاجة فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر
317
عمل من يسابق شخصاً إلى شيء، أو يكون المعنى أنهم لم يمنعهم من الإيمان به جهل بالنظر ولا عدم إطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشر بل مجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي المستلزم لحسد هذا النبي بعينه، لأن الحكم على الأعم يستلزم الحكم على الأخص بما هو من أفراد الأعم. فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب الجاهلين به أو الحاسدين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخصوصه لا لعموم العرب، فكان أهل الكتاب أول كافر به لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه الذي هو أقبح الوجوه، فالمعنى لا تكفروا به، فإنه إن وقع منكم كفر به كان أول كفر، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر، ولذا أفرد ولم يقل: كافرين - والله أعلم.
ولما نهاهم عن الكفر بالآيات نهاهم عن الحامل عليه لقوله:
﴿ولا تشتروا﴾
318
أي تتكلفوا وتلحوا في أن تستبدلوا
﴿بآياتي﴾ أي التي تعلمونها في الأمر باتباع هذا النبي الكريم
﴿ثمناً قليلاً﴾ وهو رياسة قومكم وما تأخذونه من الملوك وغيرهم على حمل الشريعة، والقلة ما قصر عن الكفاية - قاله الحرالي.
﴿وإياي﴾ أي خاصة
﴿فاتقون﴾ أي اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي، فالتقوى نتيجة الرهبة كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في آية الرهبة،
﴿ولا تلبسوا﴾ واللبس إبداء الشيء في غير صورته، ومنه اللباس
319
لإخفائه الأعضاء حتى لا تبين هيئتها - قاله الحرالي:
﴿الحق﴾ أي ما تقرون به على ما هو عليه من التوراة والإنجيل مما لا غرض لكم في تبديله
﴿بالباطل﴾ مما تحرفونه منهما، والحق قال الحرالي ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله، فكل زوجين فأثبتهما حق وأذهبهما باطل، وذلك الحق فالباطل هو ما أمد إدالته قصير بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار - انتهى.
ولما كان اللبس قد يفارق الكتمان بأن يسأل شخص عن شيء فيبديه ملتبساً بغيره أو يكتمه وهو عالم به قال:
﴿وتكتموا الحق﴾ أي عمن لا يعلمه
﴿وأنتم تعلمون﴾ أي مكلفون، وجعله الحرالي على ظاهره فقال: لما طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند اتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من العرب، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن، فكتموا الحق
320
التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهاماً، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحاً - انتهى.
وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل. قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف - يعني حرف النهي - كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم مما رضوا به واطمأنوا إليه وآثروه من دنياهم، فمتوجهه للمطمئن بدنياه المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه يسمى زجراً، ومتوجهه للمتلفّت المستشعر ببعض الخلل فيما هو عليه يسمى نهياً، وهما يجتمعان في معنى واحد ومقصود واحد إلا أنه متفاوت، ولذلك رددهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المعنى الجامع في هذا الحديث يعني المذكور أول البقرة، وأولاهما بالبدئية في الإنزال الزجر لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما
321
بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق ونظر الله سبحانه إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، كما ورد في الحديث الصحيح إسناداً ومتناً، ولذلك كان أول منزل الرسالة سورة
﴿يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر*﴾ [المدثر: ١-٥] وهي أول قوارع الأمر كما أن فجاءة الساعة أول قوارع الخلق، ولذلك انتظم فكرهما في قوله تعالى:
﴿فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير*﴾ [المدثر: ٨-١٠] وللمزجور حالان إما أن ينفر عند الزجرة توحشاً كما قال تعالى:
﴿كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة *﴾ [المدثر: ٥٠-٥١] وإما أن يدبر بعد فكره تكبراً كما قال تعالى:
﴿ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر﴾ [المدثر: ٢١-٢٣] وربما شارف أن يبصر فصرف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لكنها عقول كادها باريها {سأصرف آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية
322
لا يؤمنوا بها}
[الأعراف: ١٤٦] صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في وضوحها وكل قارعة لنوعي الكافرين النافرين والمدبرين من هذا الحرف وتمام هذا المعنى ينهى المتأنس المحاصر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى وإن تضرروا بتركها في الدنيا نحو قوله تعالى:
﴿ولا تقربوا﴾ في أكل مال اليتيم والزنا وإتيان الحائض - إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيساً، نحو قوله:
﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [البقرة: ١٨٨]
﴿ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة﴾ [آل عمران: ١٣]
﴿ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً﴾ [الحجرات: ١٢] و
﴿لا يسخر قوم من قوم﴾ [الحجرات: ١١] وما لحق بهذا النمط - إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل لطية غرض النفس
323
نحو قوله تعالى:
﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾ [النساء: ٩٤] إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل وإن كان من حكم العدل نحو قوله تعالى:
﴿ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله﴾ [النور: ٢٢] إلى تمام ما لا تحصل السلامة إلا به من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة نحو قوله تعالى:
﴿ولا تمش في الأرض مرحاً﴾ [الإسراء: ٣٧] إلى قوله:
﴿ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة﴾ [الإسراء: ٣٩]، ونحو قوله تعالى:
﴿ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه﴾ [طه: ١٣١]، لأن كل زائد على الكفاف فتنة، وهذا هو أساس ما به تتفاوت درجات العلم في الدنيا ودرحات الجنة في الآخرة، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده أي وهي سائر الحروف علماً وعملاً وثباتاً وقبولاً عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه
324
لأنه ظهور لما بعده من صلات حرف الأمر وما قصّر بعشرات فرق الأمة إلى التقصير في حرف النهي، لأن الملة الحنيفية مبنية على الاكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لا يتناهى من المنهيات لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق فيما بعد الموت ويصعب هذا الحرف على الخلق بما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صنوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا وعماهم عن وبالها في الأخرى وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا بوفاء الحمية منها، والحمية أصل الدواء، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء
﴿هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً*﴾ [الكهف: ١٠٣، ١٠٤] وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهناً من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا
325
التي نهوا عن زهرتها، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة، فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف وهو حسبه فاقرؤوا ما تيسر منه، أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا وحمية النفس من هوى جاهها ومالها
«بل نبياً عبداً» «أجوع يوماً وأشبع يوماً»
«ومن رغب عن سنتي فليس مني»، والقرآن حجة لمن عمل به فصار إمامه يقوده إلى الجنة. وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه فيسوقه إلى نار الجبة التي في جب وادي جهنم التي تستعيذ جهنم منها والوادي والجب في كل يوم سبع مرات
﴿ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ [الشورى: ٥٢]
﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦] {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً*] [الإسراء: ٨٢] «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك
326
من سخطك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف النهي: اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حال الجسم والنفس تحصل له عادة بالخير تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة من الأمر والنهي، ولما اقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تماماً اقتضى الإيمان بالغيب وتصديق الوعد والوعيد تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى بما ملك العبد من منقود متاع الدنيا، فكل الحلال ما عدا الكفاف بالسنة متجر للعبد، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه، وإن استمتع به أفناه فندم عليه
﴿فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم﴾ [التوبة: ٦٩]
﴿لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين*﴾ [المنافقون: ١٠]
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ [آل عمران: ٩٢] ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وكما أن حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال ليحصل به الصبر ليكون به العبد شاكراً صابراً، فالذي يحصل به قراءة حرفي النهي
327
أما من جهة القلب ورؤيا الفؤاد فمشاهدة البصيرة لموعود الجزاء حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس بخيره وترتاع من شره، كما قال حارثة:
«كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلى أهل النار في النار يعذبون» فأثمر له ذلك ما أحبر به عن نفسه في قوله:
«وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وخزفها» وخصوصاً من أيد بالمبشرات من الرؤيا الصالحة والكشف الصادق ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة، وأما من جهة حال النفس فالصبر بحبسها عما تشتهيه طبعاً مما هو محلل لها شرعاً، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رضي الله عنه لما رثى لحاله:
«أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» ﴿واستعينوا بالصبر﴾، [البقرة: ٤٥] وصبر النفس عن شهواتها وإن كانت حلالاً هو حقيقة تزكيتها، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها،
328
وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيتها،
﴿قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها*﴾ [الشمس: ٩-١٠] والنفس مطية يقويها إنضاؤها، ويضعفها استمتاعها، وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها إلاّ في شيئين: في النساء بكلمة الله، لأنهم من ذات نفس الرجال ولسن غيراً لهم
﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها﴾ [الأعراف: ١٨٩] و
﴿أتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً﴾ [النساء: ٢٠] والثاني في الطيب، لأنه غذاء للروح وتقوية للحواس ونسمة من باطن الملكوت إلى ظاهر الملك، وما عداهما فالاستمتاع به واتباع النفس هواها فيه علامة تكذيب وعد الرحمن وتصديق وعد الشيطان
﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون﴾ [النحل: ٢٦]
﴿يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً﴾ [النساء: ١٢٠] هذا من جهة النفس، وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد
329
على الكفاف وتخليته لذوي الحاجة ليتخذوه معاشاً، وأن يكون التمول من غير القوام تجارة نقل وضرب في الأرض وإرصاد لوقت حاجة لا حكرة وتضييقاً، اتخاذ أكثر من لبستين للمهنة والجمعة علامة لضعف الإيمان وخلاف السنة وانقطاع عن آثار النبوة وعدول عن سنة الخلفاء وترك لشعار الصالحين، وكذلك تصفية لباب الطعام وقصد المستحسن في الصورة دون المستحسن في العلم وإيثار الطيب في المطعم على الطيّب في الورع وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد وأكثر من مزدرع كاف ورفع البناء والاستشراف بالمباني، امتنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة حتى هدمها وسوّاها مع بيوت أهل المدينة، وإنما الدنيا للمؤمن سجن إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت السراح منه إلى الآخرة فيسعد، وإن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها على نفسه طلب البقاء فيها وليست بباقية، والخيل ثلاثة: أجر للمجاهد، ووزر على المباهي،
330
وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه، والزيادة على الكفاف من النعم السائمة انقطاع عن آثار النبوة وتضييق على ذوي الحاجة وتمول لما وضع لإقامة المعاش وأن يتخذ منه الكفاف، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة» والطعام لا يتمول وكذلك ما اتخذ للقوام لا يحتكره إلا خاطىء
«من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه» فالأمتعة تجلب وتختزن ويستنمى فيه الدينار والدراهم، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن فيستنمى فيه الدينار والدرهم، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره، وما منع فيه من مدّ العين فأحرى أن يمنع فيه مد اليد
﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً﴾ [الحجر: ٨٨] الآيتين، فبهذه
331
الأمور من إيمان القلب ورؤية الفؤاد وصبر النفس وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام تحصل قراءة حرف النهي، والله ولي التأييد - انتهى.
332
ولما فرغ سبحانه من أمر أهل الكتاب بالإيمان بالله والنبي والكتاب الذي هو من الهدى الآتي إليهم المشار إلى ذلك كله بالإيفاء بالعهد عطف بقوله:
﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي حافظوا على العبادة المعهود بها في كل يوم بجميع شرائطها وأركانها
﴿وآتوا الزكاة﴾ أي المفروضة في كل حول لتجمعوا أوصاف المتقين المهديين بهذا الكتاب {الذين
332
يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: ٣] المحسنين بذلك فيما بينهم وبين الحق وفيما بينهم وبين الخلق، وهاتان العبادتان إما العبادات البدنية والمالية فخصا بالذكر، لأن من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها، والزكاة قال الحرالي نماء في ظاهر حس وفي باطن ذات نفس،
﴿واركعوا﴾ من الركوع وهو توسط بين قيام وسجود يقع في ظاهر من القامة وفي حال من القلب، تخص به الأمة المتوسطة الجامعة للطرفين
﴿مع﴾ معناه الصحبة من الأعلى بالحياطة، ومن الأدنى بحسن التبع، ومن المماثل بحسن النصفة - انتهى. وقوله: الراكعين * مع مصحوبه تأكيد لأمر الصلاة وأمر بالكون في هذا الدين مع الذين اتبعوا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن صلاة اليهود لا ركوع فيها، كما سيأتي بيانه في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى.
وقال الحرالي: والمتسق بذلك أي بما مضى خطاب إفهام يفهمه عطف إقامة الصلاة التي هي تلو الإيمان، فكأن خطاب الإفهام:
333
فارجعوا واستدركوا وأعلنوا بما كتمتم وبينوا ما لبستم وانصحوا من استنصحكم وأقيموا وجهتكم لله بالصلاة وتعطفوا على الأتباع بعد تعليمهم بالزكاة وكملوا صلاتكم بما به كمال الصلاة من الركوع العدل في الفعل بين حال قيام الصلاة وسجودها المظهر آية عظمة الله مع الراكعين الذين هم العرب الذين وضعت أول صلاتهم على كمال - انتهى. ويجوز
334
أن يكون المراد بالركوع الصلاة، عبر عنها به لما ذكر من خصوص هذه الأمة به، فكأنه قيل: وصلّوا مع المصلّين جماعة، لمزيد التوصية بالجماعة.
ولما أمر علماءهم بما تركوا من معالي الأخلاق من الإيمان والشرائع بعد أمرهم بذكر ما خصهم به من النعم، ونهاهم عما ارتكبوا من سفسافها من كفر النعم ونقض العهود وما تبع ذلك وكانوا يأمرون
335
غيرهم بما يزعمون أنه تزكية وينهونه عما يدعون أنه تردية، أنكر عليهم ترغيباً فيما ندبهم إليه وحثهم عليه وتوبيخاً على تركه بقوله:
﴿أتأمرون﴾ من الأمر وهو الإلزام بالحكم - قاله الحرالي
﴿الناس بالبر﴾ وهو التوسع في أفعال الخير
﴿وتنسون﴾ والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم،
﴿أنفسكم﴾ أي تتركون حملها على ذلك ترك الناسي، ولعله عبر به زيادة في التنفير عن هذا الأمر الفظيع الذي دلّ العقل دلالة بينة على فحشه، لأن المقصود من أمر الغير بالبر النصيحة أو الشفقة، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو ينصح غيره وينسى نفسه، والظاهر أن المراد به حكم التوراة، كانوا يحملون عوامهم عليه وهم يعلمون دون العوام أن من حكم التوراة اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد نسوا أنفسهم من الأمر بأساس البر الذي لا يصح منه شيء إلاّ به.
وقال الحرالي: ولما كان فيهم من أشار على من استهداه بالهداية
336
لاتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يهدوا أنفسهم لما أرشدوا إليه غيرهم أعلن تعالى عليهم بذلك نظماً لما تقدم من نقض عهدهم ولبسهم وكتمهم بما ظهر من نقص عقولهم في أن يظهر طريق الهدى لغيره ولا يتبعه فأخرجهم بذلك عن حد العقل الذي هو أدنى أحوال المخاطبين، وزاد في تبكيتهم بجملة حالية حاكية تلبسهم بالعلم والحكمة الناهية عما هم عليه فقال:
﴿وأنتم تتلون الكتاب﴾ من التلاوة، وهو تتبع قول قائل
337
أول من جهة أوليته - قاله الحرالي. وهذه الجملة الحالية أعظم منبّه على أن من حكم التوراة اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومشير إلى أن المعصية من العالم أقبح. قال الحرالي: فيه إشعار بأن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منطوق تلاوته ليس في خفي إفهامه، فكان في ذلك خروج عن حكم نور العقل - انتهى.
ولما كان هذا في كتابهم وهم به يأمرون وعنه معرضون سبب سبحانه عنه الإنكار في قوله:
﴿أفلا﴾ أي أتتلونه فلا
﴿تعقلون﴾ إشارة إلى أن ما هم عليه من هذا لا يفعله ذو مسكة، والعقل إدراك حقائق ما نال الحس ظاهره - قاله الحرالي. سمي عقلاً لأنه يعقل عن التورّط في الهلكة.
ولما أنكر عليهم اتباع الهوى أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس وأجل أعمال البدن فقال عاطفاً على ما مضى من الأوامر. وقال الحرالي: فكأنهم إنما حملهم على مخالفة حكم العقل ما تعودت به أنفسهم من الرياسة والتقدم فلِما في ذلك عليهم من المشقة أن يصيروا أتباعاً
338
للعرب بعد ما كانوا يرون أن جميع الأرض تبع لهم نسق بخطابهم في ذلك الأمر بالاستعانة بالصبر الذي يُكره أنفسهم على أن تصير تابعة بعد أن كانت متبوعة فقال تعالى - انتهى.
﴿واستعينوا﴾ أي على إظهار الحق والانقياد له وهو معنى ما مضى من الأوامر والنواهي
﴿بالصبر﴾ أي على مخالفة الهوى، والصبر حبس النفس عن حاجتها وعادتها وعلى إصلاحها وتزكيتها، هو ضياء للقلوب تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن العادة فيما تنزع إليه الأنفس - قاله الحرالي. وهو عام في كل صبر الصوم وغيره،
﴿والصلاة﴾ أي الموصلة إلى المقام الأعلى،
339
وفيه التفات إلى
﴿وإياك نستعين﴾ [الفاتحة: ٥] وإشارة إلى أن من لم تنهه صلاته عن ركوب الباطل والتمادي فيه وتأمره بلزوم الحق والرجوع إليه فليس بمصلٍّ، فكأن المراد بالصبر تخليص النفس من أشراك الهوى وقسرها على الإخلاص، فمن صلى على هذه الصفة كان لا محالة من الناجين؛ وثنى بالصلاة لأنها استرزاق يغنيهم عن اشتراء ثمن كانوا يأخذونه من أتباعهم في اللبس والكتمان
﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك﴾ [طه: ١٣٢] قال الحرالي. ويصح أن يراد بها الدعاء، فمن صبر عن الدنايا وعلى المكاره وأنهى صبره إلى الصوم فأزال عنه كدورات
340
حب الدنيا وأضاف إلى ذلك الصلاة استنار قلبه بأنواع المعارف، فإذا ضم إلى ذلك الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بلغ نهاية البر.
ولما أمر ونهى بما ختمه بالصلاة حث على التفاؤل لعظمته سبحانه بتخصيصها بالضمير فقال:
﴿وإنها لكبيرة﴾ أي ثقيلة جداً، والكبير ما جل قدره أو مقداره في حس ظاهر أو في معنى باطن - قاله الحرالي.
﴿إلا على الخاشعين﴾ أي المخبتين الذين هم في غاية السهولة واللين والتواضع لربهم بحيث لا يكون عندهم شيء من كبر وينظرون عواقب الأمر وما
341
أعد عليها من الأجر، ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وجعلت قرة عيني في الصلاة» وغيرهم يمنعهم ثقلها من فعلها، وإن فعلها فعلى غير رغبة. قال الحرالي: وهو أي الخشوع هدوّ الجوارح والخواطر فيما هو الأهم في الوقت، وأنبأ تعالى بكبر قدر الصلاة عن أن يتناول عملها إلا خاشع خرج عن حظ نفسه وألزم نفسه ذل العبودية التي ختمت بها النبوة، وفي إشارة كمال الصلاة إشعار بصلاة العصر التي هي صلاة النبي الخاتم الذي زمنه وقت العصر وحالة العبودية، وذلك مما يكبر على من قرن بنبوته وبملته الملك إلا أن يخشع لما يكبر على النفس، وخصت الصلاة بالكبر دون الصبر لأن الصبر صغار للنفس والصلاة وجهة للحق والله هو العلي الكبير - انتهى.
﴿الذين يظنون﴾ من الظن وهو رجحان في اعتقاد مع بقاء منازع من مقابله - قاله الحرالي.
﴿أنهم ملاقوا ربهم﴾
342
أي المحسن إليهم، وعبر بالظن عن العلم تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أنه يكفي العاقل في الحث على ملازمة الطاعة في ظن لقاء الملك المطاع المرجو المخوف فكيف والأمر متيقن لا مِراء فيه ولا تطرّق للريب إليه! ويجوز أن يراد ظن الموت في كل لحظة، فإنه إذا كان على ذكر من الإنسان أوجب له السعادة.
ولما كانت هذه الجملة مشيرة مع الترهيب لذوي الهمم العلية والأنفة والحمية من الوقوع فيما يلم بعيب أو يوقع في عتب إلى الاستحياء من المحسن الذي ما قطع إحسانه ساعة من الدهر زاد في الترهيب بقوله:
﴿وأنهم إليه﴾ أي وحده
﴿راجعون﴾، والرجوع معاد الذاهب على
343
مدارج مذهبه وترقيه على معارج مهبطه - قاله الحرالي.
وعبر بذلك وإن كانوا لم يزالوا في قبضته، لأن اسمه الظاهر سبحانه يكون في تلك الدار لانقطاع الأسباب في غاية الظهور لا يكون لأحد معه نوع ظهور أصلاً، لا كهذه الدار التي الغالب فيها معنى اسمه الباطن إلا عند أولي البصائر؛ وفي الآية تبكيت لأهل الكتاب بأنهم مع تحققهم للبعث يملون عمل من لا يظنه فضلاً عن أنه يعلمه. وقال الحرالي: ولما كان في الصلاة مناجاة لله على الغيب كانت إنما تتيسر على من يظن القبول الذي يشعر به اللقاء لربه بعد موته وذلك حال من رجحت الآخرة
344
على الدنيا في عمله وحاله، فكان حاله وعمله حال الظان إبقاء على أحوال من دون رتبة اليقين، ومقصود اللقاء ليس البعث لأنهم هم من المؤمنين بالبعث ولكنه من معنى القبول بعد البعث، وفيه إشارة إلى حال الموت ويوم البرزخ وهو الجزاء الأول فعطف على المرجع الآخر بعد البعث - انتهى.
ولما كان الغالب على أكثر الناس الجمود كرر النداء لهم مبالغة في اللطف بهم إثر الترجية والتخويف فقال:
﴿يا بني إسرائيل﴾ أي الذي أكرمته وأكرمت ذريته من بعده بأنواع الكرامة
﴿اذكروا نعمتي﴾ وفخم أمرها بقوله:
﴿التي أنعمت عليكم﴾ أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل وغير ذلك
﴿وإني فضلتكم﴾ والتفضيل الزيادة من خطوة جانب القرب والرفعة فيما يقبل الزيادة والنقصان منه - قاله الحرالي.
﴿على العالمين﴾ وهم من كان قد برز الوجود في ذلك الزمان بالتخصيص
345
بذلك دونهم، ولا يدخل في هذا من لم يكن برز إلى الوجود في ذلك الزمان كما يأتي تحقيقه عن الحرالي قريباً ومما يوجب القطع به قوله تعالى لنا:
﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران: ١١٠].
ولما ذكرهم بتخصيصهم بالكرامة ونهاهم عن المخالفة وكانت المخالفة مع عظيم النعمة أقبح وأشد وأفحش حذّرهم يوماً لا ينجي أحداً فيه إلا تقواه فقال. وقال الحرالي: لما دعاهم إلى الوفاء بالعهد تنبيهاً لهمة من له فضل باطن يرجع إلى فضائل النفس فأجاب من وفق وتمادى على حاله من خذل ثنى الخطاب لهم بالتنبيه على النعمة الظاهرة ليتنبه لذلك من يخاف تغيير النعمة الظاهرة حين لم يخف السقوط عن رتبة الفضيلة في الخطاب فذكرهم بالنعمة والتفضيل الذي فضلهم به على العالمين وهم
346
من ظهرت أعلام وجودهم في زمانهم، وكذلك كل تفضيل يقع في القرآن والسنة، وإنما العالم من شمله الوجود لا ما أحاط به العلم بعد، لأن ذلك لم يرفع في الشهود علم وجوده؛ وفيه إشعار بأنهم كما فضلوهم على عالمي زمانهم فليس ذلك بمقصور عليهم بل كذلك يفضل الله العرب في زمان نبوتها على بني إسرائيل وعلى جميع الموجودين في زمانهم، وحيث انتهى الخطاب إلى تذكر ظاهر النعمة بعد التذكير بباطن الفضيلة لم يبق وراء ذلك إلا التهديد بوعيد الآخرة عطفاً على تهديد تقتضيه الأفهام بتغيير ما بقي عليهم من النعمة في الدنيا؛ فكان
347
مفهوم الخطاب: فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصاب المؤاخذين في الدنيا - انتهى
﴿واتقوا﴾.
ولما كان المتقى إنما هو الجزاء الواقع في يوم القيامة حذفه وأقام اليوم مقامه تفخيماً له وتنبيهاً على أن عقابه لا يدفع كما يدفع ما في غيره بأنواع الحيل فقال:
﴿يوماً﴾ هو من العظمة بحيث
﴿لا تجزي﴾ أي تفضي وتغني فيه
﴿نفس﴾ أي نفس كانت
﴿عن نفس﴾
348
كذلك
﴿شيئاً﴾ من الجزاء.
قال الحرالي: والنفس لكل امرىء لزمته نفاسة على غيره، فهؤلاء الذين لا يغني بعضهم عن بعض بخلاف من آثر غيره وذهبت نفاسة نفسه، فإنه يغني عمن دونه بالشفاعة والإحسان في الدنيا والآخرة، وفيه إعلام بأن ضعة النفس مبدأ التوفيق ونفاستها مبدأ الخذلان
﴿أذلة على المؤمنين﴾ [المائدة: ٥٤] فذل العبد - بالضم - لله، وذِله - بالكسر - لعباد الله بشرى فوزه، وإعراضه عن ذكر الله وصعر خده للناس نذارة هلاكه - انتهى.
ولما كان الإجزاء قد يكون بنفس كون المجزىء موجوداً وهو بحيث يخشى أن يسعى في الفكاك بنوع حيلة فتحرك القلوب لإجابته وفك أسيره فيحمل ذلك من أسره على إطلاقه، وقد يحتال بالفعل في التوصل إلى فكه في خفية بسرقته أو فتح سجنه أو نحو ذلك، وكانت وجوه الإجزاء المشهورة ثلاثة عطفها على الإجزاء الأعم منها فقال:
349
﴿ولا يقبل منها﴾ أي النفس الأولى أو الثانية
﴿شفاعة﴾ أي لم يؤذن فيها وهي من الشفع وهو إرفاد الطالب بتثنية الرغبة له فيما رغب فيه ليصير كالإمام له في وجهة حاجته - قاله الحرالي
﴿ولا يؤخذ منها عدل﴾ تبذله غير الأعمال الصالحة، وهو ما يعدل الشيء ويكون معه كالعدلين المتكافئي القدر على الحمولة، فكأنّ العدل - بالكسر - في الشيء المحسوس، والعدل - بالفتح - في الشيء المعقول، وكذلك عادة العرب تفرق بين ما في الحس وما في المعنى بعلامة إعراب في ذات نفس الكلمة لا في آخرها - قاله الحرالي.
ولما كان عدم النصرة للجمع يستلزم عدمها للمفرد بطريق الأولى
350
جمع فقال:
﴿ولا هم ينصرون*﴾ أي يتجدد لهم نصر يوماً ما بمن ينقذهم قهراً كائناً من كان، والنصر تأييد المقاوم في الأمر بما هو أقوى من مقاومة وهما طرفان ليصير كالمتقدم له بحكم استقلاله فيما يتوقع عجز المنصور فيه - قاله الحرالي. فانتفى بذلك جميع وجوه الخلاص التي يطمع فيها الظالم في الدنيا.
351
قال الحرالي: ولما كانت أسباب النجاة للمرء بأحد ثلاث: إما شفاعة من فوقه في العلم والفضل، وإما نصرة من فوقه في الأيد والقوة، وإما فكاك من يده لنفسه إذ من هو مثله لا يغني وأحرى من هو دونه، استوفى الخطاب جميع الوجوه الثلاثة ليسد على ذي النفس المستمسك بنفاسته جميع الوجوه الثلاثة من الشفاعة والفدية والنصرة - انتهى.
ولما تقدم أنه فضلهم وعاهدهم وأن وفاءه بعهدهم مشروط بوفائهم بعهده ناسب تقديم الشفاعة ويأتي إن شاء الله تعالى في الآية
352
الثانية ما يتم به البيان، ولما وصف ذلك اليوم بأنه لا ينفع فيه حيلة لذي ملكة المتردي بالكبرياء المتجلل بالعظمة ذكرهم بما أنعم عليهم من إنجائه لهم بموسى وهارون عليهما السلام حيث شفعا عند الملك الذي كان استعبدهم وسامهم سوء العذاب، فلما لم يشفّعهما فيهم قاهراه فانتصرا عليه بأيد مليكهم واستنقذاهم منه بسطوة معبودهم. وقال الحرالي: ولما استوفى خطاب النداء لهم وجهي التذكير بأصل فضيلة النفس الباطنة بالوفاء وغرض النفس الظاهر في النعمة والرئاسة جاء ما بعد ذلك من تفاصيل النعم عطفاً من غير تجديد نداء إلى منتهى خاتمة الخطاب معهم حيث ثنى لهم الخطاب الأدنى بالتذكير بالنعمة ختماً لمتسق خطابه بما تضمنه تذكيرهم بتكرار قوله: وإذ وإذ، واحدة بعد أخرى إلى جملة منها، ولما ذكرهم بالنعمة الظاهرة فانتبه من تداركته الهداية وتمادى من استحق العقوبة ذكر أهل الاستحقاق بما عوقبوا به بما يستلزمه
353
معنى النجاة وبما فسره مما أخذوا به على ذنوب تشاكل ما هم عليه في معاندتهم القرآن، فحين لم ينفع فيهم التذكيران بالعهد والنعمة هددوا بتقريرهم على مواقع ما أصيبوا به من البلاء من عدوهم لما اقترفوه من ذنوبهم
﴿ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً﴾ [غافر: ٣٤] فكان في تكذيبهم بالرسالة الأولى وشكهم ما أصابهم من العقوبة من آل فرعون حتى أنقذهم الله بموسى عليه السلام فقال تعالى:
﴿وإذ﴾ أي واذكروا إذ
﴿نجيناكم﴾ وهو من التنجية وهي تكرار النجاة، والنجاة معناه رفع على النجوة وهو المرتفع من الأرض الذي هو مخلص مما ينال من الوهاد وخبث الأرض من هلاك بسيل ماء ونحوه {من
354
آل} آل الرجل من تبدو فيهم أحواله وأعماله وأفعاله حتى كأنهم هو في غيبه من معنى الآل الذي هو السراب الذي يظهر فيه ما بعد ويتراءى ما لم يكن يرى لولاه،
﴿فرعون﴾ اسم ملك مصر في الجاهلية، علم جنس لملوكها بمنزلة أسماء الأجناس في الحيوان وغيره - انتهى. والمراد بالآل فرعون وأتباعه فإن الآل يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه - قاله في القاموس، قال: ولا يستعمل إلاّ فيما فيه شرف غالباً ثم بين ما أنجاهم منه بقوله: {يسومونكم سوء
355
العذاب} سماه بذلك لأنه أشد البلاء على النفس لما فيه من استحقارها، من السوم وهو تعذيب بتهاون بالمعذب، والسوم ما يشتد، تنكر النفس له وتكرهها، ثم فسر هذا بقوله
﴿يذبحون﴾ من التذبيح وهو تكرار الذبح، والذبح قطع بالغ في العنق - قاله الحرالي.
ولما كان كل من ذبح الابن وحياة المرأة بغير رجل أفحش وكانت البنت إذا بقيت صارت امرأة عبر بالأبناء والنساء فقال
﴿أبناءكم﴾ أي سوقاً لكم مساق البهائم
﴿ويستحيون﴾ قال الحرالي: من الاستحياء وهو استبقاء الحياة
﴿نساءكم﴾ من معنى الاتخاذ للتأهل الملابس في معنى ما جرى منه اشتقاق الإنس والإنسان والنسوة باشتراكها في أحد الحروف الثلاثة من الهمزة أو الواو أو الياء مع اجتماعها في النون والسين - انتهى. ثم نبههم على ما فيه من العظم بقوله
﴿وفي ذلكم﴾ فأشار
356
بأداة البعد مقرونة بالميم
﴿بلاء﴾ أي اختبار
﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء
﴿عظيم*﴾ قال الحرالي: البلاء الاختبار هو إبداء خبرة الشيء بشدة ومحنة، وفيه إشعار باستحقاقهم ذلك واستصلاحهم بشدته دون ما هو أيسر منه، وذكره بالعظم لشياعه في الأجسام والأنفس والأرواح، وذكر معنى النجاة ثم فصله تفصيلاً لكيفيته بعد ذلك تعداداً لنعمة النجاة التي هي تلو رحمة الإنعام التي هي تلو رفعة التقدم بالعهد، فانتهى الخطاب نهايته في المعنى يعني فلما قررهم تعالى على ما اقترفوه قبل موسى عليه السلام حين أصابهم من آل فرعون ما أصابهم استجدّ لهم تذكيراً بنعمة نجاة من عقوبة متقدم أعمالهم - انتهى.
ولما كان ما فعل بهم في البحر إهلاكاً للرجال وإبقاء للنساء
357
طبق ما فعلوا ببني إسرائيل عقبه به فقال
﴿وإذ﴾ أي واذكروا إذ
﴿فرقنا﴾ من الفرق وهو إفراج الواحد لحكمة إظهار التقابل - قاله الحرالي. فصارت لكم مسالك على عدد أسباطكم
﴿بكم﴾ أي بسببكم عقب إخراجنا لكم من أسر القبط
﴿البحر﴾ قال الحرالي: هو المتسع الرحب البراح مما هو ظاهر كالماء، ومما هو باطن كالعلم الذي منه الحبر، تشاركا بحروف الاشتقاق في المعنى.
﴿فأنجيناكم﴾ من الإنجاء وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز - انتهى. ومن عجائب ذلك أنه كما كان الإنجاء منه كان به. قال الحرالي: وجعل البحر مفروقاً بهم كأنهم
358
سبب فرقة، فكأن نجاتهم هي السبب وضرب موسى عليه السلام بالعصاة هي الأمارة والعلامة التي انفلق البحر عندها بسببهم، وجعل النجاة من بلاء فرعون تنجية لما كان على تدريج، وجعل النجاة من البحر إنجاء لما كان وحياً في سرعة وقت - انتهى.
﴿وأغرقنا آل فرعون﴾ فيه وبه
﴿وأنتم تنظرون﴾ إسراعه إليهم في انطباقه عليهم، وهذا مثل ما خاض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح في ناحية البحرين أو انحسر له على اختلاف الروايتين، ومثل ما قطع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة في وقائع الفُرس عوماً بالخيول بجميع عساكره وكانوا زيادة على ثلاثين ألفاً لم يُفقد منهم أحد، وكان الفرس إذا تعب وثب فصار واقفاً على ظهر الماء كأنه على صخر، فإذا استراح عام.
قال الحرالي:
﴿وأغرقنا﴾ من الغرق وهو البلاغ في الشيء إلى غايته بحسبه، فإن كان في الهلاك فهو غاية وظهر معناه في الماء والبحر لبُعد قعره، وهو في الماء بمنزلة الخسف في الأرض، والنظر التحديق للصورة من غير تحقق ولا بصر - انتهى. فذكرهم سبحانه بنعمة الإنجاء منه
359
بالرحيل عنه أولاً، ثم بإغراقه الذي هو أكبر من ذلك ثانياً بما كان بعينه سبب سلامتهم واستمر يذكرهم بما تابع لهم من النعم حيث كانوا يستحقون النقم. قال الحرالي: وقررهم على نظرهم إليهم، وفيه إشعار بفقد بصرهم لضعف بصائرهم من حيث لم يقل: وأنتم تبصرون، ولذلك عادوا بعدها إلى أمثال ما كانوا فيه من الشك والإباء على أنبيائهم بعد ذلك - انتهى.
360
ولما كان فرق البحر للإبقاء البدني وكان إنزال الكتاب للإبقاء الديني عقبه به وكان الطبع السليم والمزاج المستقيم يقتضي إحسان العمل
360
زمن المواعدة واستعطاف المواعد والترفق له والتملق بما تحقق الرجاء في إنجاز وعده لا سيما بعد بليغ إحسانه بالإنجاء من العدو وإهلاكه نعى عليهم عملهم بخلاف ذلك بقوله:
﴿وإذ﴾. وقال الحرالي: لما ذكّرهم تعالى بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم وبالتفصيل الذي كان بادية أمرهم نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين الذي أعلاه مواعدة موسى عليه السلام ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم فقال: وإذ
﴿واعدنا﴾ من
361
الوعد وهو الترجية بالخير، ووعدنا من المواعدة وهي التقدم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه
﴿موسى﴾ كلمة معربة من لفظ العبراني بما تفسيره فيما يقال ماء وشجر، سمي به لما أودع فيه من التابوت المقذوف في اليم
﴿أربعين ليلة﴾ هي كمال وقت الليل والليل وقت انطماس المدركات الظاهرة - انتهى. وخص الليل بالذكر إشارة إلى أن ألذ المناجاة فيه وإلى أنه لا نوم في تلك المدة بل المناجاة عامة لليلها ونهارها، وانتصب أربعين بوقوعه موقع المفعول الثاني لوعدنا أي انقضاء أربعين أي الكلام أو إنزال التوراة عند انقضاء الأربعين وهي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقيل ذو الحجة وعشر من المحرم. قال الحرالي: وفيه إشعار بأن المناجاة إنما يتهيأ لها لميقات حبس النفس عما به قوامها وكمال ذلك إنما
362
هو الصوم وكمال العدد الذي هو طور مصير من حال إلى حال هو الأربعون، وذكر الميقات بالليالي يشعر أن مناجاته صباح من ظلمة الكون في حال خصوص الخلقة من حيث إن الظلمة آية على فوت مرام نور الحق والنهار آية على ظهور نور الحق وأول بادٍ بدأ من الحق للخلق كلامه لمصطفى من خلقه بغير واسطة وهو بعد في دنياه وفي أرضه التي كانت سجناً، فلما جاءها الحق لعبد من عبيده مناجياً له كما يأتيها يوم الجزاء بعد البعث صارت موطن رحمة وهدى ونور وهو مجيء الله سبحانه من سيناء المذكور في الكتاب الأول - انتهى. وهذا دون قصة المعراج التي كانت لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اختراق السماوات العلى إلى سدرة المنتهى إلى ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى وسمع الكلام من غير واسطة ورجع إلى بيته في ليلته وقد قطع من المسافات ما مسيرته خمسون ألف سنة كما سأبينه إن شاء الله تعالى في سورة السجدة.
ولما كانت الأنفس الأبيّة والهمم العلية تقتضي النفرة من الظالم والأنفة من كل ما ينسب إليه ويذكّر به وكانوا قد اتخذوا من آثار آل فرعون من حليهم ما دخلوا في رقه وعبوديته وكانت مشاهدتهم لما رأوا من الآيات مقتضية لغاية البعد من الكفر عبر عن مواقعتهم له
363
بثم فقال:
﴿ثم اتخذتم﴾ قال الحرالي: من الاتخاذ وهو افتعال مما منه المواخذة كأنه الوخذ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس، وفيه تكلف،
﴿العجل﴾ وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة وذكر الميقات وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل حسب ما تفهمه كلمة ثم، فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له ولا بقية نظر له من اتخاذ جسد عجل إلهاً بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب، ففيه تعجيب من أن موسى عليه السلام إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صوماً ونسكاً وتحنثاً وانقطاعاً إلى ربّه ثم يرونهم أنهم شهدوا الإله مصوراً محسوساً على أن موسى الذي ناجاه ربّه منع الرؤية فكيف
364
بهم وذلك هو ظلمهم، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس وهو تعالى قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه وإنما ناجاه بعد ميقاته، وهم يهمون في تألّه مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى
﴿من بعده﴾ أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى عليه السلام تقريراً لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى
365
من فوائد المناجاة، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ ليكون سابقه قبل ولاحقه بعد - انتهى.
واثبات الجار لأن اتخاذهم ذلك لم يستغرق زمان البعد
﴿وأنتم ظالمون﴾ فاعلون فعل من هو في أظلم الظلام بعد أنجاءكم موسى بالنور المبين.
ولما كان ذلك مقتضياً لأعظم السخط المقتضي من القادر للمعاجلة بالأخذ ذكرهم نعمة الإمهال بعده فقال مشيراً إلى عظم الذنب والنعمة بأداة التراخي:
﴿ثم عفونا﴾. وقال الحرالي: ثم تجاوز الخطاب ما أصابهم من العقوبة على اتخاذهم إلى ذكر العفو تقريراً على تكرر
366
تلافيهم حالاً بعد حال وقتاً بعد وقت، كلما أحدثوا خطيئة تداركهم منه عفو، وخصه باسم العفو لما ذكر ذنوبهم، لأن المغفور له لا يذكر ذنبه، فإن العفو رفع العقوبة دون رفع ذكرها، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة - انتهى.
﴿عنكم﴾ ولم نعاجلكم بالأخذ، وفي قوله تعالى
﴿من بعد ذلك﴾ أي الذنب العظيم إشعار بما أصابهم من العقوبة وخطاب لبقية المعفو عنهم، لينتهي الأمر فيهم إلى غاية يترجّى معها لبقيتهم الشكر - قاله الحرالي. وكان الإشعار من جهة أدخال من، على الظرفية، فاقتضى مهلة بين العفو والذنب لم يشملها العفو بل كان فيها عقوبة، كما اقتضى قوله: من بعده، مهلة بين اتخاذهم العجل وأول ذهاب موسى عليه السلام للمناجاة؛ ويجوز أن يكون أفرد حرف الخطاب إشارة إلى أنه لا يعلم جميع ما في دينهم من الشناعة إلا إمام أهل التوحيد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿لعلكم تشكرون *﴾ أي
367
ليكون حالكم حال من يتوقع منه الشكر.
قال الحرالي: وهو ظهور بركة الباطن على الظاهر، يقال: دابة شكور، إذا أنجح مأكلها بظهور سمنها؛ وفيه إشعار بأن منهم من يشكر وفيهم من يتمادى بما في ترجي كلمة لعل، من الإبهام المشعر بالقسمين والمهيىء لإمكان ظهور الفريقين حتى يظهر ذلك لميقاته، لأن كل ما كان في حق الخلق تردداً فهو من الله سبحانه إبهام لمعلومه فيهم؛ على ذلك تجري كلمة لعل وعسى ونحوها - انتهى.
368
ولما كان في ذلك دليل على سوء طباعهم وعكس مزاجهم وأنهم لا يحفظون عهداً ولا يستقيمون على نهج ذكرهم بنعمة الكتاب الذي من شأنه الضبط في جميع الأحوال بالرجوع إليه عند الضلال فقال: وقال الحرالي: لما ذكر تعالى أمر موسى عليه السلام وهو خاص أمرهم فصل لهم أمر ما جاء به موسى وما كان منهم فميا جاء به - انتهى. فقال
﴿وإذ اتينا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿موسى الكتاب﴾ أي الكامل في نفسه الجامع لكم على طريق الحق. ولما كان الكتاب مع كونه جامعاً لما أريد منه فارقاً بين الملبسات وصفه بقوله
﴿والفرقان﴾ أي المبين للأشياء على ما هي عليه من غير أن يدع في شيء لبساً. قال الحرالي: فقررهم على أمرين من الكتاب الذي فيه أحكام الأعمال والفرقان الذي فيه أمر العلم وهما مِلاك حال إقامة الدين بالعلم والعمل؛ والفرقان، فُعلان
369
لفظ مبالغة يفهم استغراقاً وامتلاء وعظماً فيما استعمل فيه وهو في هذا اللفظ من الفرق وهو إظهار ما ألبسته الحكمة الظاهرة للأعين بالتبيان لفرقان لبسه بما تسمعه الأذن، وجاء فيه بكلمة لعل، إشعاراً بالإبهام في أمرهم وتفرقتهم بين مثبت لحكم الكتاب عامل به عالم بطية الفرقان خبير به وبين تارك لحكم الكتاب غافل عن علم الفرقان - انتهى. فقال تعالى
﴿لعلكم تهتدون *﴾ أي ليكون حالكم حال من ترجى هدايته فيغلب حلمه جهله وعقله شهوته، ولهذا الختم تلاه بما هداهم به بما ألزمهم من
370
النقمة الزاجرة عن مثل ذلك من قتل الأنفس فقال:
﴿وإذ﴾.
قال الحرالي: لما تكمل إقبال الخطاب عليهم مرات بما تقدم من ندائهم والعطف على ما في صلته صرف الحق وجه الخطاب عنهم إلى ذكر خطاب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، فإن الله يخاطب العباد بإسقاط الواسطة بينه وبينهم ترفيعاً لأقدارهم لديه، فيرفع من شاء فيجيبه بما شاء، ويوقف من شاء فيجعل بينه وبينه في الخطاب واسطة من نبيه، فلما قررهم بما مضى من التذكير على ما واجههم به الحق تعالى ذكر في هذه الآية تقريرهم على ما خاطبهم به نبيهم حين أعرض الحق عن خطابهم
371
بما أصابوه من قبيح خطيئتهم - انتهى.
فقال
﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ العابد للعجل والساكت عنه، والقوم قال الحرالي اسم من لهم منة في القيام بما هم مذكورون به، ولذلك يقابل بلفظ النساء لضعفهن فيما يحاولنه؛ وفيه تخويف لهذه الأمة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في خطاب ربهم فيعرض عنهم - انتهى.
﴿يا قوم﴾ وأكد لعراقتهم في الجهل بعظيم ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى فقال
﴿إنكم ظلمتم أنفسكم﴾ ظلماً تستحقون به العقوبة
﴿باتخاذكم العجل﴾ أي الهاً من دون الله، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئاً ولمن هي أشرف منه، فأنزلتموها من رتبة عزها بخضوعها لمولاها الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه إلى ذلها بخضوعها لمن هو دونكم أنتم، هذا هو أسوأ الظلم، فإن المرء لا يصلح أن يتذلل ويتعبد لمثله فكيف
372
لمن دونه من حيوان! فكيف بما يشبه بالحيوان من جماد الذهب الذي هو من المعادن وهو أخفض المواليد رتبة حين لم تبلغها حياتها أن تبدو فوق الأرض كالنبات من النجم والشجر ولما فيه من الانتفاع بما يكون من الحب والثمر الذي يُنتفع به غذاء ودواء والمعادن لا ينتفع بها إلا آلات ونقوداً منفعتها إخراجها لا إثباتها - قاله الحرالي:
﴿فتوبوا إلى بارئكم﴾ الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب
373
مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة. وقال الحرالي: البارىء اسم قائم بمعنى البرء وهو إصلاح المواد للتصوير، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفاً وقميصاً، وكالذي يطحن القمح ويعجن الطين ليجعله خبزاً وفخاراً ونحو ذلك، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته - انتهى.
ولما كانت توبتهم بقتل أقاربهم وإن كانوا آباء أو أبناء عبر عنهم بالنفس لذلك وإشارة إلى خبث ما ارتكبوا فقال
﴿فاقتلوا أنفسكم﴾ أي التي أوجدها فقادتكم إلى غيره. قال الحرالي: والقتل قصل الحيوان قبل انتهاء قوته بمنزلة قصل الزرع قبل استحصاده - انتهى. ولما كان
374
ما أمرهم به أمراً لا يكاد يسمح به عظّم الرغبة فيه بقوله
﴿ذلكم﴾ أي الأمر العظيم وهو القتل
﴿خير لكم﴾ والخير قال الحرالي ما يصلح في الاختيار من محسوس الأشياء وما هو الأصلح وما هو الأخير، وربما استعملت منه خيرٌ محذوفة فيقال: هو خير في نفسه، أي مما يختار، ويقال: هذا خير من هذا، أي أخير منه أي أصلح في الاختيار، وكذلك لفظ شر في مقابله وهما مشعران بمتوسط من الأشياء لا يختار لأجل زيادة صلاح ولا يطرح لأجل أذى ولا مضرة
﴿عند﴾ كلمة تفهم اختصاص ما أضيفت إليه بوجه مّا عام وأخص منه لدن، فلدن خاصتها وعند عامتها، كالذي يملك الشيء فهو عنده وإن لم يكن في حضرته - انتهى.
375
﴿بارئكم﴾ أي القادر على إعدامكم كما قدر على إيجادكم، وفي التعبير بالبارىء ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان وترهيب بإيقاع الهوان.
ولما كان التقدير ففعلتم التوبة المأمور بها بأن قتل بعضكم بعضاً بتوفيقه لكم سبحانه مع ما فيه من عظم المشقة عطف عليه قوله
﴿فتاب عليكم﴾ أي مع عظم جرمكم، ولولا توبته عليكم ما تبتم؛ ثم علل ذلك بقوله
﴿إنه﴾ أي لأنه
﴿هو التواب الرحيم﴾ أي ما زال هذا صفة له لا لاستحقاق منكم عليه قال الحرالي: وفي إظهار هو مفصولة من ضمير
376
وصلها إثبات معنى الرحمة لله ثبتاً لا يتبدل ولا يتغير إلا أنه من وراء غيب ما شاء الله من أدب وامتحان وعقاب، فلذلك ختمه باسمه الرحيم، لأن الختم أبدى إظهار للمعنى الأخفى من مضمون ما فيه الختم - انتهى.
ولما استتيبوا عن عبادة العجل التي تقيدوا فيها بالمحسوس الذي هو مثل في الغباوة طلبوا رؤية بارئهم بالحس على ما له من صفات الكمال التي تأبى الابتذال ناسين لجميع النعم والنقم مسرعين في الكفر الذي هو من شأن الحائر والحال أن الفرقان الذي لا يدع شبهة ولا يبقى حيرة قائم بين أيديهم، لأنهم من الجمود والوقوف مع الوهم والحس بمكان عظيم، فذكرهم سبحانه ذلك مسلياً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إبائهم للإيمان به بما فعلوا مع موسى عليه السلام وهو أحدهم
377
فقال
﴿وإذ قلتم﴾ أي بعد ما رأيتم من الآيات وشاهدتم من الأمور البينات
﴿يا موسى﴾ فدعوتموه باسمه جفاء وغلظة كما يدعو بعضكم بعضاً ولم تخصوه بما يدل على تعظيمه لما رأيتم من إكرام الله له وإكرامكم على يده
﴿لن﴾ وهي كلمة تفهم نفي معنى باطن كأنها لا أن، يُسِّر بالتخفيف لفظها - قاله الحرالي.
﴿نؤمن لك﴾ أي لأجل قولك. قال
378
الحرالي: وجاء باللام لأنهم قد كانوا آمنوا به فتوقفوا عن الإيمان له الذي يتعلق بأمور من تفاصيل ما يأتيهم به، فمن آمن لأحد فقد آمن بأمور لأجله، ومن آمن به فقد قَبِل أصل رسالته
﴿يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾ [التوبة: ٦١]
﴿حتى﴾ كلمة تفهم غاية محوطة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها مقابل معنى لكي
﴿نرى﴾ من الرؤية وهي اطلاع على باطن الشيء الذي أظهر منه مبصره الذي أظهره منه منظره، ومنه يقال في مطلع المنام: رؤيا، لأن ذوات المرئي في المنام هي أمثال باطنه في صورة المنظور إليه في اليقظة - انتهى.
﴿الله﴾ أي مع ما له من العظمة
﴿جهرة﴾ أي عياناً من غير خفاء ولا نوع لبس. قال الحرالي: من الجهر وهو الإعلان بالشيء إلى حد الشهرة
379
وبلاغه لمن لا يقصد في مقابلة السر المختص بمن يقصد به، وهذا المطلوب مما لا يليق بالجهر لتحقيق اختصاصه بمن يكشف له الحجاب من خاصة من يجوّزه القرب من خاصة من يقبل عليه النداء من خاصة من يقع عنه الإعراض، فكيف أن يطلب ذلك جهراً حتى يناله من هو في محل البعد والطرد! وفيه شهادة بتبلدهم عن موقع الرؤية، فإن موسى عليه السلام قال
﴿رب أرني﴾ [الأعراف: ١٤٣] وقال تعالى
﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة *﴾ [القيامة: ٢٢-٢٣] وقال عليه الصلاة والسلام:
«إنكم ترون ربكم» فالاسم المذكور لمعنى الرؤية إنما هو الرب لما في اسم الله تعالى من الغيب الذي لا يذكر لأجله إلا مع ما هو فوت لا مع ما هو في المعنى نيل، وذلك لسر من أسرار
380
العلم بمواقع معاني الأسماء الحسنى فيما يناسبها من ضروب الخطاب والأحوال والأعمال، وهو من أشرف العلم الذي يفهم به خطاب القرآن حتى يضاف لكل اسم ما هو أعلق في معناه وأولى به وإن كانت الأسماء كلها ترجع معاني بعضها لبعض،
﴿فأخذتكم﴾ من الأخذ وهو تناول الشيء بجملته بنوع بطش وقوة - انتهى. أي لقولكم هذا لما فيه من الفظاعة وانتهاك الحرمة،
﴿الصاعقة﴾ قيل: هي صيحة، وقيل: نار نزلت من السماء فأحرقتهم، ويؤيده قوله
﴿وأنتم تنظرون *﴾ أي تلك
381
الصاعقة فأماتتكم، لأنكم كنتم في طلبكم رؤيته على ضرب من حال عبدة العجل، فأماتكم كما أماتهم بالقتل.
ولما كان إحياؤهم من ذلك في الدار في غاية البعد وخرق العادة عبر عنه بأداة التراخي ومظهر العظمة فقال
﴿ثم بعثناكم﴾ أي بما لنا من العظمة بالإحياء. قال الحرالي: من البعث وهو الاستثارة من
382
غيب وخفاء، أشده البعث من القبور، ودونه البعث من النوم؛ قال: وتجاوز الخطاب ما كان من سبب بعثهم، وكذلك كل موضع يقع فيه ثم، ففيه خطاب متجاوز مديد الأمد كثير رتب العدد مفهوم لمن استوفى مقاصد ما وقعت كلمة ثم، بينه من الكلامين المتعاطفين؛ ففي معنى التجاوز من الخطاب سؤال موسى عليه السلام ربه في بعثهم حتى لا يكون ذلك فتنة على سائرهم - انتهى.
ولما كان ربما ظن أن البعث من غشى ونحوه حقق معناه مبيناً أنه لم يستغرق زمن البعد بقوله:
﴿من بعد موتكم﴾ أي هذا بتلك الصاعقة، وقال دالاً على أن البعث إلى هذه الدار لا يقطع ما بنيت عليه من التكليف لأنها دار الأكدار فلا بد من تصفية الأسرار فيها بالأعمال
383
والأذكار
﴿لعلكم تشكرون﴾ أي لتصير حالكم حال من يصح ترجي شكره لهذه النعمة العظيمة، وكل ما جاء من لعل، المعلل بها أفعال الرب تبارك وتعالى ينبغي أن تؤول بنحو هذا، فإن لعل، تقتضي الشك لأنها للطمع والإشفاق فيطمع في كون مدخولها ويشفق من أن لا يكون، وتارة يكون الشك للمخاطب وتارة يكون للمتكلم، ولو قيل: لتشكروا، لم يكن هناك شك - قاله الرماني في سورة يوسف عليه السلام.
وقال الحرالي: وفي لعل، إبهام معلومه فيهم بأن منهم من يشكر ومنهم من لا يشكر - انتهى. وسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى عن نص سيبويه في كتابه ما يؤيد ما ذكرته.
وفي هذه الآية وما تقدمها من آية
﴿واتقوا يوماً لا تجزي نفس﴾ تنبيه للعرب من غفلتهم في إنكار البعث وإرشاد إلى سؤال ممن يغرّهم من أهل الكتاب بأنهم أولى بالحق من المسلمين عن هذه القصة التي وقعت لأسلافهم من إحيائهم بعد موتهم، وكذا ما أتى في محاوراتهم من قصة
384
البقرة ونحوها مما فيه ذكر الإحياء في هذه الدار أو في القيامة. قال الحرالي: وفيه أي هذا الخطاب آية على البعث الآخر الذي وعد به جنس بني آدم كلهم فجأة صعق وسرعة بعث، فإن ما صح لأحدهم ولطائفة منهم أمكن عمومه في كافتهم - انتهى.
ولما ذكرت الصاعقة الناشئة غالباً من الغمام كان أنسب الأشياء إيلاءها ذكر تظليل الغمام وناسب التحذير من نقمة الإحراق بالصاعقة والتذكير بنعمة الإيجاد من الموت الإتباع بذكر التنعيم في الإبقاء بالصيانة عن حر الظاهر بالشمس والباطن بالجوع.
385
وقال الحرالي وعطف تعالى على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم وبعثوا ببعثهم، فذكر ظل الغمام وهو من أمر ما بعد البعث والأرزاق بغير كلفة وهو من حال ما بعد البعث وأفهم ذلك أموراً أخر في أحوالهم كما يقال إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة إلى شبه أحوال أهل الجنة في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم كل ذلك إنعاماً عليهم، ثم لم يزيدوا مع
385
ذلك إلا بعداً عن التبصرة في كل ما أبدي لهم من العجائب - حدث عن بني إسرائيل ولا حرج فقال:
﴿وظللنا﴾ من الظلة وهو وقاية مما ينزل من سماء الموقي و
﴿عليكم الغمام﴾ من الغم وهو ما يغم النور أي يغطيه -
386
انتهى. أي فعلنا ذلك لترفيه أجسامكم وترويح أرواحكم، وعن مجاهد أن الغمام أبرد من السحاب وأرق وأصفى
﴿وأنزلنا عليكم المن﴾ قال الحرالي: هو ما جاء بغير كلفة، الكمأة من المن - انتهى.
﴿والسلوى﴾ أي لطعامكم على أن المن من الغمام، وحشر السلوى إليهم بالريح المثيرة له فنظمها به على غاية التناسب. قال الحرالي: والسلوى اسم صنف من الطير يقال هو السماني أو غيره - انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف أنه غير السماني وأنهم خصوا به إيذاناً بقساوة قلوبهم.
وهذه الخارقة قد كان صحابة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غنيين عنها بما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما احتاجوا دعا بما عندهم من فضلات الزاد فيدعو، فيكثره الله حتى يكتفوا من عند آخرهم، وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه تمرات وأمره أن يجعلها في مزود وقال له: أنفق ولا تنثرها، فأكل منه سنين وأنفق منه أكثر من خمسين وسقاً. وبارك لآخر في قليل شعير وأمره أن لا يكيله، فلم يزل ينفق منه على نفسه
387
وامرأته وضيفه حتى كاله فنفي، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم» وكان نحو ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذا لأم مالك رضي الله عنها في عكة سمن لم تزل تقيم لها أدمها حتى عصرتها. ومثل ذلك كثير في دلائل النبوة للبيهقي وغيره. وقيل لكم
﴿وكلوا﴾ ودل على أنه أكثر من كفايتهم بقوله
﴿من طيبات﴾ جمع طيبة. قال الحرالي: والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيّبه من سوى الأكل له أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره، ومنه الطيب في المذاق وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه، وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث
388
ولا معاملة مع خلق - انتهى.
﴿ما رزقناكم﴾ أي على عظمتنا التي لا تضاهى.
ولما لم يرعوا هذه النعم أعرض عنهم للإيذان باستحقاق الغضب. وقال الحرالي: ثم أعرض بالخطاب عنهم وأقبل به على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه - انتهى. فقال
﴿وما﴾ أي فظلموا بأن كفروا هذه النعم كلها وما
﴿ظلمونا﴾ بشيء من ذلك
﴿ولكن كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿أنفسهم﴾ أي خاصة
﴿يظلمون *﴾ لأن ضرر ذلك مقصور عليهم. قال الحرالي: وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحواً مما
389
رأوا فينالهم نحو مما نالوه، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصوراً على ذكر الأولين فقط بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه - انتهى.
ولما كان كل من ظل الغمام ولزوم طعام واحد غير مألوف
390
لهم مع كونه نعمة دنيوية وكان المألوف أحب إلى النفوس تلاه بالتذكير بنعمة مألوفة من الاستظلال بالأبنية والأكل مما يشتهى مقرونة بنعمة دينية. وقال الحرالي: لما ذكر تعالى عظيم فضله عليهم في حال استحقاق عقوبتهم في تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وهو مبتدأ أمر تيههم حين أبوا أن يقاتلوا الجبارين نظم به آخر أمر تيههم بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام حين دخولهم مع يوشع عليه السلام وما أمروا به من دخول البلد المقدس متذللين بالسجود الذي هو أخص رتب العبادة وكمال عمل العامل ودنو من الحق - انتهى. فقال تعالى
﴿وإذ قلنا﴾ أي لكم
﴿ادخلوا هذه القرية﴾ إشارة إلى نعمة النصر. قال الحرالي: الدخول الولوج في الشيء بالكلية حساً بالجسم ومعنى بالنظر والرأي، والقرية من القرى وهو الجمع للمصالح التي بها يحصل قوام الدنيا لقرى أهل الدنيا والتي تجمع مصالح أهل الآخرة، لقرى أهل الآخرة، قال عليه السلام:
«أُمرت بقرية تأكل القرى» باستيطانها كأنها تستقري القرى تجمعها
391
إليها، وقد تناوبت الياء والهمزة والواو مع القاف والراء على عام هذا المعنى - انتهى. وناسب سياق النعم الدلالة على تعقيب نعمة الدخول بالفاء في قوله:
﴿فكلوا منها حيث شئتم﴾ وأتمّ النعمة بقوله
﴿رغداً﴾ موسعاً عليكم طيباً. قال الحرالي: وفيه أي هذا الخطاب تثنية في ذكر الأرض لما تقدم من نحوه لآدم في السماء، فكان تبديلهم لذلك عن فسق لا عن نسيان كما كان أمر آدم عليه السلام، فكأنهم اقتطعوا عن سنته إلى حال الشيطان الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه، فتحقق ظلمهم حين لم يشبهوا آباءهم وأشبهوا عدو أبيهم - انتهى. وأمرهم بالشكر على نعم النصر والإيواء وإدرار الرزق بأمر يسير
392
من القول والفعل، وقدم الدخول السار للنفوس والسجود الذي هو أقرب مقرب للحضرة الشريفة لأنه في سياق عد النعم على القول المشعر بالذنب فقال
﴿وادخلوا الباب﴾ وهو كما قال الحرالي أول مستفتح الأشياء
393
والأمور المستغلقة حساً أو معنى حال كونكم
﴿سجداً وقولوا﴾ جامعين إلى ندم القلب وخضوع الجوارح الاستغفار باللسان، ولما كان القول تحكى به الجمل فتكون مفعولاً بها ويعمل في المفرد إذا كان مصدراً أو صفة لمصدر كقلت حقاً أو معبراً به عن جملة كقلت شعراً وما كان على غير هذا كان إسناداً لفظياً لا فائدة فيه غير مجرد الامتثال رفع قوله
﴿حطة﴾ أي عظيمة لذنوبنا.
قال الكشاف: والأصل النصب أي حط عنا ذنوبنا إلاّ أنه رفع ليعطي معنى الثبات. قال الحرالي: من الحط وهو
394
وضع الحمل الثقيل بمُنّة وجمام قوة يكون في الجسم، والمعنى أمروا بقول ما يحط عنهم ذنوبهم التي عوّقتهم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع من معه من المهاجرين والأنصار بشعب من الشعاب متردداً بين الحرمين الشريفين - يعني في عمرة الحديبية - فقال قولوا:
«لا إله إلاّ الله» وعند ذلك دخول الشعب الذي هو باب المدخل من نجد الأرض إلى سهلها
«فقالوها، فقال: والذي نفسي بيده! إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوها فبدلوها» انتهى. وعبر بنون العظمة في قوله
﴿نغفر لكم﴾ إشارة إلى أنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم كاتخاذ العجل إذا جُبّ بالتوبة، وفي قراءة من قرأ بالتحتانية والفوقانية مبنياً للمجهول إشارة إلى تحقير الذنوب إذا أراد غفرانها بحيث إنه بأدنى أمر وأدق إشارة بمحوها وهي أقل من أن يباشرها بنفسه المقدسة، كل ذلك استعطاف إلى التوبة.. والغفر
395
قال الحرالي: ستر الذنب أن يظهر منه أثر على المذنب لا عقوبة ولا ذكر - ثم قال: ففي قراءة
﴿نغفر﴾ تول من الحق ومن هو من حزبه من الملائكة والرسل، وفي قراءة: تغفر، إبلاغ أمر خطابهم بما يفهمه التأنيث من نزول القدر، وفي قراءة الياء توسط بين طرفي ما يفهمه علو قراءة النون ونزول قراءة التاء، ففي ذلك بجملته إشعار بأن خطاياهم كانت في كل رتبة مما يرجع إلى عبادة ربهم وأحوال أنفسهم ومعاملتهم مع غيرهم من أنبيائهم وأمثالهم حتى جمعت خطاياهم جميع جهات الخطايا الثلاث، فكأنهم ثلاثة أصناف: صنف بدلوا، وصنف اقتصدوا، وصنف أحسنوا فيزيدهم الله ما لا يسعه القول و
﴿هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان﴾ [الرحمن: ٦٠] انتهى. ولما كان السياق هنا لتعداد النعم حسن أن يعبر عن ذنوبهم بجمع الكثرة فقال
﴿خطاياكم﴾ إشارة إلى أنهم أصروا عليها
396
بحيث كادوا أن يجعلوا بإزاء كل نعمة ذنباً، والخطايا جمع خطيئة من الخطأ وهو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو وَدِّ أن لا يخطىء - هكذا قال الحرالي، والظاهر أن المراد هنا ما كان عن عمد كائناً ما كان، لأن ذلك أولى بسياق الامتنان والعقوبة بالعصيان.
قال في القاموس: والخطيئة الذنب أو ما تعمد منه والخطأ ما لم يتعمد، جمعه خطايا، وقرىء شاذاً: خطيئاتكم، بالجمع السالم الدال على القلة إشارة إلى أنّها وإن تكاثرت فهي في جنب عفوه قليل، وهذا بخلاف الأعراف فإن السياق هناك لبيان إسراعهم في الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وناسب عدّ النعم العطف على ما تقدم منها بقوله:
﴿وسنزيد المحسنين *﴾ أي بعد غفران ذنوبهم. قال الحرالي: جمع محسن من الإحسان
397
وهو البلوغ إلى الغاية في حسن العمل، فيكون مع الخلق رؤية المرء نفسه في غيره فيوصل له من البر ما يجب أن يفعل معه، ورؤية العبد ربّه في عبادته، فالإحسان فيما بين العبد وربّه أن يغيب عن نفسه ويرى ربه، والإحسان فيما بين العبد وغيره أن يغيب عن غيره ويرى نفسه، فمن رأى نفسه في حاجة الغير ولم ير نفسه في عبادة الرب فهو محسن، وذلك بلوغ في الطرفين إلى غاية الحسن في العمل بمنزلة الحسن في الصورة - انتهى.
ولمّا كان هذا التصريح بالترغيب المتضمن للتلويح بالترهيب مقتضياً للعاقل المبادرة إلى الطاعة بين أنه تسبب عنه أن بعضهم عصوا وكفروا هذه النعمة العظيمة ولم يقتصروا على ترك هذا الأمر بل بدلوه بدخولهم كما في الحديث
«يزحفون على أستاههم قائلين: حبة في شعرة» أي جنس الحب في جنس الشعرة أي في الغرائر مطلوبنا لا الحطة وهي غفران
398
الذنوب. قال الحرالي: أمروا بالإخلاص لله نظراً إلى حياة قلوبهم فطلبوا الحنطة نظراً إلى حياة جسومهم فقال تعالى
﴿فبدل﴾ من التبديل وهو تعويض شيء مكان شيء - انتهى.
﴿الذين ظلموا﴾ وأسقط: منهم، لما يأتي في الأعراف
﴿قولاً﴾ أي مكان القول الذي أمروا به.
ولما كان التبديل وإن كان يفهم التغيير لكنه يصدق بأدنى تغيير ولو أنه في اللفظ وإن اتّحد المعنى بيّن أنه مضاد له بحيث لا يمكن اجتماعهما بقوله:
﴿غير الذي قيل لهم﴾ فإن غيراً كما قال الحرالي
399
كلمة تفهم انتفاء وإثبات ضد ما انتفى، وقال: ذكر تعالى عدولهم عن كل ذلك واشتغالهم ببطونهم وعاجل دنياهم فطلبوا طعام بطونهم التي قد فرغ منها التقدير وأظهر لهم الغناء عنها في حال التيه بإنزال المن والسلوى إظهاراً لبلادة طباعهم وغلبة حب العاجلة عليهم فبدلوا كلمة التوحيد وهي لا إله إلاّ الله وهي الحطة بطلب الحنطة
﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾
400
[المائدة: ٦٦]
﴿ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ [الأعراف: ٩٦]
«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» انتهى. وبيّن أنه خصّ المبدلين بالعتاب نعمة منه مع أن له أن يعم فقال
﴿فأنزلنا﴾ أي بعظمتنا بسبب ذلك
﴿على الذين ظلموا﴾ أي خاصة
﴿رجزاً﴾ قال الحرالي: هو أشد العذاب، وما جره أيضاً يسمى رجزاً مما يجب
401
أن يزجر عنه والزجر كف البهائم عن عدواها - انتهى. ولما كان الإنزال مفهماً للسماء حققه تعظيماً له بقوله:
﴿من السماء بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا يفسقون *﴾ أي يجددون الخروج من الطاعة إلى المعصية في كل وقت. ففي إفهامه أنهم يعودون إلى الطاعة بعد الخروج منها وذلك مقتض لأن يكون يظلمون أشد منه كما يأتي. قال الحرالي: فبحق يجب على من دخل من باب جبل أو قرية أن يقول في وصيدها: لا إله إلاّ الله، ليحط عنه ماضي ذنوبه، فكأنّ ذكر الله في باب المدينة والشعب ذكاة لذلك المدخل، فمن لم يدخله مذكياً دخله فاسقاً
﴿لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ [الأنعام: ١٢١] فلذلك ما انختم ذكرهم في الآية بالفسق - انتهى.
402
ولما بين سبحانه نعمته عليهم بالإمكان من القرية بالنصر على أهلها والتمتع بمنافعها وختمه بتعذيبهم بما يميت أو يحرق وتبين من ذلك كله أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة كما سيأتي التصريح به من قول الله تعالى في قصة البقرة وأنها لا منفعة فيها اتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد ويحيي الأجساد فذكر انفجار الماء من الحجر الذي عمهم نفعه وأنقذهم من الموت تبعة ودلهم على التوحيد والرسالة أصله وفرعه بقدرة الصانع وعلمه جمعاً لهم بذلك بين نعمتي الدين والدنيا فقال تعالى
﴿وإذ استسقى﴾ أي طلب السقيا. قال الحرالي: والسقيا فعلى صيغة مبالغة فيما يحصل به الري من السقي والسقي إحياء موات
403
شأنه أن يطلب الإحياء حالاً أو مقالاً؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللهم اسق عبادك! ثم قال: وأحي بلدك الميت» انتهى.
﴿موسى لقومه﴾ أي لما خافوا الموت من العطش
﴿فقلنا﴾ أي بما لنا من العظمة حين خفيت عنهم
﴿اضرب﴾ قال الحرالي: من الضرب وهو وقع الشيء على الشيء بقوة
﴿بعصاك﴾ والعصا كأنها ما يكف به العاصي، وهو من ذوات الواو، والواو فيه إشعار بعلو كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية، كأن العصو أدب العصي، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا اشتقاق ثان، وعصى يعصي إذا خالف الأمر - انتهى.
﴿الحجر﴾ أي جنسه فضرب حجراً
﴿فانفجرت﴾ وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج عن محيط،
404
هذا خروج يحيي وذاك خروج يميت. قال الحرالي: الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه - انتهى. ولأن هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة، ولما لم يكن
﴿منه﴾ أي الحجر الذي ضربه
﴿اثنتا عشرة عيناً﴾ لكل سبط عين، والعين قال الحرالي هو باد نام قيم يبدو به غيره،
405
فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين، يقال إن العين مطر أيام لا يقلع وإنما هو مطر يغني وينجع، وما تبدو به الموزونات عين، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين، وما تنال به الأعيان من الحواس عين، والركية وهي بئر السقيا عين، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول: الركبة - بالباء يعني الموحدة - وإنما هي الركيّة - بالياء المشددة - كذا قال، وقد ذكر أهل اللغة عين الرُكبة؛ وعدّ في القاموس المعاني التي لهذا اللفظ نحو أربعين، منها نقرة الركبة
406
أي بالموحدة، ومنها مفجر ماء الركية بالتحتانية مشددة.
ولما توقع السامع إخبار المتكلم هل كانت الأعين موزعة بينهم معروفة أو ملبسة قال
﴿قد علم كل أناس﴾ أي منهم. قال الحرالي: وهو اسم جمع من الأنس - بالضم، كالناس اسم جمع من النوس، قال: فلم يسمهم باسم من أسماء الدين لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمّين بها من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع
﴿مشربهم﴾ مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب أو اسم محل يلزمه
407
التكرار عليه والتردد، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر، فكان فيها نقمة ورحمة؛ وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنياً في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر، وتمليك الماء من أعظم التمكين، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء ومنه كل حي وفيه كل مجعول ومصور - انتهى. يعني أن هذه الخارقة دون ما نبع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الماء من بين أصابعه، ودون ما نبع بوضع أصحابه سهماً من سهامه في بئر الحديبية وقد كانت لا ماء فيها، ونحو ذلك كثير.
ولما كان السياق للامتنان وكان الإيجاد لا تستلزم التحليل للتناول قال زيادة على ما في الأعراف ممتناً عليهم بنعمة الإحلال بعد الإيجاد على تقدير القول لأنه معلوم تقديره
﴿كلوا واشربوا من رزق الله﴾
408
أي الذي رزقكموه من له الكمال كله من غير كد ولا نصب. قال الحرالي: لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جرى العادة حكمته في الأرض فكان من غيب فأضيف ذكره لاسم الله الذي هو غيب {ولا
409
تعثوا} من العثو وهو أشد الفساد وكذلك العثي إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء، إن العثو إفساد أهل القوى بالسطوة والعثى إفساد أهل المكر بالحيلة - انتهى.
﴿في الأرض﴾ أي عامة، لأن من أفسد في شيء منها بالفعل فقد أفسد فيها كلها بالقوة. واتباع ما معناه الفساد قوله
﴿مفسدين﴾ دليل على أن المعنى ولا تسرعوا إلى فعل ما يكون فساداً قاصدين به الفساد، فإن العثي والعيث الإسراع في الفساد، لكن قد يقصد بصورة الفساد الخير فيكون صلاحاً في المعنى، كما فعل الخضر عليه السلام في السفينة والغلام، وليس المراد بالإسراع التقييد بل الإشارة إلى أنه لملاءمته للهوى لا يكون إلا كذلك، سيأتي له في سورة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى مزيد بيان. قال الحرالي: وفيه إشعار
410
بوقوع ذلك منهم، لأن في كل نهي إشعاراً بمخالفته، إلا ما شاء الله، وفي كل أمر إشعاراً بموافقته إلا ما شاء الله، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به لاكتفاء إجباره فيه طبعاً عن أمره، وما منع منه لا ينهى عنه لاكتفاء إجباره عن أمره، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده وهي مباني أجساد بني آدم فكيف بالمؤمنين منهم
411
فكيف بالأنبياء منهم - انتهى.
ولما امتنّ عليهم بهذه النعمة العظمة من أكل المن والسلوى وشرب هذا الماء الرباني بين أنهم كفروها بالتضجر منها وطلب غيرها وبالتيه كان قريباً منها بل كما أن هذه في غاية العلو كان مطلوبهم في غاية الدناءة والسفول فقال تعالى
﴿وإذ قلتم﴾ أي بعد هذه النعم كلها
﴿يا موسى﴾ منادين له باسمه من غير تعظيم
﴿لن نصبر﴾ أي طويلاً
﴿على طعام﴾ قال الحرالي: الطعام ما يقوت المتطعم ويصير جزاء منه
﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه *﴾ [عبس: ٢٤] الآية - انتهى.
﴿واحد﴾ أي لا يتبدل وإن كان متعدداً
412
وإن كان شريفاً لا تعب فيه
﴿فادع لنا﴾ قال الحرالي: من الدعاء وهو نداء لاقتضاء غلبة لما تدعو الحاجة إليه من القائم على الداعي بتذلل وافتقار وهو في مقابلة الأمر من الأعلى، لأنه اقتضاء لما لا تدعو إليه حاجة من الآمر لأن الآمر بالحقيقة إنما هو الغني لا المفتقر لما يقضيه - انتهى.
﴿ربك﴾ مضيفين لهذا الاسم إليه دون أنفسكم مع كثرة تجليه لكم بهذا الوصف الناظر إلى الإحسان
﴿يخرج لنا﴾ أي وإن كنت أنت غير ملتفت إلى ذلك
﴿مما تنبت﴾ من الإنبات وهو التغذية والتنمية - قاله الحرالي.
﴿الأرض﴾ ثم بينوا ما أرادوا بقولهم
﴿من بقلها﴾ أي
413
خضرها. قال الحرالي: البقل ما يكثر به الأدم، والأدم الأشياء الدسمة فما يصلح معها من نجم الأرض فهو بقل - انتهى.
﴿وقثائها وفومها﴾ أي الحنطة. وقال الحرالي: يقال هو الحب الذي يخبز - انتهى.
﴿وعدسها وبصلها﴾ فكأنه قيل إن هذا العجب منهم فما قال؟ فقيل قال
﴿قال﴾ منكراً عليهم
﴿أتستبدلون﴾ أي أتأخذون
﴿الذي هو أدنى﴾ أي منزلة
﴿بالذي هو خير﴾ أي بدله. فالباء داخلة هنا على المتروك وهذه المادة أعني الباء والدال المهملة واللام بهذا الترتيب لها استعمالات كثيرة يختلف معناها معها فيشكل فهمها بسبب ذلك، فإنه قد يذكر معها المتقابلان فقط، وقد يذكر معها غيرها، وقد لا يكون كذلك، وقد يكون ذلك مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء، وقد لا يكون كذلك، وقد يذكران مع التبديل والإبدال، وتارة تكون الباء داخلة على المتروك، وتارة على المأخوذ، وقد يعدي الفعل بنفسه إلى المفعولين، وتارة يقتصر به على مفعول واحد؛ ولبعض الاستعمالات
414
معنى غير معنى الآخر وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في سورة سبأ فكأنه قيل: فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل: نعم، قال
﴿اهبطوا مصراً﴾ أي من الأمصار، قال الحرالي: المصر هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا الذي يجمع هذه المطالب التي طلبوها لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها، ومنه سميت مصر لجماع أمر ما في الدنيا فيها
415
وغرابة سقياها، وإن وافق ذلك ما يقال إنها سميت مصر باسم رجل فالوفاق في حكمه الله، لأن كل دقيق وجليل فيها جارٍ بعلم الله وحكمته حيث كانت من وراء حجاب يخفيها أو ظاهرة بادية لأهل النظر والاستبصار - انتهى.
﴿فإن لكم﴾ أي فيه
﴿ما سألتم﴾ وينقطع عنكم المن والسلوى، والسؤال قال الحرالي طلب ما تدعو إليه الحاجة وتقع به الكفاية، قال: وذكر تعالى أن مطلبهم إنما يجدونه في الأمصار التي أقر فيها حكمته لا في المفاوز التي تظهر فيها كلمته، ولذلك كثيراً ما تنخرق العدة لأولياء هذه الأمة في المفاوز وقل ما تنخرق في الأمصار والقرى، لما في هذه الآية مضمونة، ولذلك حرص السالكون على السياحة والانقطاع عن العمائر، لما يجدون في ذلك من روح رزق الله عن كلمته دون كلفة حكمته.
ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السلام ما كان من نبأهم مع يوشع
416
عليه السلام بعده نظم في هذه الآية بخطاب موسى عليه السلام ما كان منهم بعد يوشع عليه السلام إلى آخر اختلال أمرهم وانقلاب أحوالهم من حسن المظاهرة لنبيهم إلى حال الاعتداء والقتل لأنبيائهم عليهم السلام، وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم إلا لأجل إيثار الدنيا ورئاستها ومالها على الآخرة إيثاراً للعاجلة على الآجلة، وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم؛ ولذلك انتظم بها الآية الجامعة وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفاً إن شاء الله تعالى - انتهى. ولما كان التقدير ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر فكان ما وعدوا به عطف عليه قوله
﴿وضربت عليهم الذلة﴾ ملازمة لهم محيطة بهم من جميع الجوانب كما يحيط البيت المضروب على الإنسان به، وهي اسم من الذل وهو صغار في النفس عن قهر وغلبة. قال الحرالي: وفي
417
عطفه إفهام لمجاوزة أنباء عديدة غايتها في الظهور ما عطف عليها كأن الخطاب يفهم فأنزلناهم حيث أنزلوا أنفسهم ومنعناهم ما لا يليق عن حاله مثل حالهم فظهر منهم وجوه من الفساد، فسلط عليهم العدو فاستأصل منهم من شاء الله ومن بقي منهم أخذوا بأنواع من الهوان - انتهى.
﴿والمسكنة﴾ أي كذلك مناسبة لخساسة ما سألوه.
قال الحرالي: وهي ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة سكوناً وانكفاف حراك - انتهى.
﴿وباؤوا﴾ أي رجعوا وكانوا أحقاء
﴿بغضب﴾
418
من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له. قال الحرالي: معناه إجماع القاهر على الانتقام في حق مراغمة - انتهى.
﴿من الله﴾ الملك الأعظم لجرأتهم على هذا المقام الأعظم مرة بعد مرة وكرة إثر كرة. قال الحرالي: وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدنيا منهم من مثل أحوالهم باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام والمتشابه بالأعلى من الطيب والأطيب المأخوذ عفواً واقتناعاً - انتهى.
ثم ذكر سبب هذا وقال الحرالي: ولما كان الغضب إنما يكون على من راغم الجليل في معصيته ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم ذكر فعلهم - انتهى. فقال
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي حل بهم من الغضب وما معه، ويجوز أن يرجع إلى اهتمامهم بأمر معاشهم وعنايتهم بأحوال شهواتهم على هذا النحو الأخس الأدنى
﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم
419
﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يكفرون﴾ أي مجددين مستمرين
﴿بآيات الله﴾ أي يسترون إذعانهم وتصديقهم بسبب آيات الله الذي له جميع العظمة كتماناً عمن لا يعلم الآيات وتلبيساً، وكان تجديد ذلك والإصرار عليه ديدناً لهم وخلقاً قائماً بهم. قال الحرالي: والكفر بالآيات أبعد الرتب من الإيمان، لأنه أدنى من الكفر بالله، لأن الكفر بالله كفر بغيب والكفر بآيات الله كفر بشهادة
﴿والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة *﴾ [البلد: ١٩] انتهى.
﴿ويقتلون النبيين﴾ أي كان ذلك جبلة لهم وطبعاً. قال الحرالي: وهذا جمع نبيء وهو من النبأ وهو الإخبار عن غيب عجز عنه المخبر به من حيث أخبر - انتهى.
420
ولما كان النبي معصوماً ديناً ودنيا قال
﴿بغير الحق﴾ أي الكامل تنبيهاً على أن قتله لا يقع إلا كذلك، لكن هذا لا ينفي أن يكون ثم شبهة كظن التنبؤ فالذم على الإقدام على إراقة الدم بدون الوضوح التام وفاقاً لنهي.
﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾ [الإسراء: ٣٣] فهو أخف مما في آل عمران. ثم علل هذه الجرأة فقال
﴿ذلك﴾ أي الأمر الكبير من الكفر والقتل الذي هو من أعظم الكفر
﴿بما عصوا﴾ وهو من العصيان. قال الحرالي: وهو مخالفة الأمر - انتهى.
﴿وكانوا﴾ أي جبلة وغريزة
﴿يعتدون﴾ أي يتجاوزون الحدود على سبيل التجدد والاستمرار، فإن من فعل ذلك مرد عليه ومرن فاجترأ على العظائم. قال الحرالي:
421
وهو أي الاعتداء تكلف العداء، والعداء مجاوزة الحد، فيما يفسح فيه إلى حد لا عذر لمجاوزه من حيث فسح له سعة ما فسح وحُدّ له ما حُدّ - انتهى. وقد جاء نظم هذه الآيات من قصصهم على غير ترتيبها في الوجود، وفي التوراة لما ذكرت من هذه المناسبات العظيمة والله أعلم شرح أمرها من التوراة قال في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته في نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليها آثار قراءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى كما مضى مع شخص منهم وكان هو القارىء ما نصه: وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون عليهما السلام وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب ظعنوا من رَعَمْسِيس - وفي نسخة: من عين شمس - في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول من غد الفِصح - وفي نسخة:
422
بعد الفصح بيوم - والمراد بالشهر الأول عندهم نيسان وهو شهر الفريك، وخرج بنو إسرائيل بقوة عظيمة تجاه جميع أهل مصر كانوا مشاغيل بدفن الأبكار الذين قتلهم الرب، وبما انتقم الرب من آلهتهم، فظعن بنو إسرائيل من رعمسيس - وفي نسخة: عين شمس - ونزلوا ساحوت وارتحلوا من ساحوت ونزلوا آثمْ - وفي نسخة: آثام - التي في أقاصى المفازة وظعنوا من آثام ونزلوا في فوهة الخندق الذي في جبال بَعَلصَفُون ونزلوا بإزاء مغدول - وفي نسخة: مجدول - وارتحلوا من فوهة الخندق وجازوا في وسط البحر إلى القفر - وفي نسخة: بين البحر والقفر - وساروا مسيرة ثلاثة أيام في برية اثام ونزلوا مرراً - وفي نسخة: المُرَيرة - وأتوا آليم وفي نسخة: ونزلوا في المراير وارتحلوا من
423
المراير وصاروا إلى آليم - وكان في آليم اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة ونزلوا هناك على الماء، وارتحلوا من آليم ونزلوا ساحل بحر سوف - وفي نسخة: على البحر الأحمر - وظعنوا من شاطىء بحر سوف - وفي نسخة: من البحر الأحمر - وفي أخرى: بحر القلزم - ونزلوا برية سينين وارتحلوا من قفر سينين ونزلوا ذِفقاً وظعنوا من ذِقفاً ونزلوا آلوش وارتحلوا من آلوش ونزلوا رفيدين - وفي نسخة: رفيديم - ولم يكن هناك ماء يشرب الشعب وظعنوا من رفيدين - وفي نسخة: رفيديم - فنزلوا برية - وفي نسخة: قفر سيناء - وظعنوا من قفر سيناء ونزلوا الموضع المعروف بقبور الشهوة وارتحلوا من مقبرة الشهوة - وفي نسخة: قفر قبور الشهوة - فنزلوا حصروث وظعنوا من حصروث فنزلوا رثما -
424
وفي نسخة: الرامة - وارتحلوا من رثما - وفي نسخة: الرامة - فنزلوا رِمُون فيرص.
وقال في السفر الثاني عند ذكر الإنعام عليهم باستنقاذهم من أيدي القبط بتلك الآيات العظيمة التي ستشرح إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف فقال موسى للشعب: اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق، لأن الرب أخرجكم من ههنا بيد منيعة فلا يؤكل الخمير في هذا اليوم وهو ذا أنتم خارجون في شهر الفقاخ - وفي نسخة: الفريك - فإذا أدخلكم الرب إلى أرض الكنعانيين والحيثانيين والأمورانيين والجاوانيين واليابسانيين والفرزانيين كالذي أقسم لآبائكم أن يعطيكم الأرض التي تغل السمن والعسل، تعملون هذا العمل في هذا الشهر، كلوا الفطير سبعة أيام ولا يوجدن الخمير عندكم؛ وتعلمون أبناءكم في ذلك اليوم وتقولون لهم إن الله فعل بنا هذا الفعل إذ أخرجنا من أرض مصر، وليكن ذلك آية على يدك وعلامة بين عينيك لتكون سنة الرب وشريعته على لسانك لأن الرب أخرجك من مصر بيد عزيزة منيعة واحتفظ بهذا وهذه الوصية من
425
سنة إلى سنة في وقته، وإذا أدخلك الرب إلى أرض الكنعانيين التي أقسم لك ولآبائك أن يعطيكها فميز كل ذكر بفتح الرحم للرب وكل ذكر من البهائم التي تكون لك يفتح الرحم يكون خاصة للرب تفتديه بحمل، فإن لم تفتده فاذبحه، وتفتدي كل بكر ذكر من أولادك، فإذا سألك ابنك غداً وقال لك: ما هذا العمل؟ فقل: إن الرب أخرجنا من أرض مصر من العبودية والرق بيد منيعة عزيزة، لأن فرعون قسا وفظَّ وأبى أن يرسلنا، فقتل الرب جميع أبكار أرض مصر من بكر البشر إلى بكر البهائم، فمن أجل ذلك أذبح للرب كل ذكر بفتح الرحم وأفتدي جميع أبكار ولدي، فيكون ذلك علامة على يدك وذكراً بين عينيك، لأن الرب أخرجك من مصر بيد منيعة عزيزة.
فلما أرسل فرعون الشعب وانطلقوا لم يرسلهم الله تعالى في طريق أرض فلسطين، لأنه كان قريباً ولأن الله قال: لعل الشعب إذا ما عاينوا القتال أن يخافوا ويرهبوا فيرجعوا إلى مصر، فساس الله الشعب في طريق برية بحر سوف، وخرج بنو إسرائيل من أرض مصر وهم متسلحون، وحمل موسى عليه السلام عظام يوسف عليه السلام معه، لأنه أقسم على
426
بني إسرائيل بأيمان وقال: إن الله سيذكركم فأصعدوا عظامي معكم من ههنا، فظعنوا من ساحوت ونزلوا آثام التي في أقطار البرية، وكان الرب يسير أمامهم بالنهار في عمود السحاب ليسكنهم في الطريق وبالليل في عمود نار ليضيء لهم وكان يسير أمامهم بالليل والنهار، ولم يكن عمود الغمام يزول بالنهار وعمود النار بالليل من بين يدي الشعب، وكلم الرب موسى وقال له: قل لآل إسرائيل أن يرجعوا فينزلوا على شاطىء الخندق وما بين مغرول والبحر أمام بعلصفون، انزلوا هناك إزاء البحر حتى يقول فرعون إن بني إسرائيل غرباء في الأرض، فيظن أنهم قد تاهوا في القفر وأن البر قد انغلق عليهم؛ وقال الرب لموسى: أنا أقسي قلب فرعون فيسير في طلبكم فأمجد بفرعون وجميع جنوده، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب، ففعلوا كذلك؛ فأسف فرعون وعبيده لإرسال الشعب وندموا، فألجم خيله وسار في جميع شعبه وظعن في ستمائة ألف راكب مختارة وجميع مواكب المصريين أيضاً والرجال - وفي نسخة: والقواد - على جميعها، فسار المصريون في طلبهم فرهقوهم وهم حلول على المهرقان، فقرب فرعون ورفع بنو إسرائيل أبصارهم فرأوا المصريين وهم في
427
طلبهم فخافوا خوفاً شديداً، فصلى بنو إسرائيل بين يدي الرب وقالوا لموسى: ألقلة القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البرية؟ لم فعلت بنا هذا الفعل وأخرجتنا من مصر؟ أليس هكذا كنا نقول لك ونحن بمصر: دعنا نتعبد للمصريين كان خيراً لنا أن نتعبد للمصريين من الموت في هذا القفر؟ فقال موسى للشعب: لا خوف عليكم! انتظروا فأبصروا خلاص الرب إياكم في هذا اليوم، لأنكم عاينتم المصريين يومنا هذا، لا تعودون أن تعاينوهم أيضاً إلى الأبد، والرب يجاهد عنكم إذ أنتم في هدوء وطمأنينة؛ فصلى موسى بين يدي الرب فقال: مُر بني إسرائيل أن يظعنوا وأنت فارفع عصاك واضرب ماء البحر، فيسير آل إسرائيل في البحر في اليبس، وها أنا ذا أقسي قلوب المصريين وأغلظها ليتبعوهم، فأمجد بفرعون وبجميع جنوده وبمواكبه وفرسانه، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب إذا مجدت بفرعون وبجميع جنوده، فظعن ملك الله الذي كان يسير أمام عسكر بني إسرائيل فصار على ساقتهم، فاحتمل السحاب الذي كان أمامهم فوقف خلفهم ودخل بين عسكر المصريين ومحلة بني إسرائيل، وكان السحاب والحِنْدِس تلك الليلة بأسرها وكان الضياء والنور لبني إسرائيل تلك الليلة كلها، فلم يقدروا على الدنو إليهم تلك الليلة.
فرفع
428
موسى يده على البحر فزجر الرب البحر بريح سموم - وفي نسخة: قَبول عاصف - أليل أجمع، فصير ماء البحر في اليبس، وانقسم الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر في اليبس، فصارت المياه كالسور بين ميامنهم ومياسرهم، فسار المصريون فدخلوا في طلبهم فصار خيل فرعون وجميع مواكبه في البحر، فلما كان عند حريم الغداة تراءى الرب لعسكر المصريين في عمود نار ومزنة غمامة، فأرجف عسكر المصريين وأفتنه وربط مواكبهم وحبسها وجعلوهم يُعنقون بالسير عليها، فقال المصريون: سيروا بنا لنهرب بين يدي آل إسرائيل، لأن الرب حارب عنهم بمصر، فقال الرب لموسى: ابسط يدك على المهرقان فتؤول المياه على المصريين فتطفح على مواكبهم وفرسانهم، فرفع يده على البحر، فرجع البحر عند وقت الغداة إلى موضعه والمصريون جعلوا يهربون إزاءه، فعذب الرب المصريين في البحر وأكذبهم، فجرت المياه وطفت على المواكب والفرسان وعلى جميع جنود فرعون الذين دخلوا في البحر في طلبهم، ولم ينج منهم واحد، فخلص آل إسرائيل في ذلك اليوم من أيدي المصريين، فنظر بنو إسرائيل إلى المصريين موتى على شاطىء المهرقان، وعاين آل إسرائيل النقمة العظيمة التي أنزلها الله بالمصريين،
429
وخاف الشعب الرب وآمنوا به وصدقوا قول موسى عبده، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح وقالوا: نسبح الرب ذا الجلال الذي تعالى على المواكب وغرق فرسانها في البحر المنيع، والمحمود الرب الأزلي، فكان لي منجياً، هذا إلهنا فلنحمده ولنمجده، إله آبائنا فلنعظمه ولنجله، الرب ذو الملاحم، جبار اسمه، لأنه قذف بمواكب فرعون وجنوده في البحر وغرق جبابرة في بحر سوف وغطتهم الأمواج وهبطوا في القعر فرسبوا مثل الجنادل، يمينك يا رب بهية بالقوة، يمينك يا رب أهلكت أعداءك بعظم عزك، كبت شانئك أرسلت غضبك فأحرقهم كالسهم بريح وجهك، وأمرك جمدت المياه ووقف جريها كأنه الأطواد، ورسب الأغمار في قعر البحر كالرصاص في الماء المنيع؛ فمن مثلك ومن يفعل كأفعالك أيها البهي في قدسه المرهوب المحمود مظهر العجائب، سُسْتَ بنعمتك هذا الشعب الذي خلّصت، فبلغ ذلك الشعوب فارتجفوا وقلقوا وغشي الخوف والرعب سكان فلسطين، عند ذلك ذعر أشراف ادوم وغشى الرعدة والارتعاش رجال مؤاب وانكسر جميع سكان كنعان فانهزموا فلينزل بهم الخوف والقلق والرجفة بعظمة ذراعك، يغرقون كالجنادل حتى يجوز شعبك الذي خلّصت،
430
تقبل بهم فتقدسهم في جبل ميرانك، الرب يملك إلى أبد الآبدين؛ وظعن موسى ببني إسرائيل من بحر سوف، فخرجوا حتى انتهوا إلى برية أسود، ثم ساروا في البرية مسيرة ثلاثة أيام فلم يجدوا هناك ماء، ثم انتهوا إلى مورّث فلم يقدروا على أن يشربوا ماء مورث، لأنه كان مُرّاً فتذمر الشعب على موسى وقالوا له: ما الذي نشرب الآن؟ فصلى موسى بين يدي الرب، فأظهر الرب له عوداً فألقاه في الماء، فعذب الماء هناك، علمه السنن والأحكام، فأتوا حتى انتهوا إلى آليم وكان هناك اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة فنزلوا هناك على الماء، ثم ظعنوا من آليم فأتوا برية سينين التي بين آليم وسينين في خمسة عشر من الشهر الثاني من الزمان الذي خرجوا من مصر، فتذمر جميع جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون وقالوا لهما: قد كنا نحب أن نتوفى في أرض مصر إذ كنا جلوساً بين أيدينا مراجل اللحم وكبار الخبز ونفضل فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتقتلا جماعة بني إسرائيل بالجوع! فقال الرب لموسى: ها أنا ذا مهبط لكم الخبز من السماء فليخرج الشعب
431
فليلتقطوا طعام يوم بيوم لكي أمتحنهم هل يسيرون بوصاياي وسنني ويحفظونها أم لا، فإذا كان اليوم السادس فليعدوا فضلاً على ما يأتون به وليكن ذلك ضعف ما يلتقطون في كل يوم، فقال موسى وهارون لجميع بني إسرائيل عند الأصيل: تعلمون أن الرب أخرجكم من أرض مصر وبالغداة تعاينون مجد الرب، لأن تذمركم بلغ الرب، ونحن فمن نحن إذ تتذمرون علينا، وقال لهم موسى: إن الرب قد أعطاكم لحماً عند الأصيل لتأكلوا ورزقكم خبزاً بالغداة لتشبعوا، لأنه قد بلغ الرب تذمركم الذي تراطنون عليه، ونحن فمن نحن وليس إنما تتذمرون علينا بل على الرب، وقال لهارون: مر جميع جماعة بني إسرائيل أن يدنوا فيقفوا بين يدي الرب، فلما قال هارون ذلك لجميع جماعة بني إسرائيل التفتوا فإذا مجد الرب قد اعتلن في السحاب وقال الرب لموسى: قد بلغني تذمر بني إسرائيل فقل: عند مغارب الشمس تأكلون اللحم وبالغداة شرقاً تشبعون من الخبز فتعلمون أني أنا الرب إلهكم، فلما كان عند الأصيل صعدت السُماني فتغشت العسكر، وكان بالغداة ضبابة تقطر المن فأحاطت بالعسكر،
432
فارتفعت الضبابة فإذا على وجه الأرض دقيق يتقشر وكان شبه صفائح الجليد على الأرض، فقال موسى: هذا الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا، وهذا قول الرب الذي أمر به ليلتقط المرء منه على قدر قوته مكيالاً لكل نفس على عدد رؤوسكم ليأخذ المرء لكل من كان في خيمته، فصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى والتقطوا، فمنهم من أخذ كثيراً ومنهم من تناول قليلاً وكالوا ذلك، فلم يفضل الذي أخذ الكثير والذي أخذ القليل لم يعدمه، فقال لهم موسى: لا تبقين منه للغد شيئاً، فلم يطيعوا موسى فأفضل رهط منهم للغد، فدب فيه الدود وأنتن، فغضب موسى، فجعلوا يلتقطونه في كل غداة كل امرىء على قدر قوته، وكان إذا حميت عليه الشمس يميع، فلما كان اليوم السادس التقطوا من الخبز ضعفي ما كانوا يتناولون كل رجل مكيالين، فأتى جميع أشياخ الجماعة فأخبروا موسى، فقال لهم: هكذا قال الرب، إن السبت راحة ودعة وغداً يوم قدس الرب؛ وقال في موضع آخر: لا تعملوا فيه عملاً بل يكون سبتاً للرب في جميع مساكنكم، وكل ما أردتم أن تختبزوه فاخبزوه واطبخوا ما أردتم طبخه واحتفظوا بما تفضلون بارداً للغد، فأبقوا منه للغد كما أمر موسى، فلم ينتن ولم يدب فيه الدود فقال لهم موسى:
433
كلوه يومكم هذا، لأن اليوم يوم سبت للرب ولستم تقدرون عليه اليوم في الحقل، كونوا تلتقطونه ستة أيام واليوم السابع هو سبت لا يؤخذ فيه، فلما كان اليوم السابع خرج رهط من الشعب ليلتقطوا فلم يجدوا فقال الرب لموسى: حتى متى يأبوا أن يقبلوا وصاياي وسنني، فاستراح الشعب في اليوم السابع، فسماه بنو إسرائيل المن وهو كحبة الكزبرة وطعمه كشهد العسل.
وقال في السفر الرابع: والمن كان يشبه حبة الكزبرة وكان منظره أبيض كالمها، وكان الشعب يترددون ويلتقطونه ويطحنونه في الرحى ويهرسونه في المهراس ويطبخونه في القدور ويصيرون منه مليلاً ويصيّر طعمه مثل طعم الخبز الذي يعجن دقيقه بالزيت. رجع إلى الثاني قال: فأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة ولم يزالوا يأكلون المن حتى انتهوا إلى أقطار الأرض ذات السكنى وحتى انتهوا إلى أقطار أرض كنعان، وكان ذلك المكيال عشر جريب أي عشر ويبة، وإن جماعة بني إسرائيل ظعنوا من برية سينين في مظاعنهم كما أمر الرب فوردوا رفيدين ولم يكن للشعب ماء يشربون، فضج الشعب على موسى
434
وقالوا له: أعطنا ماء لنشرب، فقال: ما بالكم تضجون وكم تجربون الرب؟ واشتد عطش الشعب هناك فتذمّروا على موسى وقالوا له: لم أصعدتنا من أرض مصر لتقتلنا وأبناءنا ومواشينا بالعطش؟ فصلى موسى أمام الرب وقال: ما أصنع بهذا الشعب؟ إنهم كادوا أن يرجموني، فقال الرب لموسى: جُز قدام الشعب وانطلق ببعض أشياخ بني إسرائيل والعصا التي ضربت بها البحر ففلقته، خذها بيدك وانطلق وها أنا ذا واقفاً بين يديك على حجر الظِرّان بَحوْرِيب فاضرب عند ذلك الظران فيخرج الماء ويشرب الشعب، فصنع موسى هذا الصنيع بين أشياخ بني إسرائيل، فسمى ذلك الموضع التجريب والتذمر، لأن بني إسرائيل تنازعوا واصطخبوا ولأنهم جربوا الله وقالوا: هل الله بيننا أم لا؟ ولما كان في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من مصر انتهوا إلى برية سيناء إذ ظعنوا من رفيدين فأتوا برية سيناء وحل هناك إسرائيل قبالة الجبل، فصعد موسى إلى الجبل فدعاه الله من الجبل وقال: هكذا قل لآل يعقوب: قد رأيتم ما صنعت بالمصريين وحملتكم كأنكم على أجنحة النسور وأقبلت بكم إليّ، فإن أنتم الآن أطعتم قولي وحفظتم عهدي فأنتم أحبّ إليّ من
435
جميع شعوب الأرض، فأتى موسى فدعا بأشياخ الشعب فقص عليهم جميع هذه الآيات التي أمره بها الرب، فأجاب الشعب كلهم جميعاً وقالوا: نحن فاعلون جميع ما أمرنا به الرب، فرد موسى جواب الشعب على الرب فقال الرب لموسى: ها أنا ذا مناجيك في سحابة مظلمة لكي يسمع الشعب كلامي إذا كلمتك فيقبلوا كلامك ويصدقوك إلى الأبد، فقال الرب لموسى: انطلق إلى الشعب وطهرهم اليوم وغداً وليبيضوا ثيابهم ويرحضوها وليستعدوا في اليوم الثالث فناشد الشعب وتقدم إليهم وقل لهم: احذروا أن تصعدوا إلى الجبل ولا تقربوا إلى حافاته، ومن دنا من الجبل فليقتل ولا تصيبه أيدي الناس بل يرجم رجماً ويقذف به إلى أسفل به بهيمة كان أو إنساناً، فإذا صمتت أصوات القرون فأنتم في حل من الصعود إلى الجبل، فهبط موسى من الجبل إلى الشعب فطهر الشعب وبيضوا ثيابهم، وقال موسى للشعب: كونوا مستعدين في اليوم الثالث، لا تقتربن إلى امرأة، فلما كان في اليوم الثالث باكروا غلساً، فإذا هم بأصوات قرون وبروق وإذا هم أيضاً بسحابة عظيمة قد حلت على الجبل، فاشتد صوت القرن جداً واشتد فزع من كان في العسكر، وأخرج موسى الشعب إلى لقاء الرب من العسكر فقاموا في حافات الجبل وكان جبل سيناء يخرج منه القُتار والدخان، لأن الرب هبط عليه بالنار وارتفع غباره كغبار الأتون وتزلزل الجبل زلزلة شديدة واشتد صوت القرن، ودعا الرب
436
موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى وقال له الرب: انزل فأنشد بني إسرائيل وإنذرهم أن لا يتزحزحوا عند النظر بين يدي الرب فيهلك منهم كثير، وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح ويسمعون أصوات القرون ويرون الدخان يخرج من الجبل.
فرأى ذلك الشعب ففزعوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى: كلمنا أنت حتى نسمع ولا يكلمنا الله لكيلا نموت، فقال موسى: لا خوف عليكم، لأن الله إنما كلمكم ليمتحنكم ويجربكم لكي تخافوه وترهبوه ولا تخطئوا ولا تأثموا، فوقف الشعب من بعيد ودنا موسى من الضباب التي اعتلن الله فيها، وقال الرب لموسى: هكذا قل لآل إسرائيل: قد رأيتم وعلمتم أني كلمتكم من السماء، لا تتخذوا معي آلهة من ذهب ولا تعملوا لكم آلهة من فضة، ثم قال: ها أنا ذا مرسل إليك الملك بين يديك ليحفظك في سفرك ويوردك البلد الذي أتقنت - وفي نسخة: الذي هيأته - فاحذره واسمع منه، لأن اسمي حالُّ عليه، فإن أنت قبلت قوله وأطعت أمره وعملت بكل ما يأمرك به أبغض مبغضيك ويسير ملكي أمامك فيدخلك على الأمورانيين - وذكر بعدهم خمس فرق - فأقتلهم وأبيدهم وأرسل الرعب والخوف والجزع بين يديك وأبيد جميع الشعوب الذين تسير إليهم ولا أبيدهم في سنة واحدة لكي لا تخرب الأرض بل رويداً رويداً حتى تعتز - وفي نسخة: تكثر - فتصير ذا بطش فترث الأرض واجعل
437
تخومك من بحر سوف إلى فلسطين ومن البرية حتى النهر - وفسره في موضع آخر بالفرات - وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل أنت وهارون وناذاب وآبِيهُوا وسبعون رجلاً من أشياخ بني إسرائيل ويسجدون من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون ولا يصعد الشعب معه. فجاء موسى وقص على الشعب جميع عهود الرب وجميع أحكامه، فنادى الشعب كلهم بصوت عال وقالوا: نحن نفعل ما أمرنا الرب، وكتب موسى جميع كلام الرب، وغداً باكراً فبنى مذبحاً في حافة الجبل ونصب اثنتي عشرة نصبة لأسباط بني إسرائيل - ثم ذكر ذبائح وقرابين وغير ذلك ثم قال: ثم أخذ سفر العهد فتلاه على الشعب، فقالوا: نحن سامعون فاعلون ما أمرنا به الرب، فتناول موسى ذلك الدم - يعني دم القربان - فرشه على الشعب وقال: هذا دم العهد الذي عاهدكم في جميع هذه الأقاويل، وصعد موسى ومن ذكر معه ثم تركهم في مكان من الجبل ثم قال لهم امكثوا ههنا، فصعد موسى إلى الجبل وتغشاه السحاب وحل مجد الله على جبل سيناء وستره السحاب ستة أيام، ودعا الرب موسى في اليوم السابع من جوف السحاب ونظر إلى مجد الرب مثل نار تتوقد في رأس الجبل أمام جميع
438
بني إسرائيل، فدخل موسى في جوف السحاب وصعد إلى الجبل فمكث موسى في الجبل أربعين يوماً نهاراً وأربعين ليلة، وكلم الرب موسى وقال له: قل لبني إسرائيل: فليخصوا لي تزكية أموالهم، وخذ ذلك من كل رجل بلغ أشده - ثم ذكر الأموال التي تزكى إلى أن قال: ويتخذون لي مظهراً حتى أحل بينهم كل شيء أريكه شبه القبة وجميع متاعها كذلك فليصنعوه - ثم قال: واعمل على المثال الذي أريكه في الجبل وليتخذوا تابوتاً من خشب الشمشاد طوله ذراعان ونصف وسمكه ذراع ونصف، وصفّحه بصفائح الذهب الإبريز من داخله ومن خارجه، واتخذ له طوقاً من ذهب يحيط به، وضع له أربع حلقات من ذهب وسمرها في أربع زوايا التابوت حلقتين في شق واحد وحلقتين في الجانب الآخر، واتخذ أصطاراً من خشب الشمشاد وصفحها بالذهب، وصير الأصطار في الحلق في جانبي التابوت ليحل بها، وليكن الأصطار في حلق التابوت ولا ينزع منها، وتضع الشهادة التي أعطيك في التابوت، وسمي هذا تابوت الشهادة، واتخذ كروبين أي شخصين من ذهب اتخذهما مفرعين مصبوبين فيكونا على جانبي التطهير
439
وتكون أجنحة الكروبين مبسوطة تظل من فوق فتظل بأكنافها على التطهير، وليكن وجه كل واحد منهما إزاء صاحبه وليكن وجها الكروبين من فوق التطهير؛ وقال: واتخذ داراً للقبة من مهب الجنوب واستمر يصف له عمل هذه القبة وأعمدتها وستورها وآلاتها وخدمها وما يقرّب فيها ومحل ضربها من العسكر وعلى أيّ كيفية في نحو خمس عشرة ورقة وسماها قبة الزمان، ثم أمره تعالى في آخر هذا السفر الثاني بأشياء مما يتصل بأمتعها وسرادقاتها وغير ذلك في أزيد من عشر ورقات كما سيأتي؛ وقال في تضاعيف ذلك: وتصير الشهادة التي أعطيك في التابوت وأواعدك إلى هنالك وأكلمك فوق التطهير من بين الكروبين الذين فوق تابوت الشهادة بجميع ما آمرك في بني إسرائيل وقال: ويتخذوا هذا القربان دائماً في كل حين في أحقابكم على باب قبة الزمان قدام الرب.
وأواعدكم إلى هناك لأكلمكم وأواعد بني إسرائيل إلى هناك فأتقدس بكرامتي وأحل بين بني إسرائيل فيعلمون أني أنا الرب إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر، ثم قال: فليؤد المرء منهم الزكاة عن نفسه إذا عددتهم لكيلا ينزل بهم الوباء، ثم ذكر له تفاصيل ما يؤدى وأن الزكاة على الغني والمسكين، وكلم الرب موسى وقال له: اعلم أني قد انتخبت بَصَلْيال بن أُورِي بن حُور من سبط يهودا وأسبغت عليه روح الله وملأته من الحكمة والعلم في كل علم ليعلم الصناعات في
440
عمل آنية الذهب والفضة والنحاس وفي رندجة الحجارة ونظمها وكمالها وفي تجارة الخشب ليعمل كل عمل وقد ضممت إليه آلْيهبَ بن اخسَمَخ من سبط دان وأحللت الحكمة والفهم في قلوب ذوي الحكمة والعقل ليعملوا جميع ما أمرتك به من عمل قبة الأمد وتابوت الشهادة والتطهير الذي فوقها وجميع متاع قبة المائدة وجميع متاعها والمنارة وجميع آنيتها ومذبح البخور ومذبح القرابين وجميع آنيتهما والسطل وأسفله ولباس النضائد ولباس القدس لهارون الكاهن يعني الإمام وكسوة بنيه ليكهنوا ودهن المسح وبخور الطيب للقدس فليعملوا جميع ما أمرتك به - إلى أن قال: ودفع إلى موسى: لما فرغ من كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة لوحي حجارة مكتوب عليهما بيد الله، فرأى الشعب أن موسى قد أبطأ عن النزول من الجبل فاجتمع الشعب يعني وقالوا: نتخذ لنا آلهة تسير أمامنا، لأن الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا علم لنا ما صار من أمره - فذكر اتخاذهم العجل وأنهم ذبحوا له الذبائح وجلسوا يأكلون ويشربون وقاموا يلعبون ويتسافهون وأن هارون عليه السلام ذُعر من ذلك وفزع.
441
وإنما لم أسُق نص التوراة عن هذا بلفظه لأن في أول عبارته ما رأيته غضاً بالنسبة إلى مقام هارون عليه السلام وحاشاه مما يوهم نقصاً فجوزت أن يكون مما بدلوه ثم تأملت ما رواه النسائي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون فوجدته ليس بعيداً من تأويله وقد ذكرت محل الحاجة منه في سورة طه والله الموفق؛ ثم قال فقال الرب لموسى: اهبط من ههنا لأن شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر أفسدوا سيرتهم وصدوا وشيكاً عن الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه فاتخذوا لهم عجلاً مفترغاً وسجدوا له بين يديه وذبحوا له الذبائح وقالوا: هذا إلهك يا إسرائيل الذي أخرجك من أرض مصر، وقال الرب لموسى: إني قد رأيت هذا الشعب قاسية قلوبهم فدعني الآن فيشتد غضبي عليهم فأقتلهم وأبيدهم وأصيرك إلى شعب عظيم، فصلى موسى بين يدي الإله وقال: كلا يا رب! لا يشتد غضبك على شعبك الذين أخرجتم من مصر بقوتك المنيعة وبذراعك العلية الرفيعة ولا يقول أهل مصر: إنك إنما أخرجتهم لهلاكهم لتقتلهم بين الجبال وتستأصل شأفتهم وتبيد خضراءهم عن جديد الأرض يا رب ليسكن غضبك ورجزك واغفر ذنب شعبك اذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب عبيدك والأيمان التي أقسمت بها لهم وقلت: إني مكثر نسلكم
442
مثل نجوم السماء وجميع الأرض التي وعدت بها نسلهم أن تعطيهموها فيرثوها إلى الأبد؛ فعفا الرب عن شعبه ولم ينزل بهم الشر، فنزل موسى وهبط من الجبل ولَوحا الشهادة في يده لَوْحان كتب عليهما في الوجهين جميعاً واللوحان من عمل الله جل ثناؤه وخط الله مكتوب عليهما، فلما دنا من العسكر نظر العجل والصنوج فاشتد غضب موسى فرمى باللوحين منْ يده فكسرهما في سفح الجبل، ثم أخذ العجل الذي اتخذوه فأحرقه بالنار وسحله بالمبرد حتى صيره مثل التراب ونثر سحالته على وجه الماء، فوقف موسى على الباب قبة الزمان وقال: من كان من حزب الله فليقل إليّ، فانحاز إليه بنو لاوى بأجمعهم فقال لهم موسى: هكذا يقول الرب إله إسرائيل ليتقلد المرء منكم سيفه وجوزوا من باب إلى باب وجولوا العسكر وليقتل المرء منكم أخاه وصاحبه وقرابته، فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى، فقتل من الشعب في ذلك اليوم نحو من ثلاثة آلاف رجل فقال لهم موسى: كفوا أيديكم يومكم هذا من الحمية للرب لتحل عليكم البركة يومنا هذا، فلما كان الغد من ذلك اليوم قال موسى للشعب: أنتم خطئتم وارتكبتم هذه الخطيئة العظيمة! فأما الآن فإني أصعد إلى الرب لعله أن يغفر لكم ذنوبكم وإثمكم، فرجع
443
موسى إلى الرب وقال: أطلب إليك بالتضرع اللهم ربي حقاً لقد أخطأ هذا الشعب وارتكب إثماً عظيماً واتخذوا آلهة من ذهب، فالآن إن أنت غفرت خطاياهم وإلا فامحني من سفرك الذي كتبت، فقال الرب: أنا أمحو من سفري من أخطأ وأذنب، فأما الآن فانطلق بهذا الشعب إلى الموضع الذي أقول لك وهذا ملاكي ينطلق أمامك إلى الأرض التي تغل السمن والعسل، لأني لا أصعد معكم؛ لأنهم شعب قاسية رقابهم ولعل غضبي أن يشتد عليهم فأقتلهم في الطريق، فسمع الشعب هذا القول الفظيع فحزنوا، فلم يتسلح المرء منهم بسلاحه، فأخذ موسى خيمته فنصبها خارجاً من العسكر وأبعدها من المحلة وسماها قبة الزمان، وكان من سأل الرب أمراً يخرج إلى قبة الزمان، وكان إذا خرج موسى إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته ينظرون إلى موسى من خلفه حتى يدخل إلى القبة، وإذا دخل موسى إلى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ويكلم موسى، وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته، وكلم الرب موسى مواجهة كما يكلم المرء أخاه وصاحبه، وكان يرجع إلى العسكر وكان خادمه يشوع بن نون الغلام لم يكن
444
يفارق القبة، وقال موسى للرب: أنت يا رب أمرتني أن أصعد بهذا الشعب ولم تطلعني على من ترسل معي وقلت: إني قد أطلعتك على جميع خلائقي ومجدي وظفرت أيضاً مني برحمة ورأفة، فالآن إن كنت قد ظفرت منك برحمة ورأفة فأرني طريقك حتى أعرفك، فقال الرب لموسى: سر أمامي فأواعدك وأريحك، فقال له: إن أنت لم تصعد بيننا فلا تصعدنا من ههنا، فبماذا يعرف أني قد ظفرت منك برحمة ورأقة أنا وشعبك إلا إذا سرت بيننا فنكون أنا وشعبك منفصلين معروفين من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، فقال الرب لموسى: إني فاعل ما سألت، لأنك ظفرت مني برحمة ورأقة، وأصير اسمك معروفاً شهيراً إلى الأبد، فقال له: أرني مجدك، فقال: أنا أجيز جميع مجدي وكرامتي بين يديك ويذكر اسم الرب أمامك وأتحنن على من أردت التحنن عليه وأرحم من أردت أرحم، وقال: إنك لا تقدر على النظر إلى وجهي، لأنه لا يراني بشري فيحيا، وقال الرب لموسى: انقر لوحي حجارة مثل اللوحين الأولين اللذين كسرتهما وكن مستعداً بالغداة واصعد باكراً إلى الجبل جبل سيناء وقف هنالك على رأس الجبل، ولا يصعدن أحد معك، ولا يرى أحد في جميع الجبل، ولا ترتعي الغنم والبقر قبالة ذلك الجبل، فنقر موسى لوحين آخرين من حجارة مثل الأولين وغداً باكراً فصعد إلى طور سيناء كما أمره الرب وأخذ اللوحين في يده فنزل
445
استعلان الرب أمامه، فقال موسى: يا رب! اللهم ربي الرؤوف الرحيم الطويل الأناة والمهل الكبير نعمته وقسطه حافظ النعمة والعدل إلى ألف حقب وتغفر الذنوب والإثم والخطايا، فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً وقال: إن ظفرت يا رب منك برحمة ورأفة فليسلك الرب الآن بيننا.
لأن هذا الشعب هو شعب قاسية رقابهم، واغفر ذنوبنا وخطايانا وخبث نياتنا؛ فقال له: ها أنا ذا أعهد عهداً أمام جميع الشعب وأظهر عجائب لم أظهر مثلها في الأرض كلها وفي جميع الشعوب فيرى ذلك جميع هذا الشعب الذي أنت فيه فعل الرب الذي أمرك به أنه مخوف مرهوب، احتفظ بما آمرك به في هذا اليوم، ها أنا ذا أقبل وأبيد من بين يديك من الكنعانيين - وسمى من تقدم، وكرر النهي عن السجود لغيره سبحانه، وأوصى بأشياء منها الفطير فقال: واحتفظ بعيد الفطير سبعة أيام كما أمرتك في أوان شهر الفقاج - وفي نسخة: الفريك - لأنك إنما خرجت من مصر في شهر الفقاج، ثم قال: فمكث هناك عند الرب أربعين يوماً ولياليها لم يأكل طعاماً ولم يشرب شراباً، وكتب الله على لوحي الحجارة كلام العهد وهو العشر الآيات، فلما هبط موسى من جبل سيناء كان لوحا الشهادة في يده ولم يعلم موسى أن بشرة وجهه قد جللت بالبهاء إذ كلمه الله فنظر هارون وجميع بني إسرائيل إلى وجه موسى ففزعوا أن يقتربوا
446
إليه، فدعاهم فأتاه هارون وجميع عظماء الجماعة وكلمهم موسى، فلما فرغ من كلامه لهم بسط على وجهه جلباباً وكان إذا دخل إلى الرب ليكلمه يسفر عن وجهه حتى يخرج، وكان يخرج فيأمر بني إسرائيل بما يؤمر به، وقال لهم: إن الرب أمر أن تعمل عملك ستة أيام واليوم السابع يكون مخصوصاً مقدساً، السبت يوم راحة قدس الرب، ومن عمل فيه عملاً فليقتل، ولا تشعلوا النار في جميع مساكنكم يوم السبت، ثم أمرهم تعالى بالزكاة من الذهب والفضة والنحاس والقز والجلود وغير ذلك وبأشياء يزيدونها في قبة الزمان في أكثر من عشر ورقات، وقال في آخر ذلك: وقال الرب لموسى: أنصب قبة الزمان في أول يوم من الشهر الأول؛ وصير تابوت الشهادة هنالك، وأسبل الجلال على التابوت - إلى أن قال: وادن بهارون وبنيه إلى باب قبة الأمد واغسلهم بالماء، والبس هارون لباس القدس وامسحه فليكهن لي، وادن بنيه وألبسهم السراويل وامسحهم كما مسحت هارون أخاك فليكهنوا لي، وليكن لهم مسحهم للكهنوت إلى الأبد لأحقابهم، فصنع موسى كما أمره الله، فلما كان أول يوم من الشهر الأول من السنة الثانية نصب القبة يوم الأحد وضرب أوتادها وركب ألواحها
447
وزرفن عوابرها وركز أعمدتها وستر الستر على القبة وجللها من فوقها كما أمر الرب، وتناول الشهادة فوضعها في التابوت، وصير الدهوق في التابوت، ووضع التطهير على التابوت من فوق، وأدخل التابوت إلى القبة، وأخذ حجاب وجه الباب فجلل تابوت الشهادة كما أمر الرب، ونصب المنارة عند حافات القبة مما يلي مهب الشمال خارجاً من الحجاب، ونضّد عليها صفوف الخبز بين يدي الرب كما أمر الرب موسى، ونصب المنارة إزاء المائدة في حافات القبة مما يلي مهب الجنوب، ودلوا مصابيحها قدام الرب كما أمر الرب موسى، ونصب مذبح الذهب في قبة الزمان خارجاً من الحجاب، وبخر عليه بخور الطيب كما أمر الرب، وأسبل الستر على باب القبة، ونصب مذبح القرابين على الباب، وقرب عليه القرابين كما أمر الرب، ووضع السطل بين قبة الزمان والمذبح وسكب عليه ماء الغسل، وكان هارون وبنوه يغسلون أيديهم وأقدامهم إذا أرادوا الدخول إلى قبة الزمان، وكانوا إذا دنوا من المذبح يغسلون أيضاً كما أمر الرب موسى، ونصب داراً تحيط بالقبة والمذبح، وأسبل الستر على باب الدار، وكمل موسى عملها؛ وتغشت السحابة قبة الزمان وامتلأت القبة مجد الرب وكرامته، ولم يقدر موسى على الدخول إلى قبة الزمان، لأن السحاب حلت عليها.
448
وامتلأت القبة مجد الرب وكرامته. فكان إذا ارتفع السحاب عن القبة كان بنو إسرائيل يظعنون في جميع مظاعنهم، وإن لم ترتفع الغمامة لم يظعنوا إلي اليوم الذي ترتفع فيه، لأن سحاب الرب كان يغشى القبة بالنهار وكانت النار تضيء عليها بالليل وتزهر وتنير أمام جميع بني إسرائيل في جميع مظاعنهم. وقال في أول السفر الرابع: أمر الله بإحصاء بني إسرائيل فكانوا من أبناء عشرين سنة إلى ما فوقها، من خرج منهم للحرب في الأجناد ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين دون سبط لاوى، فإنهم لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وتكون منازلهم حولها محدقة بها، وهم من ابن شهر إلى ما فوقه اثنان وعشرون ألفاً، ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: إذا أتى على الرجل من اللاويين خمسة وعشرون سنة يتقوى على أن يعمل العمل في قبة الزمان، فإذا أتت عليه خمسون سنة يخرج من العمل ولا يعمل عملاً في قبة الآمد، وكان ينزل بنو إسرائيل حول بني لاوى بإنزال الله تعالى لهم، كلّ له محل من القبة على الاستدارة، وكان ينزل من مشارقها موسى وهارون وبنوه ليحفظوا حفاظ القدس والقرابين على بني إسرائيل ومن دنا من قبة الزمان وأعمالها من الغرباء يؤمر بقتله، فقد علم من هذا ومما قبله من أن كلاًّ يصلي على باب خيمته أن قبلتهم وهم في التيه قبة الزمان، وفي اليوم الذي نصب فيه الخباء أي في قبة الزمان تغشت سحابة من عند الرب قبة الزمان وحجاب باب الشهادة وكانوا يرون
449
في الخباء عند المساء ناراً تتوقد إلى الصباح، كذلك كان يكون في الخباء دائماً وكانت تغشاه سحابة بالنهار وتُرى فيه نار بالليل، فإذا ارتفعت السحابة عن القبة ارتحل بنو إسرائيل من مواضعهم وحيث ما نزلت السحابة هناك كان ينزل بنو إسرائيل، وإنما كان ارتحال بني إسرائيل عن قول الرب وبأمره، فربما مكثت السحابة على القبة من المساء حتى الصباح وترتفع بعد الصبح فيرتحلون، وربما مكثت الليل والنهار وربما مكثت أياماً وأشهراً وربما مكثت سنة، وكلم الرب موسى وقال له: اتخذ قرنين من قضة يكونان عند حضور الجماعة وارتحال العسكر يهتف بهما الكهنة، فتحشد إليك جماعة بني إسرائيل أجمعون إلى باب قبة الزمان، وإن نفخ في واحد اجتمع إليك القواد ورؤساء الألوف، ولما كان في السنة الثانية في عشر خلون من الشهر الثاني ارتفعت السحابة عن قبة الشهادة، وارتحل بنو إسرائيل من برية سيناء.
ونزلت السحابة في قفر فاران، ثم قال: وارتحلوا من عند جبل الرب مسيرة ثلاثة أيام، فأما تابوت عهد الرب فظعن قبلهم مسيرة يوم ليهيء منزلاً، وكانت تظلهم سحابة من قبل الرب إذا ارتحلوا لئلا تؤذيهم حرارة الشمس، فلما ارتحل
450
حاملوا التابوت قال موسى: انهض إلينا يا رب لينكسر شانئك ويبيد أعداؤك من بين يديك، وإذا نزل حملة التابوت قال: أقبل يا رب إليّ ألوف بني إسرائيل، فتذمر الشعب وساء الرب ذلك وغضب وسمع توشوشهم فاشتد غضبه عليهم واشتعلت فيهم نار من قبل الرب، فأحرقت الذي في أطراف العسكر وحوله، وضج الشعب على موسى فصلى موسى أمام الرب وخمدت النار، ودعا اسم ذلك الموضع الاحتراق، لأن نار الرب اشتعلت فيهم وأحرقتهم هناك، واشتهى الخلط الذين كانوا فيهم من الشعوب شهوة وأقبلوا على بني إسرائيل وقالوا: ليت أنا وجدنا من يطعمنا لحماً! ذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر وأكلنا القثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم والآن أنفسنا قرمة - أي يابسة - لا تقدر على شيء نأكله ما خلا هذا المن الذي قدام أعيننا، وسمع موسى الشعب يبكون في قبائلهم، كل إنسان على باب خيمته، واشتد غضب الرب، وشق ذلك على موسى أيضاً، ثم قال من أين أقدر أعطي هذه الأمة كلها لحماً؟ إنها تبكي عليّ وتقول: أعطنا
451
لحماً، لست أقدر أحتمل هذه الأمة كلها وحدي، لأنها أقوى مني، إن كان فعلك هذا بي فاقتلني قتلاً إن وافيت منك رحمة ولا أعاين شراً ولا أرى سوء.
فقال الرب لموسى: اجمع سبعين شيخاً من أشياخ بني إسرائيل الذين تعلم أنهم رؤساء الشعب وكتّابه وانطلق بهم إلى قبّة الزمان فإني أنزل إليك وأكلمك هناك وأنقص من عطية الروح التي عليك وأصيره عليهم ليحملوا أثقل هذا الشعب ولا يتركوك وحدك، ثم قال موسى للشعب: تهيؤوا غداً لتأكلوا لحماً، لأنكم بكيتم أمام الرب وقلتم: ليت من يطعمنا لحماً! وإن الموت بأرض مصر خير لنا، فسيعطيكم الرب لحماً وليس إنما تأكلون منه يوماً أو يومين بل تأكلون منه شهراً حتى يخرج من أنوفكم وتصيبكم منه تخمة، وجمع سبعين شيخاً من مشايخ الشعب وأقامهم حول الخباء، ونزل الرب سبحانه وكلمه وأخذ من الروح الذي عليه وصيره على السبعين، ودخل موسى العسكر هو وأشياخ بني إسرائيل، وهبت ريح من قبل الرب وأصعدت السلوى من البحور وألقته على العسكر ومسيرة يوم يمنة ويسرة حول
452
العسكر وكان مرتفعاً من الأرض نحو ذراعين، وجمعوا ونشروا حول العسكر ليكون لهم قديداً، فبينا اللحم بين أسنانهم قبل أن ينقلع اشتد غضب الرب عليهم وضرب الشعب ضربة عظيمة جداً ودعا اسم ذلك الموضع قبور الشهوة، وارتحل الشعب من قبور الشهوة فأتوا حصروث ونزلوها، وذكر أنهم مكثوا هنالك سبعة أيام ثم قال: ثم ارتحل الشعب من حصروث ونزلوا مفازة فاران وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يُحسبون الأرض التي أعطى بني إسرائيل - فذكر إرسال النقباء الاثني عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المائدة ثم قال: ورجعوا إلى موسى بعد أربعين يوماً، فأتوا موسى وهارون وجماعة بني إسرائيل إلى برية فاران إلى رقيم - انتهى شرح ما أشير إليه في هذه السورة من قصص بني إسرائيل من التوراة.
ولما بين سبحانه أنهم لما تعنتوا على موسى عليه السلام كما مر ويأتي عن نصوص التوراة مرة بعد مرة أورثهم كفراً في قلوبهم فمردوا على العصيان والتجرّؤ على مجاوزة الحدود فضرب عليهم الذلة والمسكنة وأحلهم الغضب، وكان في ذلك تحذير لمن طلب سلوك ذلك الصراط المستقيم من حالهم، وإعلام بأن المتقين المستجاب لهم في الدعاء بالهداية ليسوا في شيء من ذلك بل قالوا: اهدنا، عن يقين وإخلاص متبرئين من الدعاوى والاعتراض على الرسل نبه على أن من عمل ضد عملهم فآمن منهم أو من غيرهم من جميع الملل كان على ضد حالهم عند ربهم فلا يغضب عليهم بل يوفيهم أجورهم ويورثهم الأمن والسرور المتضمنين لضد الذلة والمسكنة
453
فقال تعالى
﴿إن الذين آمنوا﴾ أو يقال إنه سبحانه لما علّل إهانة بني إسرائيل بعصيانهم واعتدائهم كان كأنه قيل: فما لمن أطاع؟ فأجيب بجواب عام لهم ولغيرهم، أو يقال إنّه لما أخبر تعالى بأنهم ألزموا الخزي طوق الحمامة وكان ذلك ربما أوهم أنه لا خلاص لهم منه وإن تابوا وكانت عادته سبحانه جارية بأنه إذا ذكر وعداً أو عيداً عقبه حكم ضده ليكون الكلام تاماً، اعلموا أن باب التوبة مفتوح والرب كريم على وجه عام.
وقال الحرالي: لما أنهى الحق
454
تعالى نبأ أحوال بني إسرائيل نهايته مما بين أعلى تكرمتهم بالخطاب الأول إلى أدنى الغضب عليهم بهذا النبأ الآخر عنهم إعراضاً في مقابلة ذلك الإقبال الأول وكانوا هم أول أهل كتاب أشعر تعالى بهذا الختم أن جميع من بعدهم يكون لهم تبعاً لنحو مما أصابهم من جميع أهل الملل الأربعة - انتهى. فقيل
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي ادعوا الإيمان بما دعا إليهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿والذين هادوا﴾ أي ادعوا أنهم على دين موسى عليه السلام. قال الحرالي: وهو من الهود وهو رجوع بالباطن
455
وثبات فيه - انتهى. وقال أبو عمر وابن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون: إن السماوات والأرض تحركتا حين آتى الله عزّ وجلّ التوراة لموسى عليه السلام
﴿والنصارى﴾ المدعين أنهم تبعوا المسيح عليه السلام. قال الحرالي: جمع نصران فإن كان من النصرة فهو فعلان.
ولما كانت هذه السورة في استعطاف بني إسرائيل ترغيباً وترهيباً قرن هنا بين فريقيهم، ولما كانت ملة الصابئة جامعة لما تفرق من أصول أديان أهل الشرك تلاهم بهم مريداً كل مشرك فقال
﴿والصابئين﴾ المنكرين للرسالة في الصورة البشرية القائلين بالأوثان السماوية والأصنام
456
الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب، قال الحرالي: بالهمز من صبأ يصبأ صبأ وبغير همز من صبا يصبوا صبواً، تعاقبت الهمزة والياء مع الصاد والباء لعام معنى هو عود إلى حال صغر بعد كبر - انتهى.
﴿من آمن﴾ أي منهم بدوامه على الإيمان إن كان آمن قبل ذلك، ودخوله في الإيمان إن كان كافراً فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز
﴿بالله﴾ أي لذاته
﴿واليوم الآخر﴾ الذي الإيمان به متضمن للإيمان بجميع الصفات من العلم والقدرة وغيرهما وحاثّ على كل خير وصادّ عن كل ضير
﴿وعمل صالحاً﴾ أي وصدق ما ادعاه من الإيمان باتباع شرع الرسول الذي في زمانه في الأعمال الظاهرة ولم يفرق بين أحد من الرسل ولا أخل بشيء من اعتقاد ما جاءت به الكتب من الصلاح.
قال الحرالي: وهو العمل المراعى من الخلل، وأصله الإخلاص في النية وبلوغ الوسع في المحاولة بحسب علم العامل وإحكامه، وقال: والعمل ما دبر بالعلم - انتهى.
457
ولما كان الإفراد أدل على تخصيص كل واحد بما له والجمع أدل على إرادة العموم وأقطع للتعنت أفرد أولاً وجمع هنا فقال
﴿فلهم أجرهم﴾ الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان، وهو في الأصل جعل العامل على عمله، كائناً
«عند ربهم» فهو محفوظ لا يخشى عليه نسيان ولا يتوجه إليه تلف
﴿ولا خوف عليهم﴾ من آتٍ يستعلي عليهم من جميع الجهات
﴿ولا هم يحزنون *﴾ على شيء فات بل هم في أعظم السرور بما لهم من العز والجدة ضد ما للمعتدين من الذل والمسكنة، وحسن وضع هذه الآية في أثناء قصصهم أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم، وربما أمروا بقتل النساء أيضاً، فربما ظنّ من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل. قال في التوراة في قصة
458
مدين: وقتلوا كل ذكر فيها، ثم قال: وغضب موسى فقال لهم: لماذا أبقيتم على الإناث؟ وهن كنّ عشرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته - يعني بما أفضى إلى الزنا، ثم قال: وقال الرب لموسى: كلّم بني إسرائيل وقل لهم: أنتم جائزون الأردن لتهلكوا جميع سكان الأرض ونحو هذا مما لعل بعضه أصرح منه وقد ذكر منه في سورة المائدة، وفي وضعها أيضاً في أثناء قصصهم إشارة إلى تكذيبهم في قولهم:
﴿ليس علينا في الأميين سبيل﴾ [آل عمران: ٧٥] وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع، وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذلة والمسكنة، وسيأتي بعض ذلك عند قوله:
﴿لا تعبدون إلاّ الله﴾ [البقرة: ٨٣] الآية، بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف في الدين فإنه قال في وسط السفر الثاني: وإذا لقيت ثور عدوك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه، وإذا رأيت حمار عدوك جاثماً تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده، ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فإنه لما ذكر تعالى للمؤمنين هذا الجزاء الذي فخم أمره ترغيباً بإبهامه ونسبته إلى حضرة الرب المحسن بأنواع التربية وأنه لا خوف معه ولا حزن تلاه بأنهم لم يؤمنوا بعد رؤية ما رأوا من باهر الآيات حتى رفع فوقهم الطور وعلموا أنه دافنهم إن عصوا، فكان قبوله من أعظم النعم عليهم، لأن حقه الرد، لأنه كالإيمان عند رؤية البأس لا إيمان بالغيب،
459
ثم ذكر أنه لما أقلع عنهم تولوا عن الحضرة الشريفة إلى حضرات الشيطان فأكرموا المعاصي إشارة إلى أنهم أغلظ الناس أكباداً وأكثرهم جرأة وعناداً لا يرعوون لرهبة ولا يثبتون لرغبة فقال تعالى
﴿وإذ﴾ وأخصر من هذا أن يقال إنه لما قرر سبحانه قوله للعالم العامل المذعن كائناً من كان تلاه بما لليهود من الجلافة الداعية إلى النفور عن خلال السعادة التي هي ثمرة للعلم وما له سبحانه من التطول عليهم بإكراههم على ردهم إليه فقال وإذ أي اذكروا يا بني إسرائيل إذ
﴿أخذنا﴾ بما لنا من العظمة
﴿ميثاقكم﴾ بالسمع والطاعة من الوثيقة وهي تثنية العهد تأكيداً كإثباته بالكتاب - قاله الحرالي.
﴿ورفعنا﴾ ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة عاماً لهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان نزع الجار فقال
﴿وفوقكم الطور﴾
460
ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور، وقلنا لكم وهو مظل فوقكم
﴿وخذوا ما آتيناكم﴾ من الكتاب للسعادة بطاعتي والتزام أحكامي الموجبة للكون في حضرتي
«بقوة» أي بجد واجتهاد، والقوة باطن القدرة، من القوى وهي طاقات الحبل التي يمتن بها ويؤمن انقطاعه - قاله الحرالي.
﴿واذكروا ما فيه﴾ من التمسك به وللانتقال عنه عند مجيء الناسخ المنعوت فيه ذكراً يكون بالقلب فكراً وباللسان ذكراً {لعلكم
461
تتقون *} أي لتكونوا على رجاء من أن تتقوا موجبات السخط. ولما كان التقدير: فأخذتم ذلك وأوثقتم العهد به خوفاً من أن يدفنكم بالجبل عطف عليه وأشار إلى أنه من حقه البعد عن تركه بأداة البعد.
462
قوله:
﴿ثم توليتم﴾ والتولي قال الأصفهاني: أصله الإعراض عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمر والدين - انتهى. وهو هنا الإعراض المتكلف بما يفهمه التفعل - قاله الحرالي. وذلك لأن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه فرجعت بذلك إلى نحو من الفطر الأولى لم ترجع عنه إلاّ بمنازعة من الهوى شديدة.
462
ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال:
﴿من بعد ذلك﴾ أي التأكيد العظيم عن الوفاء به
﴿فلولا﴾ أي فتسبب عن توليكم أنه لولا
﴿فضل الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام مستعل
﴿عليكم ورحمته﴾ بالعفو والتوبة والإكرام بالهداية والنصر على الأعداء
﴿ولكنتم من الخاسرين *﴾ بالعقوبة وتأبد الغضب، وأيضاً فلما
463
كان يمكنهم أن يدعوا الإيمان والعمل الصالح عقبت تلك بآية الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما آتاهم في التوراة إيماناً مصحوباً بالقوة، ومما آتاهم صفة عيسى ومحمد عليهما السلام والأمر باتباعهما، فهو مما أخذ عليهم به العهد وقد كفروا به فلم يصح لهم إيمان ولا عمل، لأن التفرقة بين ما أتى منه سبحانه زنذقة.
ثم جاءت قصة المعتدين في السبت مؤكدة لذلك إذ كان حاصلها أنهم لما ضيعوا أمراً واحداً من أوامره واستخفوا به وهو تحريم السبت عذبهم بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين فقال: ولقد وأقرب من ذلك أن يقال إنه سبحانه لما ذكرهم بنعمة العفو الحافظ لهم من الخسران قرعهم بحلافة أخرى لهم خذل بها فريقاً منهم حتى غلبهم الخسران فما ضروا إلاّ أنفسهم مقسماً على أنهم بها عالمون ولها مستحضرون فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره: لقد علمتم جميع ذلك من عهودنا وما ذكرنا من الإيقاع بمن نقض من شديد وعيدنا ومن التهديد على ذلك بضرب الذلة وما تبعها من أنواع النكال و
﴿لقد﴾ أي وعزتي لقد
﴿علمتم الذين اعتدوا﴾ أي تعمدوا العدوان
﴿منكم في السبت﴾ بأن استحلوه وأصل السبت القطع للعمل ونحوه
﴿فقلنا﴾ أي فتسبب عن اعتدائهم أن قلنا بما لنا من العظمة. «
464
لهم كونوا» بإرادتنا
﴿قردة خاسئين *﴾ أي صاغرين مطرودين جمع خاسىء من الخسىء وهو طرد بكره واستخباث، وسبب ذلك أن الله تعالى أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فألزمهم الله إياه وجعله لهم محنة وحرم عليهم فيه العمل، فاصطادوا على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم وحمله سبحانه فتجاهروا بالمعصية مسخ منهم من عصى بالمباشرة ومن سكت عن النهي عن المنكر
﴿فجعلناها﴾ أي فتسبب عن قولنا إنهم كانوا قردة كما قلنا، فجعلنا هذه العقوبة
﴿نكالاً﴾ أي قيداً مانعاً
﴿لما بين يديها﴾ من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها
﴿وما خلفها﴾ ممن جاء بعدهم، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما،
465
والنكال إبداء العقوبة لمن يتّعظ بها، واليد ما به تظهر أعيان الأشياء وصورها أعلاها وأدناها، فلذلك ثنيت لأنها يد عليا هي اليمنى ويد دنيا هي اليسرى، والخلف ما يخلفه المتوجه في توجهه فينطمس عن حواس إقباله شهوده - قاله الحرالي.
وقال
﴿وموعظة﴾ من الوعظ وهو دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها
﴿للمتقين *﴾ وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور وأن النقم تقع في غيرهم وعظاً لهم.
ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه عامة ثم خاصة اتبعه بيان جساوتهم في مصالح أنفسهم لينتج أنهم أسفه الناس فقال
﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ بني إسرائيل
﴿إن الله﴾ أي الذي له الأمر كله {يأمركم
466
أن تذبحوا بقرة} لتعرفوا بها أمر القتيل الذي أعياكم أمره، وتاؤها ليست للتأنيث الحقيقي بل لأنها واحدة من الجنس فتقع على الذكر والأنثى. ولما كان من حقهم المبادرة إلى الامتثال والشكر فلم يفعلوا بيّن فظاظتهم على طريق الاستئناف معظماً لها بقوله حكاية عنهم
﴿قالوا أتتخذنا هزواً﴾ أي مكان هزء ومهزوءاً بنا حين نسألك عن قتيل فتأمرنا بذبح بقرة، فجمعوا إلى ما أشير إليه من إساءتهم سوء الأدب على من ثبتت رسالته بالمعجزة فرد كلامه كفر، فذكرهم بما رأوا منه من العلم بالله المنافي للهزء بأن قال
﴿أعوذ بالله﴾ أي أعتصم بمن لا كفوء له من
﴿أن أكون من الجاهلين *﴾ فإنه لا يستهزىء إلا جاهل، والعوذ اللجاء من
467
متخوَّف لكاف يكفيه، والجهل التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم - قاله الحرالي.
﴿قالوا﴾ تمادياً في الغلظة
﴿ادع لنا ربك﴾ أي المحسن إليك فكان تخصيصهم له بالإضافة غاية في الجفاء
«يبين» من التبيين وهو اقتطاع الشيء، والمعنى مما يلابسه ويداخله - قاله الحرالي. والمراد المبالغة في البيان بما يفهمه صيغة التفعيل
«لنا ما هي» تلك البقرة
«قال إنه يقول». ولما كانوا يتعنتون أكد فقال
﴿إنها بقرة لا فارض﴾ أي مسنة فرضت سنها أي قطعتها
﴿ولا بكر﴾ أي فتية صغيرة
﴿عوان﴾ أي نصف وهو خبر مبتدأ محذوف، وبين هذا الخبر بقوله
﴿بين ذلك﴾ أي سني الفارض والبكر
﴿فافعلوا ما تؤمرون *﴾ فإن الاعتراض على من يجب التسليم له كفر فلم يفعلوا بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن
﴿قالوا ادع لنا ربك﴾ تمادياً في الجفاء بعدم الاعتراف
468
بالإحسان
﴿يبين لنا ما لونها﴾ بعد بيان سنها، واللون تكيف ظاهر الأشياء في العين - قاله الحرالي.
﴿قال﴾ وأكد لما مضى من تلددهم فقال
﴿إنه يقول﴾ وأكد إشارة إلى مزيد تعنتهم فقال
﴿إنها بقرة صفراء﴾ وأكد شدة صفرتها بالعدول عن فاقعة إلى قوله معبراً باللون
﴿فاقع لونها﴾ أي خالص في صفرته. قال الحرالي: نعت تخليص للون الأصفر بمنزلة قانىء في الأحمر فهي إذن متوسطة اللون بين الأسود والأبيض كما كانت متوسطة السن،
﴿تسر الناظرين *﴾ أي تبهج نفوسهم بأنك إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها - قاله وهب
﴿قالوا ادع لنا ربك﴾ المحسن إليك بالإجابة في كل ما سألته
﴿يبين لنا ما هي﴾ ثم عللوا تكريرهم لذلك بقولهم
﴿إن البقر﴾ أي الموصوف بما قدمته
﴿تشابه﴾ أي وقع تشابهه
﴿علينا﴾ وذكر الفعل لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحدة فإن العرب تذكره
469
نقل عن سيبويه؛ ثم أدركتهم العناية فقالوا
﴿وإنا إن شاء الله﴾ أي الذي له صفات الكمال وأكدوا لما أوجب توقفهم من ظن عنادهم وقدموا التبرك بالمشية لذلك على خبر إن
﴿لمهتدون﴾ أي إلى المراد فتبركوا بما لا تكون بركة إلا به
﴿قال إنه يقول إنها﴾ أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها
﴿بقرة لا ذلول﴾ من الذل وهو حسن الانقياد - قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله
﴿تثير الأرض﴾ أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً.
470
ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل عبر فيه بالفعل وأصحبه لا عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى فقال واصفاً للبقرة
﴿ولا تسقي الحرث﴾ أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات لا فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف للاذلول، وحذف لا قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير
﴿مسلّمة﴾ أي من العيوب
﴿لا شية﴾ أي علامة
471
﴿فيها﴾ تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها
﴿قالوا الآن﴾ أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي
﴿جئت بالحق﴾ أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها
﴿فذبحوها﴾ أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها
﴿وما كادوا﴾ أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة
﴿يفعلون﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم - يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق، وهو دليل جواز النسخ قبل الفعل، أو يقال إنه لما كان السبت إنما وجب عليهم
472
وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كما يأتى إن شاء الله تعالى بيانه عند قوله تعالى
﴿إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه﴾ [النحل: ١٢٤] كان أنسب الأشياء تعقيبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت، ويجوز أن يقال إنه لما كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان وكان في قصة البقرة التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها، ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو
473
أثر الحرث - يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان
﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً﴾ [الشورى: ١١]- انتهى. ولما قسمت القصة شطرين تنبيهاً على النعمتين: نعمة العفو عن التوقف عن الأمر ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق، وتنبيهاً على أن لهم بذلك تقريعين: أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال والثاني على قتل النفس وما تبعه، ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر.
474
وقال الحرالي: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر تدارئهم في القتيل ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة - انتهى.
فقال تعالى
﴿وإذ﴾ أي واذكروا إذ، وأسند القتل إلى الكل والقاتل واحد لأن ذلك عادة العرب، لأن عادة القبيلة المدافعة عن أحدهم فقال
﴿قتلهم نفساً﴾ فأقبل عليهم بالخطاب توبيخاً لهم وإشارة إلى أن الموجودين منهم راضون بما مضى من أسلافهم وأن من ودّ شيئاً كان من عملته.
ولما كانوا قد أنكروا القتل سبب عنه قوله مشيراً إلى إخفائه بالإدغام
﴿فادارأتم فيها﴾ أي تدافعتم فكان كل فريق منكم يردّ القتل إلى الآخر فكان لكم بذلك ثلاثة آثام: إثم الكبيرة وإثم الإصرار
475
وإثم الافتراء بالدفع؛ قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، كأنه يشير إلى ما أذكره عنها قريباً.
ولما كان فعلهم في المدارة فعل غافل عن إحاطة علم الخالق سبحانه قال يحكي حالهم إذ ذاك
﴿والله﴾ أي والحال أن الذي له الأمر كله
﴿مخرج﴾ بلطيف صنعه وعظيم شأنه
﴿وما كنتم تكتمون *﴾ وفي تقديمه أيضاً زيادة تبكيت لهم بتوقفهم في ذبح بقرة أمروا بذبحها لمصلحة لهم عظيمة بعد مبادرة بعضهم إلى قتل إنسان مثله بعد النهي الشديد عنه وقال منبهاً بالالتفات إلى أسلوب العظمة على ما في الفعل المأمور به منها
﴿فقلنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿اضربوه﴾
476
وأضمر ذكر البقرة ولم يظهر دلالة على اتحاد هذا الشق الأول من القصة الذي جعل ثانياً بالشق الذي قبله في أنهما قصة واحدة فقال
﴿ببعضها﴾ قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة: قلنا اضربوا المقتول ببعض البقرة فضربوه به فحيي، يعني والدليل على هذا المحذوف قوله
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة
﴿يحيي الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿الموتى﴾ مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد - انتهى. روي أنهم لما ضربوه قام وقال: قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخدا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك؛ وهذه الخارقة كما أَخْبَرَ نَبِيَّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذراعُ الشاة المسمومة بأنه مسموم لما سمته اليهودية التي كانت في قومها هذه الآية، وجعل هذا التنبيه على البعث في قصصهم، لأنه من أعظم الأدلة عليه، وقد وقع منهم ما ساغ معه عدهم منكرين وهو قولهم للمشركين: دينكم خير من دين محمد، أو أن هذا تنبيه مقصود به حث العرب على سؤال من
477
استنصحوهم في السؤال عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونهم أهل العلم الأول، فهو ملزِم لهم باعتقاد البعث أو اعتقاد كذب اليهود، وعبر بالاسم العلم لأن الإحياء من أخص الآيات بصفة الإلهية كما أن الإرزاق أخص الآيات بالربوبية
﴿ويريكم آياته﴾ فيما يشهد بصحته
﴿لعلكم تعقلون *﴾ أي لتكونوا برؤية تلك الآيات الشاهدة له على رجاء من أن يحصل لكم عقل فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.
478
ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد
478
التصور فضلاً عن الوقوع أشار إليه بقوله
﴿ثم قست﴾ من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر
﴿قلوبكم﴾ ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال
﴿من بعد ذلك﴾ أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيراً لهم بطول إمهاله لهم سبحانه
479
مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيراً من مثل ما أحل بأهل السبت
﴿فهي﴾ أي فتسبب عن قسوتها أن كانت
﴿كالحجارة﴾ التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين.
ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال
﴿أو﴾ قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام - انتهى.
480
وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال
﴿أشد قسوة﴾ لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك.
ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيراً إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله:
﴿وإن من الحجارة﴾ وزاد في التأكيد تأكيداً لذلك قوله
﴿لما يتفجر﴾ أي يتفتح بالسعة
481
والكثرة
﴿منه الأنهار﴾ ذكر الكثير من ذلك وتذكيراً بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال:
﴿وإن منها لما يشقق﴾ أي يسيراً بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين - قاله الحرالي.
﴿فيخرج منه الماء﴾ الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال:
﴿وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك وقلوبكم لانتقاد لشيء من الأوامر فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور
482
عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه.
ولما كان التقدير: فما أعمالكم - أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب - مما يرضي الله؟ عطف عليه
﴿وما﴾ ويجوز أن يكون حالاً من قلوبكم أي قست والحال أنه ما
﴿الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿بغافل﴾ والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به
﴿عما تعملون﴾ فانتظروا عذاباً مثل عذاب أصحاب السبت إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه
483
بقوله تعالى:
﴿تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً﴾ [الأنعام: ٩١] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسبباً عنه أنه قال في السفر الخامس منها ما نصه: فإذا وجدتم قتيلاً في الأرض التي يعطيكم الله ربكم مطروحاً لا يعرف قاتله يخرج أشياخكم وقضاتكم ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأية قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلاً لم يعمل به عمل ولم يحرث به حرث، فينزل أشياخ تلك القرية العجل إلى الوادي الذي لم يزرع ولم يحرث فيه حرث يذبحون العجل في ذلك الوادي ويتقدم الأحبار بنو لاوى الذين اختارهم الله ربكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب وعن قولهم يقضي كل قضاء ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي ويحلفون ويقولون: ما سفكت أيدينا هذا الدم وما رأينا من قتله فاغفر يا رب لآل إسرائيل شعبك الذين خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم وأنتم فافحصوا عن الدم واقضوا بالحق وأبعدوا عنكم الإثم واعملوا الحسنات بين يدي الله ربّكم - انتهى. وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع هذا الأصل المذكور في القرآن العظيم والله أعلم.
ولما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من
484
الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم منكراً للطمع في إيمانهم بعد ما قرر أنه تكرر من كفرانهم فقال:
﴿أفتطمعون﴾ والطمع تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له
﴿أن يؤمنوا﴾ أي هؤلاء الذين بين أظهركم وقد سمعتم ما اتفق لأسلافهم من الكثافة وهم
485
راضون بذلك وإلا لآمنوا بمجرد هذا الإخبار عن هذه القصص من هذا النبي الأمي الذي يحصل التحقيق بأنه لا معلم له بها إلاّ الله معترفين
«لكم وقد» أي والحال أنه قد
﴿كان فريق﴾ أي ناس يقصدون الفرقة والشتات
﴿منهم﴾ قال الحرالي: من الفرق وهو اختصاص برأي وجهة عمن حقه أن يتصل به ويكون معه - انتهى. و
﴿يسمعون كلام الله﴾ المستحق لجميع صفات الكمال والكلام قال الحرالي: هو إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار - انتهى.
﴿ثم يحرفونه﴾ أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، وفي ذكر الفريق مع المعطوفات عليه تأكيد لعظيم تهمّكهم في العصيان
486
بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقاً في الكفر والعدوان والتبرء من جلباب الحياء، وقوله:
﴿من بعد ما عقلوه﴾ مع كونه توطية لما يأتي من أمر الفسخ مشيراً إلى أن تحريفهم لم يكن في محل إشكال لكونه مدركاً بالبديهة، وأثبت الجار لاختلاف أحوالهم.
ولما كان هذا مع أنه إشارة إلى أنهم على جبلات إبائهم وإلى أن من اجترأ على الله لم ينبغ لعباد الله أن يطمعوا في صلاحه لهم، لأنه إذا اجترأ على العالم بالخفيات كان على غيره أجرأ مشيراً إلى أنه لا يفعله عاقل ختمه بقوله:
﴿وهم يعلمون *﴾ أي والحال أنهم مع العقل حاملون للعلم فاهمون له غير غافلين بل متعمدون.
ولما كان الكلام مرشداً إلى أن التقدير فهم لجرأتهم على الله
487
إذا سمعوا كتابكم حرفوه وإذا حدثوا عباد الله لا يكادون يصدقون عطف عليه قوله
﴿وإذا لقوا الذين آمنوا﴾ بنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿قالوا﴾ نفاقاً منهم
﴿آمنا وإذا خلا بعضهم﴾ أي المنافقين
﴿إلى بعض قالوا﴾ لائمين لهم ظنّاً منهم جهلاً بالله لما وجدوا كثيراً من أسرارهم وخفي أخبارهم مما هو في كتابهم من الدقائق وغير ذلك عند المؤمنين مع اجتهاده في إخفائها أن بعضهم أفشاها فعلمت من قبله
﴿أتحدثونهم﴾ من التحديث وهو تكرار حدث القول أي واقعه
﴿بما فتح الله﴾ ذو الجلال والجمال
﴿عليكم﴾ من العلم القديم الذي أتاكم على ألسنة رسلكم أو بما عذب به بعضكم. والفتح قال الحرالي توسعة الضيق حساً ومعنى
488
﴿ليحاجوكم﴾ أي المؤمنون
﴿به عند ربكم﴾ والمحاجة تثبيت القصد والرأي بما يصححه. ولما كان عندهم أن إفشاءهم لمثل هذا من فعل من لا يفعل قالوا إنكاراً من بعضهم على بعض
﴿أفلا تعقلون *﴾ ويمكن أن يكون خطاباً للمؤمنين المخاطبين يتطمعون، أي أفلا يكون لكم عقل ليردكم ذلك عن تعليق الأمل بإيمانهم. ولما كان ظنهم هذا أقبح الفساد لأنه لو لم يكن علمه من قبل الله لم يقدر غيره أن يعبر عنه بعبارة تعجز الخلائق عن مماثلتها وصل به قوله موبخاً لهم
﴿أولا﴾ أي ألا يعلمون أن علم المؤمنين لذلك لم يكن إلا عن الله لما قام عليه من دليل الإعجاز أو لا
﴿يعلمون أن الله﴾ الذي له الإحاطة بكل شيء
﴿يعلم ما يسرون﴾ أي يخفون من قولهم لأصحابهم ومن غيره
﴿وما يعلنون﴾ أي يظهرون
489
من ذلك فيخبر به أولياءه.
ولما ذكر سبحانه هذا الفريق الذي هو من أعلاهم كفراً وأعتاهم أمراً عطف عليه قسماً أعتى منه وأفظ لأن العالم يرجى لفته عن رأيه أو تخجيله بالحجاج بخلاف المقلد العاتي الكثيف الجافي فقال
﴿ومنهم أميون﴾ ويجوز أن يراد بهم من لا يحسن الكتابة ومن يحسنها وهو غليظ الطبع بعيد عن الفهم، لأن الأمي في اللغة من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتابة وهو باق على جبلته وحال ولادته والغبي الجلف الجافي القليل الكلام، فالمعنى أنهم قسمان: كتبة وغير كتبة،
490
وهم المراد بالأميين، وهؤلاء مع كونهم لا يحسنون الكتاب يجوز أن يتعلموا القراءة تلقيناً ولا يفهمون المعاني، ويجوز أن يكون المعنى أنهم قسمان: علماء نحارير عارفون بالمعاني وجهلة غبيون لا حظ لهم من التوراة إلا القراءة الخالية عن التدبر المقرونة بالتمني ولذلك قال:
﴿لا يعلمون الكتاب﴾ أي بخلاف القسم الذي أكد فيه كونهم من أهل العلم.
ولما كان المراد سلب العلم عنهم رأساً أبرز الاستثناء مع كونه منقطعاً في صورة المتصل فقال:
﴿إلاّ أماني﴾ جمع أمنية، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، ويقال إن معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى - قاله الحرالي. أي إن كانت
491
الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم لا غيرها من جميع أنواعه. ولما أفهم ذلك أن التقدير ما هم ألا يقدرون تقديرات لا علم لهم بها عطف عليه قوله:
﴿وإن هم إلا يظنون﴾ تأكيداً لنفي العلم عنهم. ولما أثبت لهذا الفريق القطع على الله بما لا علم لهم به وكان هذا معلوم الذم محتوم الإثم سبب عنه الذم والإثم بطريق الأولى لفريق هو أردؤهم وأضرهم لعباد الله وأعداهم فقال:
﴿فويل﴾ والويل جماع الشر كله - قاله الحرالي.
﴿للذين يكتبون﴾ أي منهم ومن غيرهم
﴿الكتاب﴾ أي الذي يعلمون أنه من عندهم لا من عند الله
﴿بأيديهم﴾ وأشار إلى قبح هذا الكذب وبعّدَ رتبته في الخبث بأداة التراخي فقال
﴿ثم يقولون﴾ لما كتبوه كذباً وبهتاناً
﴿وهذا من عند الله﴾ الملك الأعظم ثم بين بالعلة الحاملة لهم على ذلك خساستهم وتراميهم إلى النجاسة ودناءتهم فقال:
﴿ليشتروا به﴾ أي بهذا الكذب الذي صنعوه
﴿ثمناً قليلاً﴾ ثم سبب عنه قوله: {فويل
492
لهم مما كتبت أيديهم} من ذلك الكذب على الله
﴿وويل لهم مما يكسبون *﴾ أي يجدون كسبه مما اشتروه به، وجرد الفعل لوضوح دلالته على الخبث بقرينة ما تقدم وإذا كان المجرد كذلك كان غيره أولى قال الحرالي: والكسب ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار على إحساس بمنة فيه وقوة عليه - انتهى. وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنه لإعجازه لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه فيلبس به - فلله المنّة علينا والفضل.
ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير: فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى: {وقالوا
493
لن تمسّنا} من المس وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره
﴿النار﴾ أي المعدة في الآخرة
﴿إلا أياماً﴾ ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم:
﴿معدودة﴾ أي منقضية، لأن كل معدود منقض. قال الحرالي: والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته
494
في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران.
ولما ادعوا ذلك ادعوا أن المسلمين يخلفونهم بعد ذلك فيها، روى البخاري في الجزية والمغازي والطب والدارمي في أول المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة فيها سم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اجمعوا لي من كان ههنا من يهود، فجمعوا له فقال: إن سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم، فقال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أبوكم؟ قالوا فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت وبررت، قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخسؤوا فيها! والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك» ولما ادعوا ذلك كان كأنه قيل: فيما ذا نرد عليهم؟ فقال
﴿قل﴾ منكراً لقولهم
﴿اتخذتم﴾ في ذلك
﴿عند الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿عهداً فلن﴾
495
أي فيتسبب عن ذلك أنه يوفي بعهده، لأنه
﴿يخلف الله﴾ الذي له صفات الكمال
﴿عهده أم﴾ لم يكن ذلك فأنتم
﴿تقولون على الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿ما لا تعلمون﴾ ومعنى الإنكار في الاستفهام أنه ليس واحد من الأمرين واقعاً، لا اتخذتم عهداً ولا قلتم ذلك جهلاً، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه، ولما انتفى الأمران علم أن الكائن غير ما ادعوه فصرح به في قوله:
﴿بلى﴾ أي لتمسنكم على خلاف ما زعمتموه، فإنّ بلى كلمة تدل على تقرير يفهم من إضراب عن نفي كأنها بل وصلت بها الألف إثباتاً لما أضرب
496
عن نفيه - قاله الحرالي.
ونعم جواب لكلام لا جحد فيه. ولما أضرب سبحانه عما قالوه من القضاء في الأعيان قاضياً عليهم بالخسران علل ذلك بوصف هم به متلبسون معلماً بأن من حق الجاهل بالغيب الحكم على الأوصاف التي ناط علام الغيوب بها الأحكام فقال:
﴿من كسب سيئة﴾ أي عملاً من حقه أن يسوء
﴿وأحاطت به خطيئة﴾ بحيث لم يكن شيء من أحواله خارجاً عن الخطيئة بل كانت غامرة لكل ما سواها من أعماله، ولا يكون ذلك إلاّ للكفر الهادم لأساس الأعمال الذي لا يتأتى بقاء الأعمال بدونه. ولما كان إفراد الضمير أنصّ على جزاء كل فرد والحكم بالنكال على الكل أنكأ وأروع وأقبح وأفظع وأدل على القدرة أفرد ثم جمع فقال آتياً بالفاء دليلاً أن أعمالهم سبب دخولهم النار:
﴿فأولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿أصحاب النار هم﴾ خاصة
﴿فيها خالدون *﴾.
497
ولما بان بهذا مالهم ولكل من شاركهم في هذا الوصف عطف عليه ما لمن ادّعوا أنهم يخلفونهم في النار ولكل من شاركهم في وصفهم الذي استحقوا به ذلك فقال:
﴿والذين آمنوا﴾ أي أقروا بالوحدانية بألسنتهم
﴿وعملوا الصالحات﴾ بياناً لأن قلوبهم مطمئنة بذلك
﴿أولئك﴾ العالو المراتب الشريفو المناقب، ولم يأت بالفاء دلالة على أن سبب سعادتهم إنما هو الرحمة
﴿أصحاب الجنة﴾ لا غيرهم
﴿وهم﴾ أي خاصة
﴿فيها خالدون *﴾.
498
ثم شرع سبحانه يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال:
﴿وإذ﴾ أي اذكروا ما تعلمون في كتابكم من حال من كسب سيئة محيطة واذكروا إذ
﴿أخذنا﴾ بما لنا من تلك العظمة التي أشهدناكم كثيراً منها ميثاقكم ولكنه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وغيرهم فقال:
﴿ميثاق بني إسرائيل﴾ ويجوز أن يكون معطوفاً على
﴿نعمتي﴾ في قوله تعالى:
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ لأن الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم.
1
ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتباً له على الأحق فالأحق فقال ذاكراً له في صيغة الخبر مريداً به النهي والأمر وهو أبلغ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف
﴿وقولوا﴾ عليه:
﴿لا تعبدون إلا الله﴾ المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحساناً هو الإحسان كله
﴿و﴾ أحسنوا أو تحسنون
﴿بالوالدين﴾ ولو كانا كافرين. قال الحرالي: تثنية والد من الولادة لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه - انتهى
﴿إحساناً﴾ عظيماً لا يبلغ كنهه، لكونهما في الرتبة الثانية لجعلهما سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأول والمباشرين للتربية، وغيّر السياق فلم يقل: ولا تحسنون إلا إلى الوالدين، إفهاماً لأن الإحسان إليهما يشركهما فيه من بعدهما، لو جبر فوات هذا الحصر بتقديمهما إيذاناً بالاهتمام
﴿وذي القربى﴾ وهم المتوسلون بالوالدين لما لهم من أكيد الوصلة
2
﴿واليتامى﴾ لضعفهم، واليُتم قال الحرالي: فقد الأب حين الحاجة، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ، وفي البنت إلى الثيوبة لبقاء حاجتها بعد البلوغ، والقربى فعلى من القرابة وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن - انتهى
﴿المساكين﴾ لكسرهم.
ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكناً أمر بجعل
3
ذلك بالقول فقال عطفاً على الخبر الذي معناه الإنشاء:
﴿وقولوا للناس﴾ عامة
﴿حسناً﴾ أي حَسَناً بالتحريك وهو لغة فيه كالبُخْل والبَخَل، وذلك بأن يأمروهم بما أمر الله به وينهوهم عما نهى عنه. ولما أمرهم بما إن امتثلوه اجتمعت كلمتهم ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال:
﴿وأقيموا الصلاة﴾ ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه فقال:
﴿وآتوا الزكاة﴾ ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال:
﴿ثم توليتم﴾ أي عن ذلك أو عن كثير منه، وأشار بصيغة التفعل إلى أن الأمور الدينية لحسنها لا يعرض عنها إلا بعلاج بين الفطرة الأولى والأمارة
﴿إلا قليلاً منكم وأنتم﴾ أي والحال أنكم
4
﴿معرضون﴾ عادتكم ذلك، لم يكن ذلك منكم عن غير علم، والإعراض صرف الشيء إلى العُرض التي هي الناحية.
قال السمين: وروى عن أبي عمرو وغيره: إلا قليل - بالرفع، وفيه أقوال، أصحها رفعه على الصفة بتأويل إلا وما بعدها بمعنى غير - انتهى. ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا الإعراب عند قوله:
﴿فشربوا منه إلا قليلاً منهم﴾ [البقرة: ٢٤٩] ذكر ما يشهد لذلك من التوراة، قال في السفر الثاني منها لما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل وقال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب، إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب
5
الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة من أعدائي، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي، لا تقسم بالرب إلهك كذباً، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً. أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تتمن بنت صاحبك، ولا تشتهين امرأة صاحبك ولا كل شيء لصاحبك - وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح. وقال في موضع آخر من السفر الثالث: لا تسرقوا، ولا تغدروا، ولا تحلفوا باسمي كذباً، ولا تنجسوا اسم الرب إلهكم، أنا الرب وليس غيري، لا تظلمن صاحبك، ولا تشتمن الأخرس، ولا تضع عثرة بين يدي الضرير، اتق الله ربك، لا تحيفوا في القضاء، ولا تأثموا، ولا تحابين المسكين ولا تحاب الكبير أيضاً بل أقض بالبر والعدل، لا تبغض أخاك في قلبك بل بكّت صاحبك
6
ووبخه بالحق لكيلا يلزمك خطيئة في سببه، ولا تحقدن على أحد بل أحبب صاحبك كما تحب نفسك، ولا تتطيروا بسنح الطير، ولا يكونن فيكم عراف، ولا تُطوّلن شعر رؤوسكم، ولا تحلقوا عنافق لحاكم، ولا تخدشوا وجوهكم على الميت، ولا تكتبوا على لحومكم بالإبر، أنا الله ربكم، لا تتبعوا العرّافين والقافة ولا تنطلقوا إليهم ولا تسألوهم عن شيء لئلا تتنجسوا بهم، أكرم الشيخ وقم إليه إذا رأيته، وأكرم من هو أكبر منك، واتق الله ربك، أنا الله ربكم، وإذا سكن بينكم الذي يقبل إليّ فلا تظلموه بل أنزلوه منزلة أحدكم وصيروه منكم، الذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم أحبوهم كما تحبون أنفسكم لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، أنا الله ربكم، لا تأثموا في القضاء ولا تأثموا في الأوزان والمكاييل بل اتخذوا ميزان الحق واتخذوا مكاييل الحق، أنا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر احفظوا جميع وصاياي وأحكامي بها، أنا الرب وليس غيري.
وقال في الثاني: ومن تبع العرافين والقافة وضل بهم أنزل
7
به غضبي الشديد وأهلكه من شعبي، وأي رجل شتم والديه يقتل قتلاً ودمه في عنقه؛ ثم قال بعده: وأي رجل أو امرأة صار عرافاً أو منجماً يقتلان قتلاً، ويكون قتلهما الرجم بالحجارة، ودمهما في أعناقهما؛ وقال قبل ذلك: وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً، ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلاً، ومن سرق إنساناً فوجد معه يريد بيعه فليقتل قتلاً، ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلاً، ثم قال: لا يؤذّن الساكن بينكم ولا تعقّوهم تحوّجوهم، لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، ولا تؤذوا الأرامل والأيتام، فإن آذيتموهم فصلوا بين يدي أسمع صلاتهم وأستجيب لهم فيشتد غضبي وأقتلكم في الحرب وتكون نساؤكم أرامل وبنوكم يصيرون يتامى، وإن أسلفت رزقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم، ولا تأخذن منه رباً؛ ثم قال: ولا تقبلن الرشوة، فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء وترد فلج الصالحين.
ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم فيه من العهد، وقرن به الإخراج من الديار لأن المال عديل الروح والمنزل أعظم المال وهو للجسد كالجسد للروح فقال:
﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾
8
يا بني إسرائيل
﴿لا تسفكون دماءكم﴾ أي لا يسفك بعضكم دماء بعض
﴿ولا تخرجون أنفسكم﴾ بإخراج بعضكم لبعض لأن المتواصلين بنسب أو دين كالنفس الواحدة
﴿من دياركم﴾، قال الحرالي: وأصلها ما أدارته العرب من البيوت كالحلقة استحفاظاً لما تحويه من أموالها - انتهى.
ولما كانوا قد نكصوا عند حقوقِ الأمر فلم يقبلوا ما أتاهم من الخير حتى خافوا الدمار بسقوط الطور عليهم أشار إلى ذلك بقوله:
﴿ثم أقررتم﴾ أي بذلك كله بعد ليّ وتوقف، والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره - قاله الحرالي:
﴿وأنتم تشهدون﴾ بلزومه وتعاينون تلك الآيات الكبار الملجئة لكم إلى ذلك، وقد مضى مما يصدق هذا
9
عن التوراة آنفاً ما فيه كفاية للموفق، وسيأتي في المائدة بقيته، إن شاء الله تعالى. ولما كان هذا بما أكد به من ذكر الميثاق في مظهر العظمة وإضافة الجناية إلى نفس الجاني جديراً بالبعد منه أشار إلى ذلك بقوله:
﴿ثم أنتم هؤلاء﴾ الحقيرون المقدور عليهم المجهولون الذين لا يعرف لهم اسم ينادون به، أو الموجودون الآن؛ ثم استأنف البيان عن هذه الجملة فقال:
﴿تقتلون أنفسكم﴾ من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق
﴿وتخرجون فريقاً منكم﴾ أي ناساً هم أشقّاء لكم فهم جديرون منكم بالإحسان لا بالإخراج
﴿من ديارهم﴾.
ولما كان من المستبعد جداً بعد الاستبعاد الأول أن يقعوا في
10
ذلك على طريق العدوان استأنف البيان لذلك بقوله:
﴿تظاهرون﴾ أي تتعاونون، من التظاهر، وهو تكلف المظاهرة وهي تساند القوة كأنه استناد ظهر إلى ظهر - قاله الحرالي:
﴿عليهم بالإثم﴾ أي مصاحبين للإثم وهو أسوأ الاعتداء في قول أو فعل أو حال، ويقال لكذوب: أثوم، لاعتدائه بالقول على غيره، والإثم الخمر لما يقع بها من العدواة والعدوى - قاله الحرالي:
﴿والعدوان﴾ أي والامتلاء في مجاوزة الحدود
﴿وإن يأتوكم﴾ أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم
﴿أسارى﴾ جمع أسرى جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو القد وهو ما يقد أي يقطع من السير
﴿تفادوهم﴾ أي تخلصوهم بالمال، من الفداء وهو الفكاك بعوض، و
﴿تفادوهم﴾ من المفاداة وهي الاستواء في العوضين.
قاله الحرالي.
ثم أكد تحريم الإخراج بزيادة الضمير والجملة الاسمية في قوله:
11
﴿وهو محرم﴾ من التحريم وهو تكرار الحرمة بالكسر وهي المنع من الشيء لدنايته، والحرمة بالضم المنع من الشيء لعلوه - قاله الحرالي:
﴿عليكم﴾ ولما كان يُظن أن الضمير للفداء عينه فقال:
﴿إخراجهم﴾ ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال:
﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب﴾ أي التوراة وهو الموجب للمفاداة
﴿وتكفرون ببعض﴾ وهو المحرم للقتل والإخراج، ثم سبب عن ذلك قوله:
﴿فما جزاء من يفعل ذلك﴾ الأمر العظيم الشناعة
﴿منكم إلا خزي﴾ ضد ما قصدتم بفعلكم من العز، والخزي إظهار القبائح التي يستحي من إظهارها عقوبة - قاله الحرالي:
﴿في الحياة الدنيا﴾ تعجيلاً للعقوبة له في الدار التي جعلها محط قصده.
12
وقد فعل سبحانه ذلك بأنواع الذل والقتل فما دونه،
﴿ويوم القيامة﴾ هي فعالة تفهم فيها التاءُ المبالغةَ والغلبة، وهو قيام أمر مستعظم، والقيام هو الاستقلال بأعباء ثقيلة
﴿يردون﴾ أي بالبعث، والرد هو الرجوع إلى ما كان منه بدء المذهب - قاله الحرالي:
﴿إلى أشد العذاب﴾ لأنه الخزي الأعظم.
ولما كانت المواجهة بالتهديد أدل على الغضب التفت إليهم في قراءة الجماعة فعطف على ما تقديره ذلك بأن الله عالم بما قصدتموه في ذلك فهو يجازيكم بما تستحقون قوله:
﴿وما الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة
﴿بغافل عما﴾ أي عن شيء بما
﴿تعملون﴾ من ذلك ومن غيره، وقراءة نافع وابن كثير بالغيب على الأسلوب الماضي.
13
ولما كانت هذه الآيات كلها كالدليل على قوله تعالى:
﴿وضربت عليهم الذلة والمسكنة - ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله﴾ [البقرة: ٦١] فذلكة ذلك قوله تعالى:
﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿الذين اشتروا﴾ أي لجوا فأخذوا
﴿الحياة الدنيا﴾ على خساستها
﴿بالآخرة﴾ مع نفاستها، والدنيا فُعلى من الدنو وهو الأنزل رتبة، في مقابلة عليا، ولأنه لزمتها العاجلة صارت في مقابلة الأخرى اللازمة للعلو، ففي الدنيا نزول قدر وتعجل وفي الأخرى علو قدر وتأخر، فتقابلتا على ما يفهم تقابلين من معنى كل واحدة منهما - قاله الحرالي: فالآية من الاحتكاك، ذكر الدنيا أولاً يدل على حذف العليا ثانياً، وذكر الآخرة ثانياً يدل على حذف العاجلة أولاً.
﴿فلا﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه لا
﴿يخفف﴾ من التخفيف وهو
14
مصير الثقيل والمستفل إلى حال الطافي المستعلي كحال ما بين الحجر والهواء - قاله الحرالي:
﴿عنهم العذاب﴾ في واحدة من الدارين
﴿ولا هم ينصرون﴾ وهو أيضاً من أعظم الأدلة على خذلان من غزا لأجل المغنم أو غل، وقد ورد في كثير من الأحاديث والآثار التصريح بذلك، منها ما رواه مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب» وهو أيضاً شرع قديم ففي سفر يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح مدينة أريحا بعد موت موسى عليه السلام بعث إلى مدينة عاي ثلاث آلاف مقاتل ليفتحوها، فقتل منهم أهل عاي جماعة وهزموهم، فاضطربت قلوبهم وصارت كالماء، فسجد يشوع على الأرض أمام تابوت الرب هو ومشيخة بني إسرائيل، فقال له الرب: انهض قائماً، وأخبره أن قومه قد غلوا فلا يقدرون الآن أن يثبتوا لأعدائهم حتى ينحوا الحرام عنهم، وقال الله له: وإذا كان غد فقدموا أسباطكم ليقترعوا، والسبط الذي تصيبه قرعة الرب تتقدم عشائره، والعشيرة التي تصيبها القرعة تتقدم بيوتاتها، والبيت الذي يصيبه قرعة الرب
15
ويصاب الحرام عنده يحرق بالنار هو وكل شيء له، لأنه تعدى على أمر الرب ولأنه أثم بإسرائيل؛ ففعل ما أمره الرب فأصابت القرعة عاجار بن كرمى من سبط يهودا، فأحضره وبنيه وبناته ومواشيه وخيمته وكل من كان له، فأصعدهم إلى غور عاجار، ورجمهم جميع بني إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار، وجعلوا فوقه تلاً من الحجارة الكبار إلى اليوم، ولذلك دعي اسم ذلك الموضع غور عاجار إلى اليوم، ثم أتوا من الغد إلى عاي فقتلوا جميع من فيها من بني آدم الذكور والإناث وأحرقوها.
ولما بين لهم أنهم نقضوا العهود فأحاطت بهم الخطايا فاستحقوا الخلود في النار توقع السائل الإخبار عن سبب وقوعهم في ذلك هل هو جهل أو عناد فبشع سبحانه ذلك عليهم بما افتتحه بحرف التوقع فقال:
﴿ولقد﴾
16
باللام التي هي توكيد لمضمون الكلام، و
«قد» هي لوقوع مرتقب مما كان خبراً أو مما سيكون علماً - قاله الحرالي.
﴿آتينا﴾ أي بعظمتنا
﴿موسى الكتاب﴾ أي نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملاً بعد موسى عليه السلام بل ضبطنا أمركم بالكتاب
﴿وقفينا﴾ من التقفية وهي متابعة شيء شيئاً كأنه يتلو قفاه، وقفاء الصورة منها خلفها المقابل الموجه - قاله الحرالي:
﴿من بعده﴾ أي بعد موسى
﴿بالرسل﴾ أي ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى بل واترنا من بعده إرسال الرسل
17
مواترة، وجعلنا بعضهم في قفاء بعض ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود والرسالة انبعاث أمر من المرسل إلى المرسل إليه
﴿وآتينا﴾ بما لنا من العظمة
﴿عيسى﴾ اسم معرب.
أصله يسوع
﴿ابن مريم﴾ الذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة تجديد ما درس من بقيتها
﴿البينات﴾ من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها لذي عقل، والبينة من القول والكون ما لا ينازعه منازع لوضوحه - قاله الحرالي:
﴿وأيدناه﴾ أي
18
قويناه على ذلك كله، من التأييد وهو من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه، كأخذ قوة المظاهرة من الظهر، لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته، واليد موضع قوة تناوله لغيره - قاله الحرالي:
﴿بروح القدس﴾ أي الروح الطاهر وهو جبريل عليه السلام كما أيدنا به غيره من أولي العزم. قال الحرالي: والروح لمحة من لمحات أمر الله، وأمر الله قيوميته في كلية خلقه ملكاً وملكوتاً، فما هو قوام الخلق كله ملكاً وملكوتاً هو الأمر
﴿ألا له الخلق والأمر﴾، [الأعراف: ٥٤]، وما هو قوام صورة من جملة الخلق هو الروح الذي هو لمحة من ذلك الأمر؛ ولقيام عالم الملكوت وخصوصاً جملة العرش بعالم الملك وخصوصاً أمر الدين الباقي سماهم الله روحاً، ومن أخصهم روح القدس، والقدس
19
الطهارة العلية التي لا يلحقها تنجس على ما تقدم، ومن أخص الروح به جبريل عليه السلام بما له من روح الأمر الديني، وإسرافيل عليه السلام بما له من روح النفخ الصوري - انتهى. وقد كان لعيسى عليه السلام بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى؛ والمعنى فعلنا بكم يا بني إسرائيل ذلك ولم تزالوا في عهد جميع من ذكر ناقضين للعهود، فلا أحد أحق منكم بالخلود في النار، ثم جاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تصدقوه.
ذكر شيء من الإنجيل يدل على أنه عليه السلام أتى بالبينات مع تأييده بروح القدس مستخلصاً من الأناجيل الأربعة وقد جمعت بين ألفاظها، قال متى - ومعظم السياق له: فلما سمع يسوع أن يوحنا - يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام - قد أسلم - يعني خذله أصحابه مضى إلى الجليل وترك الناصرة وجاء وسكن كَفَرناحوم التي على ساحل البحر في تخوم زابلون وبغتاليم ليكمل ما قيل في أشعيا النبي إذ يقول: أرض زابلون أرض بغتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً الجلوس في الكورة وظلال الموت نوراً أشرق عليهم، ومن ذلك بعد حبس يوحنا وافى يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل
21
ملكوت الله قائلاً: قد كمل الزمان وقربت ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل. قال متى: وكان يمشي على بحر الجليل فأبصر أخوين سمعان الذي يدعى بطرس واندراوس أخاه يلقيان شباكهما في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما: اتبعاني أجعلكما تكونان صيادي الناس وللوقت تركا شباكهما وتبعاه؛ وجاز من هناك فرأى أخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في سفينة مع أبيهما زبدي يصلحون شباكهم فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما زبدي وتبعاه وفي إنجيل يوحنا بعد قصة يحيى بن زكريا الآتية في آل عمران: هذا كان في بيت عينا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد، ومن الغد نظر يسوع مقبلاً إليه فقال: هذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم! هذا ذلك الذي قلت من أجله: إنه يأتي وهو كان قبلي لأنه أقدم مني وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل، من أجل هذا جئت أنا لأعمد بالماء؛ وشهد يوحنا وقال: إني رأيت الروح نزل من السماء مثل حمامة وحل عليه ولم أعرفه، لكن من أرسلني لأعمد بالماء هو الذي قال: الذي ترى الروح ينزل ويثبت عليه هو يعمد بروح القدس.
وأنا عاينت
22
وشهدت: وفي الغد كان يوحنا واقفاً واثنان من تلاميذه فنظر يسوع فقال: هذا حمل الله! فسمع تلميذاه كلامه فتبعا يسوع، فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: ماذا تريدان؟ قالا له: ربي - الذي تأويله يا معلم - أين تكون؟ فقال لهما: تعاليا لتنظرا، فأتيا وأبصرا موضعه أين يكون، وأقاما عنده يومهما ذلك وكان نحو عشر ساعات، وإن واحداً من اللذين سمعا من يوحنا وتبعا يسوع كان اندراوس أخا سمعان وإنه أبصر أولاً سمعان أخاه وقال له: قد وجدنا مسياً - الذي تأويله المسيح - فجاء به إلى يسوع؛ فلما نظر إليه يسوع قال له: أنت سمعان بن يونان الذي يدعى الصفا - الذي تأويله بطرس ومن الغد أراد الخروج إلى الجليل فلقي فيليس ناتاناييل وقاله له: الذي كتب موسى من أجله في الناموس والأنبياء وجدناه وهو يسوع الذي من الناصرة، فقال له: ناتاناييل هل يمكن أن يخرج من الناصرة شيء فيه صلاح؟ فقال له فيليس: تعال وانظر، فلما رأى يسوع ناتاناييل مقبلاً إليه قال: من أجله هذا حقاً إسرائيلي لا غش فيه، فقال له ناتاناييل: من أين تعرفني؟ فقال له يسوع: قبل أن يدعوك فيليس وأنت تحت التينة رأيتك فقال له: يا معلم! أنت هو ملك إسرائيل، قال له يسوع: لأني قلت لك
23
إني رأيتك تحت التينة آمنت سوف تعاين ما هو أعظم من هذا، وقال له: الحق الحق أقول لكم، إنكم من الآن ترون السماء مفتحة وملائكة الله ينزلون ويصعدون على ابن البشر. وفي اليوم الثالث كان عرش في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي يسوع وتلاميذه إلى العرش وكان الخمر قد فرغ، فقالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة لم تأت ساعتي بعد؟ فقالت أمه للخدام: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ستة أجاجين من حجارة موضوعة لتطهير اليهود تسع كل واحدة مطرين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املؤوا الأجاجين ماء، فملؤوها إلى فوق، وقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا رئيس السقاة، فلما ذاق رئيس السقاة ذلك الماء المتحول خمراً لم يعلم من أين هو، فدعا رئيس السقاة العريس وقال له: كل إنسان إنما يأتي بالشراب الجيد أولاً فإذا سكروا عند ذلك يأتي بالدون وأنت أبقيت الجيد إلى الآن! هذه الآية الأولى التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده وآمن به تلاميذه.
وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه فأقاموا هناك أياماً يسيرة؛ ثم قال: وعلم السيد يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه قد اتخذ تلاميذ كثيرة وأنه يعمد أكثر من يوحنا إذ ليس هو يعمد بل
24
تلاميذه فترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان قد أزمع أن يعبر على موضع السامرة، فأقبل إلى مدينة السامرة التي تسمى بسوخار إلى جانب القرية التي كان يعقوب وهبها ليوسف ابنه وكان هناك بئر يعقوب وكان يسوع قد عيى من تعب الطريق، فجلس على البئر في ست ساعات، فجاءت امرأة من السامرة تستقي ماء، فقال لها يسوع أعطيني أشرب - وكان تلاميذه قد دخلوا إلى المدينة ليبتاعوا لهم طعاماً - فقالت له تلك المرأة: كيف وأنت يهودي تستقي الماء وأنا امرأة سامرية واليهود لا يختلطون بالسامرة! أجاب يسوع وقال لها: لو كنت تعرفين عطية الله ومن هذا الذي قال لك: ناوليني أشرب، لكنت أنت تسألينه أن يعطيك ماء الحياة! قالت المرأة: يا سيد! إنه لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك ماء الحياة؛ لعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته! فقال لها: كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، فأما من يشرب من الماء الذي أعطيه لا يعطش إلى الأبد، قالت المرأة: يا سيد! أعطني من هذا الماء لئلا أعطش ولا أجيء ولا أستقي من ههنا، فقال: انطلقي وادعي زوجك وتعالي إلى هاهنا، قالت: ليس لي زوج، قال لها: حسناً قلت:
25
إنه لا بعل لي، لأنه قد كان لك خمسة بعولة والذي هو لك الآن ليس هو زوجك، أما هذا فحقاً قلت، قالت: يا سيد! إني أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون: إنه ياروشليم المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال: أيتها المرأة! آمني به، إنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في يروشليم يسجدون للأب، أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم، لكن ستأتي ساعة وهي الآن لكيما الساجدون المحقون يسجدون بالروح والحق، والرب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين، والذين يسجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، قالت المرأة: قد علمت أن مَسيا الذي هو المسيح يأتي، فإذا جاء ذاك فهو يعلمنا كل شيء، فقال: أنا هو الذي أكلمك وفي هذا جاء تلاميذه وتعجبوا من كلامه مع امرأة ولم يقل أحد: ماذا تريد ولم تكلمها فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: تعالوا انظروا رجلاً أعلمني كل ما فعلت، لعل هذا هو المسيح، فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه؛ وفي هذا سأله تلاميذه قائلين: يا معلم! كل، فقال: إن لي طعاماً لا تعرفونه أنتم، فقالوا فيما بينهم: لعل إنساناً وافاه
26
بشيء فطعمه، فقال: طعامي أنا أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله أليس أنتم تقولون: إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا قائل لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة، والزارع والحاصد يفرحان معاً، لأنه في هذا توجد كلمة الحق، إن واحداً يزرع وآخر يحصد، أنا أسألكم تحصدون شيئاً ليس أنتم تعبتم فيه بل آخرون تعبوا فيه وأنتم دخلتم على تعب أولئك؛ فآمن به في تلك المدينة سامريون كثيرون من أجل كلمة تلك المرأة، ولما صار إليه السامريون طلبوا إليه أن يقيم عندهم، فمكث عندهم يومين فآمن به كثير، وكانوا يقولون للمرأة: لسنا من أجل قولك نؤمن به لكنا قد سمعنا وعلمنا أن هذا هو المسيح بالحقيقة مخلص العالم.
وبعد يومين خرج يسوع إلى الجليل ومضى من هناك، لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته، ولما صار إلى الجليل قبله الجليليون، لأنهم عاينوا كل ما عمل بايروشليم في العيد؛ ثم جاء يسوع حيث صنع الماء خمراً وكان في كفرناحوم عند الملك ابن مريض فسمع أن يسوع قد جاء من يهودا إلى الجليل، فمضى إليه وسأله أن ينزل ويبرىء ولده، لأنه قد كان قارب الموت، فقال له يسوع: إن لم تعاينوا الآيات الأعاجيب لا تؤمنون، فقال له الملك: انزل يا سيد
27
قبل أن يموت فتاي، قال له يسوع: امض فابنك حي، فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى، وفيما هو ماض استقبله علمانه وبشروه بأن ابنه قد عاش، فسألهم: في أي وقت؟ فقالوا له: أمس في الساعة السابعة تركته الحمى، فعلم أبوه أنه في تلك الساعة التي قال له يسوع فيها: إن ابنك قد حيي، فآمن هو وبيته بأسره؛ وهذه أيضاً آية ثانية عملها يسوع لما جاء من يهودا إلى الجليل. قال مرقس: فأقبل إلى كفرناحوم وبقي يعلم في مجامعهم يوم السبت، فتعجبوا من تعليمه لأنه كان كالمسلط. قال متى: وكان يسوع يطوف في كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويبرىء كل برص ووجع في الشعب، فخرج خبره في جميع الشام فقدم إليه كل من به أصناف الأمراض والأوجاع المختلفة والذين بهم الشياطين والمعترين في رؤوس الأهلة والمخلعين فأبرأهم، وتبعه جموع كثيرة من الجليل والعشرة المدن ويروشليم واليهودية وعبر الأردن، فلما أبصر الجميع صعد إلى الجبل وجلس، وجاء إليه تلاميذه وفتح فاه يعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح! فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى! فإنهم يعزون،
28
طوبى للمتواضعين! فإنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش من أجل البر! فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء! فإنهم يرحمون، طوبى للنقية قلوبهم! فإنهم يعاينون الله، طوبى لفاعلي السلامة! فإنهم بني الله يُدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر! فإن لهم ملكوت السماوات طوبى لكم إذا طردوكم وعَيَّروكم وقالوا فيكم كل كلمة شر من أجلي؛ افرحوا وتهللوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لأن هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.
وقال لوقا: هكذا كان آباؤكم يصنعون بالأنبياء الويل لكم أيها الأغنياء! لأنكم قد أخذتم عزاكم، الويل لكم أيها الشباعى الآن! فإنكم ستجوعون؛ الويل لكم أيها الضاحكون الآن! فإنكم ستبكون وتحزنون، الويل لكم إذا قال الناس فيكم قولاً حسناً! لأن آباءهم كذلك فعلوا بالأنبياء الكذبة - يعني المتنبئين - وفيه من الألفاظ التي لا يجوز إطلاقها في شرعنا حمل الله والأب، وقوله: بني الله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آل عمران تأويل مثل هذا على تقدير صحته عنه وأنه يرد إلى المحكم على أوضح وجه مثل الألفاظ التي وردت في شرعنا ورددناها إلى المحكم، وضل بها من حملها على ظاهرها ممن يدعي الإسلام والله الموفق.
29
ولما كان هذا حالهم مع الرسل مع أنسهم بهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم علم أنهم في منابذتهم لهم عبيد الهوى وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال:
﴿أفكلما﴾ أي أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود مع مواترة الرسل ووجود الكتاب فكلما
﴿جاءكم رسول﴾ أي من عند الله ربكم
﴿بما لا تهوى أنفسكم﴾
30
من الهوى وهو نزوع النفس لسفل شهوتها في مقابلة معتلى الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علواً وسفلاً - قاله الحرالي: وقد دل على أن المراد الباطل بالتعبير بالهوى والنفس
﴿استكبرتم﴾ أي طلبتم الكبر وأوجدتموه بما لكم من الرئاسة على قومكم عن قبول الحق ميلاً إلى سنة إبليس مع إعطائكم العهد قبل ذلك على الدوام على اتباعه
﴿ففريقاً﴾ أي
31
فتسبب عن طلبكم الكبر أنكم فريقاً
﴿كذبتم﴾ كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
﴿وفريقاً تقتلون﴾ أي قتلتم ولم تندموا على قتلهم بل عزمتم على مثل ذلك الفعل كلما جاءكم أحد منهم بما يخالف الهوى وهم لم يبعثوا إلا لصرف الأنفس عن الهوى لأن دعوة الرسول إلى الأعلى الذي هو ضد هوى النفس؛ والظاهر أنه سبحانه أشار بهذه الصيغة المستقبلة إلى قتلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسم في خيبر كما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً.
32
ولما بين سبحانه مخازيهم حتى ختمها بعظيم ما ارتكبوا من الرسل من القتل المعنوي بالتكذيب والحسي بإزهاق الروح مع العلم بأنهم أتوا بالبينات والآيات المعجزات فأرشد المقام إلى أن التقدير فقالوا للأنبياء لما أتوهم أموراً كثيرة يعجب من صدورها عن عاقل وأتوا في الجواب عن تكذيبهم وقتلهم من التناقضات بما لا يرضاه عالم ولا جاهل عطف
32
عليه أو على
﴿وقالوا لن تمسّنا النار﴾ [البقرة: ٨٠] قوله - بياناً لشدة بهتهم وقوة عنادهم:
﴿وقالوا﴾ في جواب ما كانوا يلقون إليهم من جواهر العلم التي هي أوضح من الشمس
﴿قلوبنا غلف﴾ جمع أغلف وهو المغشى الذكر بالقلفة التي هي جلدته، كأن الغلفة في طرفي المرء: ذكره وقلبه، حتى يتم الله كلمته في طرفيه بالختان والإيمان - قاله الحرالي. فالمعنى: علهيا أغطية فهي لا تفهم ما تقولون. فكان المراد بذلك مع أنهم أعلم
33
الناس أن ما يقولونه ليس بأهل لأن يوجه إليه الفهم، ولذلك أضرب الله سبحانه عنه بقوله:
﴿بل﴾ أي ليس الأمر كما قالوا من أن هناك غلفاً حقيقة بل
﴿لعنهم الله﴾ أي طردهم الملك الأعظم عن قبول ذلك لأنهم ليسوا بأهل للسعادة بعد أن خلقهم على الفطرة الأولى القويمة لا غلف على قلوبهم، لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة يلاقي به ضرر الموطي - قاله الحرالي.
ثم بين علة ذلك بقوله:
﴿بكفرهم﴾. قال الحرالي: أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله تعالى عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبارهم اللعن كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله:
﴿من الجنة والناس﴾ [الناس: ٦] ليتصل طرفاه، فيكون ختماً لا أول
34
له ولا آخر، والفاتحة محيطة به لا يقال: هي أوله ولا آخره، ولذلك ختم بعض القراء بوصله حتى لا يتبين له طرف، كما قالت العربية لما سئلت عن بنيها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. ولما أخبر بلعنهم سبب عنه قوله:
﴿فقليلاً ما يؤمنون﴾، فوصفه بالقلة وأكده بما إيذاناً بأنه مغمور بالكفر لا غناء له.
ولما ذكر سبحانه من جلافتهم ما ختمه بلعنهم وكان قد قدم ذكر كتابهم مراراً وأشار إلى الإنجيل بإيتاء عيسى عليه السلام البينات ذكر سبحانه كفرهم بهذا الكتاب الذي مقصود السورة وصفه بالهدى وبهذا الرسول الآتي به دليلاً على إغراقهم في الكفر، لأنهم مع استفتاحهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مبعثه على من يعاديهم واستبشارهم به وإشهادهم أنفسهم بالسرور بمجيئه كانوا أبعد الناس من دعوته تمادياً في الكفر
35
وتقيداً بالضلال، فكان هذا الدليل أبين من الأول عند أهل ذلك العصر وذلك قوله تعالى:
﴿ولما جاءهم كتاب﴾ أي جامع لجميع الهدى لعظمته لكونه
﴿من عند الله﴾ الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من المحببات لهم في اتباعه قوله
﴿مصدقاً لما معهم﴾ على لسان نبي يعرفون صحة أمره بأمور يشهد بها كتابهم، وبتصديق هذا الكتاب له بإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم، والجواب محذوف ودل ما بعد على أنه كفروا به، وفي ذلك قاصمة لهم لأن كتابهم يكون شاهداً على كفرهم، ولما بين شهادة كتابهم أتبعه شهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك فقال
﴿وكانوا﴾ أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل مجيئه
﴿يستفتحون﴾ أي يسألون الله الفتح بالاسم الآتي به تيمناً بذكره!!
﴿على الذين كفروا﴾ يعني أنهم لم يكونوا في غفله عنه بل كانوا أعلم الناس به وقد وطنوا
36
أنفسهم على تصديقه ومع ذلك كله
﴿فلما جاءهم﴾ برسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم
﴿ما عرفوا﴾ أي ما صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم
﴿كفروا به﴾ اعتلالاً بأنواع من العلل البينة الكذب، منها زعمهم أن جبريل عليه السلام عدوهم وهو الآتي به؛ قال الثعلبي والواحدي:
«روى ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن صوريا حاجّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء، فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: جبريل، ولم يبعث الله نبياً إلا وهو وليه - وفي رواية: وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبريل - فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك» وقال ابن إسحاق في السيرة: حدثني عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري «أن نفراً من أحبار يهود جاؤوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: خبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني، قالوا: نعم، قال: فاسألوا عما بدا لكم!
37
قالوا: فأخبرنا: كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان الشبه لها؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا عن كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان، قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه، قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكراً لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الروح، قال: أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون جبريل وهو الذي يأتيني؟ قالوا: اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك.
فأنزل الله فيهم
﴿من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين﴾ [البقرة: ٩٧] إلى قوله:
{أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق
38
منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة: ١٠٠]، وأصل ذلك في البخاري في خلق آدم والهجرة والتفسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه - من روايات جمعت بين ألفاظها - قال: (أقبل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أي في الهجرة - إلى أن قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب رضي الله عنه، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه،
39
فسمع من نبي الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :(أي بيوت أهلنا أقرب (- فذكر نزوله على أبي أيوب رضي الله عنه ثم قال: (فلما جاء نبي الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ (وفي رواية: (بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو في أرض يخترف فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول اشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله (وفي رواية:) وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه - فقال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أخبرني بهن جبريل آنفاً، فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هذه الآية:
﴿من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله﴾ [البقرة: ٩٧] (أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت) وفي رواية (الحوت) (وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان
40
الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها) وفي رواية: (وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت) (قال: اشهد أنك رسول الله ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل نبي الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فدخلوا عليه) وفي رواية: (فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت - فقال لهم رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول اللهوأني جئتكم بحق فأسلموا، قالوا: ما نعلمه - قالوا للنبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وقالها ثلاث مرار، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا، قال: أفرأيتم إن أسلم قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم) وفي رواية: (أعاذه الله من ذلك) قال: (يا ابن سلام اخرج عليهم)، فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، قالوا: كذبت، وقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه فانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله فأخرجهم رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (وللواحدي في أسباب النزول عن عمر رضي الله عنه قال: (كنت آتي
41
اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة القرآن التوراة وموافقة التوراة القرآن، فقالوا: يا عمر ما أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم؟ قالوا: لأنك تأتينا وتغشانا، قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضاً وموافقة التوراة القرآن وموافقة القرآن التوراة، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خلف ظهري فقالوا: إن هذا صاحبك فقم إليه، فالتفت فإذا رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد دخل خوخة من المدينة، فأقبلت عليهم فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من كتاب أتعلمون أنه رسول الله؟ قال سيدهم: قد نشدكم بالله فأخبروه، فقالوا: أنت سيدنا فأخيره، فقال سيدهم: نعلم أنه رسول الله، قلت: فأني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثم لم تتبعوه، فقالوا: إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة، فقلت: من عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، قلت: ومن سلمكم؟ قالوا: ميكائيل، قلت: فإني اشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، وما يحل لميكائيل، قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، وما يحل لميكائيل، أن يسالم عدو جبريل، وإنهما جميعاً ومن معهما أعداء لمن عادوا وسلم لمن سالموا، ثم قمت فاستقبلني - يعني رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - فقالوا: يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات؟ فقرأ
﴿من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك (حتى بلغ) وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ [البقرة: ٩٩] قلت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا أخبرك بقول اليهود فإذا اللطيف
42
الخبير قد سبقني بالخبر قال عمر: (فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر) انتهى.
وقد سألت بعض فضلاء اليهود الموجودين
في زماننا عن عداوتهم لجبريل عليه السلام فلم يسمح بالتصريح وقال: ما يعطى ذلك.
وقد روى هذا الحديث أيضاً إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي عن عمر رضي الله عنه، قال شيخنا البوصيري: وهو مرسل صحيح الإسناد وفيه: أنه قال لهم: (وكيف منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا).
ولما بين سبحانه بهذا أنهم أعتى الناس وأشدهم تدليساً وبهتاً بل كذباً وفسقاً كانوا أحق الناس بوصف الكفر فسبب عن ذلك قوله: (فلعنة الله) أي الذي له الأمر كله) على الكافرين (فأظهر موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف ليعم وإشعاراً بصلاح من شاء الله منهم.
ولما استحقوا بهذا وجوه المذامّ كلها وصل به قوله) بئسما (فأتى بالكلمة الجامعة للمذام المقابلة لنعم الجامعة لوجوه المدائح كلها أي
43
بئس شيء) اشتروا به أنفسهم) أي حظوظهم، فقدموها وآقروها فكان ذلك عين فأخبرها عكس ما فعل المؤمنون من بيعهم لأنفسهم وخروجهم عنها بتعبدهم لله بإيثار ما يرضيه ع لى هوى أنفسهم، فكان ذلك عين تحصيلها وتقديمها، ثم فسر الضمير العائد على المبهم المأخوذ في إحراز النفس فقال: (أن يكفروا) أي يستروا على التجدد والاستمرار علمهم) بما أنزل الله (الذي لا كفؤ له، أي اشتروا أنفسهم فأبقوها لهم على زعمهم بالكفر ولم يجعلوها تابعة؛ ويجوز أن يكون) اشتروا (بمعنى باعوا، لأنهم بذلوها للشيطان بالكفر كما بذل المؤمنون أنفسهم لله بالإيمان.
ثم علل كفرهم بقوله: (بغياً) أي حسداً وظلماً لأن تكون النبوة في بني إسماعيل عليه السلام.
وقال الحرالي: هو اشتداد في
44
طلب شيء ما - انتهى.
وأصله مطلق الطلب والإرادة، كأن الإنسان لما كان مجبولاً علىا لنقصان ومطبوعاً على الشر والعصيان إلا من عصم الله وأعان كان مذموماً على مطلق الإرادة، لأن من حقه أن لا تكون له خيرة ولا إرادة بل تكون إرادته تابعة لإرادة مولاه كما هو شأن العبد - والله الموفق.
ثم علل بغيهم بقوله: (أن ينزل الله (ذو الجلال والإكرام) من فضله (وفي صيغة) ينزل (إشعار بتمادي ما يغيظهم فيما يستقبل، وبشرى للنبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين) على من يشاء من عباده (من العرب الذين حسدوهم.
ثم سبب عن ذلك قوله) فباؤوا) أي رجعوا لأجل ذلك) بغضب (في حسدهم لهذا النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لكونه من العرب) على غضب (كانوا استحقوه بكفرهم بأنبيائهم عناداً.
ثم علق الحكم الذي استحقوه بوصفهم تعميماً
45
وإشارة إلى أنه سيؤمن بعضهم فقال: (وللكافرين) أي الذين هم راسخون في هذا الوصف منهم ومن غيرهم) عذاب مهين (من الإهانة وهي الإطراح إذلالاً واحتقاراً.
ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلاً آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال: (وإذا قيل لهم) أي هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم) آمنوا بما أنزل الله) أي الملك الذي له
46
الأمر كله مطلقاً.
وعلى جهة العموم من الكتب والصحف.
ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم) قالوا (تسفيلاً لأنفسهم) نؤمن بما أنزل علينا (فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه وخصوا بعض ما أنزله.
ثم عجب من دعواهم هذه بقوله: (ويكفرون) أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون) بما وراءه) أي وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها، لأن وراء يراد بها تارة خلف وتارة قدام، فإذا قلت: زيد ورائي، صح أن يراد في المكان الذي أورايه أنا بالنسبة غلى من خلفي فيكون أمامي، وأن يراد في المكان الذي هو متوار عني فيكون خلفي.
وقال الحرالي: وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث أنه
47
لا يعلم ويكون أماماً في المكان - انتهى.
) وهو) أي والحال أن ذلك الذي وراءه هو) الحق (الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه (أل) قال الحرالي: فأنهاه لغاية الحق بكلمة (أل) لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو) الحق (وما ثبت وقتاً ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة فإنما هو (حق) منكر اللفظ، فإن بين المعروف بكلمة (أل) وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى - انتهى.
) مصدقاً لما معهم (فصح أنهم كافرون بما عندهم، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء.
48
ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض فقال) قل فلم) أي تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم: لم) تقتلون أنبياء الله (الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتاً الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية) من قبل (وفي صيغة المضارع تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم، لأن التقدير: وتُصرّون على قتلهم من بعد؛ وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تحذيراً منهم، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة، وسمّه أهل خيبر.
ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال) إن كنتم مؤمنين (إشعاراً بأن مثل ذلك
49
لا يصدر من متلبس بالإيمان.
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى مما استحقوا به الخلود في النار أقام دليلاً آخر أقوى من كل ما تقدمه، فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن، وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى وبحضرة هارون عليهما السلام كما هو منصوص الآن فيما بين أيديهم منها فقال تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات (من الآيات.
ولما كان كفرهم مع ذلك في غاية الاستبعاد عبر عنه بأداته مصوراً لزيادة قبحه بترتبه على أظهر البيان وموبخاً لهم فقال: (ثم اتخذتم) أي مع العلاج لفطركم الأولى وعقولكم السليمة (العجل) ونبه بالجار
50
على أن الاتخاذ في بعض زمن البعد فقال: من بعده أي بعد مفارقة موسى لكم إلى الطور كما في الآية الأخرى
﴿فتنا قومك من بعدك﴾ [طه: ٨٥] ) وأنتم) أي والحال أنكم) ظالمون) أي لم تزعموا أنه إلهكم على جهل منكم بل بعد مجيء البينات إليكم أن إلهكم إنما هو الله الذي أنقذكم من العبودية وأراكم من العجائب الخوارق ما لا يقبل شكاً وسمعتم كلامه فعلمتم أنه ليس بجسم ولا يشبه الجسم، فلم تفعلوا ذلك غلا لأن الظلم وهو المشي على غير نظام خبط عشواء وصف لكم لازم.
51
ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم وأنهم إنما هم مع الهوى فقال مقبلاً على خطابهم لأنه أشد في التقريع
﴿وإذ أخذنا﴾ وأظهره في مظهر العظمة تصويراً لمزيد جرأتهم
﴿ميثاقكم﴾ على الإيمان والطاعة
﴿ورفعنا فوقكم الطور﴾ الجبل العظيم الذي جعلناه زاجراً لكم عن الرضى بالإقامة في حضيض الجهل ورافعاً إلى أوج العلم وقلنا لكم وهو فوقكم
﴿خذوا ما آتيناكم﴾ من الأصول والفروع في هذا الكتاب العظيم
﴿بقوة﴾.
ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال
﴿واسمعوا﴾ وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛
52
ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئاً عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله:
﴿ثم توليتم﴾ [البقرة: ٨٣] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً
﴿قالوا سمعنا﴾ أي بآذاننا
﴿وعصينا﴾ أي وعملنا بضد ما سمعنا؛ وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً
53
مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك
﴿وأشربوا﴾ فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم، وهو من الإشراب وهو مداخلة نافذة سائغة كالشراب وهو الماء المداخل كلية الجسم للطافته ونفوذه - قاله الحرالي: وقال الكشاف: وخلط لون بلون
﴿في قلوبهم العجل﴾ أي حبه وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه
﴿بكفرهم﴾ وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن: اعلم أن كل مربوب يخاطب بحسب ما
54
في وسعه لقنه وينفى عنه ما ليس في وسعه لقنه فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه، وربما كان له إباء عن بعض ذلك فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء، وربما تلافته النعمة فعاد الإقبال إليه بوجه ما دون صفاء الإقبال الأول، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة فيعلو البيان والإفهام بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض، فخطاب الإقبال على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم إفهام في القرآن
﴿ألم تر إلى ربك كيف مد الظل﴾ [الفرقان: ٤٥] الآية
﴿وهو الذي جعل لكم الليل لباساً﴾ [الفرقان: ٤٧] الآية: تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين،
﴿أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما﴾ [الأنبياء: ٣٠] أعرض عنهما الخطاب ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته.
﴿خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم﴾ خاطبهم وأمرهم، فلما عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم في تمادي الخطاب
﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء﴾ [الطلاق: ١] تنزل الخطاب في الرتبتين ليبين للأعلى ما يبينه للأدنى
﴿ذلك خير لكم وأطهر﴾ [المجادلة: ١٢]
55
وهذا الباب عظيم النفع في الفهم لمن استوضح بيانه والتفاف موارده في القرآن - انتهى.
والدليل الوجودي على إشرابهم حب العجل مسارعتهم إلى عبادة ما يشبهه في عدم الضر والنفع والصورة، ففي السفر الرابع من التوراة في قصة بالاق ملك الأمورانيين الذي استنجد بلعام بن بعور ما نصه: وسكن بنو إسرائيل ساطيم وبدأ الشعب أن يسفح ببنات مواب ودعين الشعب إلى ذبائح آلهتهم وأكل الشعب من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم وكمل بنو إسرائيل العبادة بعليون الصنم واشتد غضب الله على بني إسرائيل - انتهى.
ولما بين سبحانه عظيم كفرهم وعنادهم مع وقاحتهم بادعاء الإيمان والاختصاص بالجنان أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم على وجه التهكم بهم مؤكداً لذمهم بالتعبير بما وضع لمجامع الذم فقال
56
﴿قل بئسما﴾ أي بئس شيئاً الشيء الذي
﴿يأمركم به﴾ من الكفر
﴿إيمانكم﴾ هذا الذي ادعيتموه؛ وأوضح هذا التهكم بقوله على سبيل الفرض والتشكيك
﴿إن كنتم مؤمنين﴾ على ما زعمتم، فحصل من هذا أنهم إما كاذبون في دعواهم، وإما أنهم أجهل الجهلة حيث عملوا ما لا يجامعه الإيمان وهم لا يعلمون.
57
ولما نهضت الأدلة على أنه لا حظ لهم في الآخرة غير النار وذلك نقيض دعواهم أنها لهم فقط في قولهم
﴿لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة﴾ [البقرة: ٨٠] تفسيرهم ذلك بأنها سبعة أيام وأنا نخلفهم فيها ختم سبحانه ذلك بدليل قطعي بديهي فقال
﴿قل إن كانت﴾ وقدم الجار إشعاراً بالاختصاص فقال:
﴿لكم الدار الآخرة﴾ أي كما زعمتم، وميزها بقوله:
﴿عند الله﴾ الذي له الكمال كله وبين المراد بقوله
﴿خالصة﴾ ولما ذكر الخلوص تأكيداً للمعنى زاده تأكيداً بقوله
﴿من دون الناس﴾ أي سائرهم لا يشرككم فيها أحد منهم من الخلوص وهو تصفية الشيء مما يمازجه في خلقته مما هو دونه - قاله الحرالي.
﴿فتمنوا الموت﴾ لأن ذلك علم على صلاح حال العبد مع ربه وعمارة ما بينه وبينه ورجائه للقائه.
قال الحرالي: فعلى قدر نفرة النفس من الموت يكون ضعف منال النفس مع المعرفة التي بها تأنس بربها فتتمنى لقاءه وتحبه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، يقع ذلك لعامة المؤمنين عند
58
الكشف حال الغرغرة، ولخاصة المؤمنين في مهل الحياة لأنهم لو كشف لهم الغطاء لم يزدادوا يقيناً، فما هو للمؤمن بعد الكشف من محبة لقاء الله فهو للموقن في حياته ويقظته، لكمال الكشف له مع وجود حجاب الملك الظاهر؛ ولذلك ما مات نبي حتى يخير فيختار لقاء الله، لتكون وفادته على الله وفادة محب مبادر، ولتقاصر المؤمن عن يقين النبي يتولى الله الخيرة في لقائه، لأنه وليه، ومنه ما ورد:
«ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه» ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه، لأنه وليه يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه - انتهى.
59
ثم سجل عليهم بالكذب فقال:
﴿إن كنتم صادقين﴾ أي معتقدين للصدق في دعواكم خلوصها لكم، ولما كان التقدير: فقال لهم فما تمنوه؟ عطف عليه قوله - إخباراً بالغيب قطعاً للعناد مؤكداً لأن ادعاءهم الخلوص أعظم من ادعائهم الولاية كما في سورة الجمعة:
﴿ولن يتمنوه أبداً﴾، ثم ذكر السبب في عدم التمني فقال:
﴿بما قدمت﴾ وهو من التقدمة وهي وضع الشيء قداماً وهو جهة القدم الذي هو الأمم والتجاه أي قبالة الوجه - قاله الحرالي: وعبر باليد التي بها أكثر الأفعال إشارة إلى أن أفعالهم لقباحتها كأنها خالية عن القصد فقال:
60
﴿أيديهم﴾ أي من الظلم وإلى ذلك أشار قوله: عاطفاً على ما تقديره: فالله عليم بذلك؟
﴿والله﴾ الذي لا كفؤ له
﴿عليم بالظالمين﴾ أي كلهم حيث أظهر تنبيهاً على الوصف الموجب للحكم وتعميماً وتهديداً.
ولما بين أنهم لا يتمنونه أثبت لهم ما هو فوق ذلك من تمني الضد الدال على علمهم بسوء منقلبهم فقال:
﴿ولتجدنهم﴾ أي بما تعلم من أحوالهم مما منه الوجدان. وهو إحساس الباطن بما هو فيه والإصابة أيضاً لما له علقة الباطن، كأنه فيه
﴿أحرص﴾ صيغة مبالغة من الحرص،
61
وهو طلب الاستغراق فيما يختص فيه الحظ - قاله الحرالي:
﴿الناس على حياة﴾ على أي حالة كانت وهم قاطعون بأنه لا يخلو يوم منها عن كدر فإنهم يعلمون أنها وإن كانت في غاية الكدر خير لهم مما بعد الموت
﴿ومن﴾ أي وأحرص من
﴿الذين أشركوا﴾ الذين لا بعث عندهم على الحياة علماً منهم بأنهم صائرون إلى العذاب الدائم بالسيئات المحيطة والشرك. قال الحرالي: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس له معه أمر - انتهى.
ثم بين مقدار ما يتمنونه فقال:
﴿يود﴾ من الود وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له - قاله الحرالي.
﴿أحدهم﴾ أي أحد من تقدم من اليهود والمشركين بجميع أصنافهم، أو من اليهود خاصة، أو من المشركين فتكون ودادة اليهود من باب الأولى. قال الحرالي: وهو نحو من خطاب القرآن لا يصل إليه إبلاغ الخلق
﴿لو يعمر﴾ من التعمير وهو تمادي العمر كأنه تكرار، والعمر أمد ما بين بدو الشيء
62
وانقطاعه - قاله الحرالي.
﴿ألف سنة﴾ خوفاً من الموت أو ما بعده، والألف كمال العدد بكمال ثالثة رتبة؛ والسنة أمد تمام دورة الشمس وتمام ثنتي عشرة دورة القمر - قاله الحرالي. وهذا المعنى وإن كان موجوداً في الحول والعام والحجة غير أن مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فلبلاغة القرآن لا يطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ، فهذا السياق لما كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أي حالة كانت علماً منهم بأنها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقق شقائهم عبر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان. أو ما منه الدوران الذي فيه كد وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر قال السهيلي في الروض: وقد تسمى السنة داراً في الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار - أي سنة، ثم قال: فتأمل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح باباً من العلم بإعجاز القرآن والله المستعان.
﴿وما هو﴾ أي تعميره
﴿بمزحزحه﴾ والزحزحة إبعاد الشيء المستثقل المترامي لما يبعد عنه - قاله الحرالي:
﴿من العذاب﴾
63
أي زحزحة مبتدأة من العذاب، وعبر بمن دون عن إعلاماً بأنهم لم يفارقوا العذاب دنيا ولا آخرة وإن لم يحسوا به في الدنيا، ثم فسر الضمير بقوله:
﴿أن يعمر﴾ إنما تزحزحه الطاعة المقرونة بالإيمان الصحيح الذي ليس فيه تفرقة. ولما كان التقدير: لأنهم يعملون في أعمارهم الأعمال السيئة المحيطة، عطف عليه قوله:
﴿والله﴾ الذي له الأمر كله
﴿بصير بما يعملون﴾.
ولما ذكر عداوتهم لأخص البشر واجتراءهم عليه بالتكذيب
64
والقتل، وختم ذلك بعداوتهم لأكمل الخلق وأخصهم حسداً لنزول هذا الذكر عليه عبارة ثم إشارة بما رمزه إلى نصبهم لقتله وأنهى ذلك بأنه لا محيص لهم من العذاب، لأنه بصير بأعمالهم الموجبة له ذكر ما هو من دقيق أعمالهم في عراقتهم في الكفر بعداوتهم لخواص الملائكة الذين هم خير محض لا حامل أصلاً على بغضهم إلا الكفر، وبدىء بذكر المنزل للقرآن، لأن عداوتهم للمنزل عليه لأجل ما نزل عليه عداوة لمنزله، لأنه سبب ما كانت العداوة لأجله، فقال آمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعلاماً بما أبصره من خفي مكرهم القاضي بضرهم:
﴿قل﴾ أو يقال - وهو أحسن وأبين وأمتن: ولما أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما دل على كذبهم في ادعائهم خلوص الآخرة لهم وأخبر بأنه لا بد من عذابهم أمره بدليل آخر على كلا الأمرين، فعلى تقدير كونه دليلاً على الأول يكون منسوقاً على
﴿قل﴾ الأولى بغير عاطف إشعار بأن كلاًّ من الدليلين كاف فيما سيق له: على تقدير كونه دليلاً على الثاني الذي خصه يكون جواباً لمن كأنه قال: لم لا يزحزحهم عن التعمير عن العذاب؟
﴿قل﴾
65
أي لهؤلاء الذين ادعوا أن دار الملك خالصة لهم وهم يعادون خواص جنده
﴿من﴾ وهي اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحاداً وجموعاً واستغراقاً - قاله الحرالي:
﴿كان عدواً لجبريل﴾ أي فإنه لا يضر إلا نفسه، لأنه لا يبلغ ضره بوجه من الوجوه ولعداوته بعداوته له لله الذي خصه بقربه واختياره لرسالته، فكفر حينئذ هذا المعادي له بجميع كتب الله ورسله؛ وجبريل قال الحرالي: يقال هو اسم عبودية، لأن إيل اسم من أسماء الله عز وجل في الملأ الأعلى وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام - انتهى.
ثم علل هذا الخبر المحذوف بما أرشد إليه فقال:
﴿فإنه﴾ أي جبريل
﴿نزله﴾ أي القرآن الذي كفروا به، لحسدهم للذي أنزل عليه بعد ما كانوا يستفتحون به. الآتي بما ينفعهم، الداعي إلى ما يصلحهم
66
فيرفعهم، ولما كان المراد تحقيق أنه كلام الله وأنه أمر بإبلاغه جمع بين
﴿قل﴾ وبين
﴿على قلبك﴾ أي وهو أكمل القلوب، دون أن يقال: على قلبي - المطابق لقل؛ وأداة الاستعلاء دالة على أن المنزل تمكن في القلب فصارت مجامعه مغمورة به، فكان مظهراً له
﴿بإذن الله﴾ الملك الأعظم الذي له الأمر كله. فليس لأحد إنكار ما أذن فيه. والنازل به لم يتعد شيئاً مما أمر به؛ والإذن رفع المنع وإيتاء المكنة كوناً وخلقاً ما لم يمنعه حكم تصريف - قاله الحرالي:
﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ من كتب الله التي أعظمها كتابهم. فكانوا أحق الناس بالإيمان به وكان جبريل عليه السلام أحق الملائكة بمحبتهم له
67
لإنزاله، وكان كفرهم به كفراً بما عندهم، فلا وجه لعداوتهم له؛ والبين حد فاصل في حس أو معنى - قاله الحرالي:
﴿وهدى﴾ إلى كل خير، لأنه بيان ما وقع التكليف به من أفعال القلوب والجوارح
﴿وبشرى﴾ أي ببيان الثواب
﴿للمؤمنين﴾ أي الذين لهم الإيمان وصف لازم، فلا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله، بل حيثما قادهم الحق انقادوا؛ فلا يدخل في ذلك الذين آمنوا بألسنتهم
﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ [البقرة: ٨٩] ولا من علم الله منه ذلك ولو كان قبل مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله أعلم بما كانوا عاملين؛ فلو أنهم مؤمنون لما عادوا من نزل به بشرى لهم ولكنهم كفرة فهم في العذاب، والآخرة ليست لهم بل عليهم.
ولما كانت عداوة واحد من الحزب لكونه من ذلك الحزب عداوة لجميع ذلك الحزب تلاه بقوله:
﴿من كان عدواً لله﴾ ذي الجلال والإكرام لعداوته واحداً من أوليائه لكونه من أوليائه
﴿وملائكته﴾
68
النازلين بأمره
﴿ورسله﴾ من البشر وغيرهم، وخص من بينهم بالذكر من حباه بالفضل فقال:
﴿وجبريل وميكال﴾، فإنه قد كفر فأهلك نفسه بكفره، وعلى ذلك دل قوله:
﴿فإن الله﴾ الملك الأعلى:
﴿عدو للكافرين﴾ حيث أظهر ولم يضمر، وعبر بالوصف اللازم صرفاً للخطاب عمن يتعظ منهم فيرجع فلا تلحقه المعاداة لذلك؛ وميكال يقال هو اسم عبودية أيضاً وهو يد بسط للأرزاق المقيمة للأجسام كما أن إسرافيل يد بسط للأرواح التي بها الحياة - قاله الحرالي.
ولما فرغ من ترغيبهم في القرآن بأنه من عند الله وأنه مصدق لكتابهم وفي جبريل بأنه الآتي به بإذن الله ومن ترهيبهم من عداوته أتبعه مدح هذا القرآن وأنه واضح الأمر لمريد الحق وإن كفر به منهم أو من غيرهم فاسق أي خارج عما يعرف من الحق فإنه بحيث لا يخفى على أحد فقال تعالى - عطفاً على قوله:
﴿فإنه نزله على قلبك بإذن الله﴾ [البقرة: ٩٧]، أو قوله:
﴿ولقد جاءكم موسى بالبينات﴾ [البقرة: ٩٢]، أو على ما تقديره: فلقد بان بهذا الذي نزله جبريل عليه السلام أن الآخرة ليست خالصة لهم وأنهم
69
ممن أحاطت به خطيئته لكفره -:
﴿ولقد أنزلنا﴾ بعظمتنا في ذلك وغيره
﴿إليك﴾ وأنت أعظم الخلق
﴿آيات بينات﴾ في الدلالة على صدقك وصحة أمرك، والبينة الدلالة الفاصلة بين القصة الصادقة والكاذبة، ففسقوا بكفرهم بها
﴿وما يكفر بها﴾ منهم ومن غيرهم
﴿إلا الفاسقون﴾ الذين الفسق لهم صفة لازمة، وعن الحسن أن الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظمه من كفر وغيره
70
وفي ذلك رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو مقصود السورة.
ولما أنكر عليهم أولاً ردهم للرسل لأمرهم بمخالفة الهوى في قوله:
﴿أفكلما جاءكم رسول﴾ [البقرة: ٨٧] وأتبعه بما يلائمه إلى أن ختم بأن آيات هذا الرسول من الأمر البين الذي يشهد به كتابهم وقد أخذ عليهم العهد باتباعه كما أرشد إلى قوله تعالى:
﴿فإما يأتينكم مني هدى﴾ [البقرة: ٣٨] الآية، أنكر عليهم ثانياً كفرهم بما أتى به الرسل بقوله:
﴿أو كلما عاهدوا عهداً نبذه﴾ أي طرحه محتقراً له
﴿فريق منهم﴾ أي ناس شأنهم السعي في الفرقة. ولما كان هذا متردداً بين التقليل والتكثير لتردد التنوين بين التعظيم والتحقير رد احتمال التقليل بقوله:
﴿بل﴾ أي وليس الفريق الكافر بالنبذ أقلهم بل
﴿أكثرهم لا يؤمنون﴾ حالاً ولا مآلاً.
71
ثم أتبع هذا الإنكار ذكر الكتاب والرسول كما فعل في الإنكار الأول غير أنه صرح هنا بما طواه هناك فقال:
﴿ولما جاءهم رسول﴾ أي عظيم محيطة دعوته بما أشعر به الاسم الأعظم في قوله
﴿من عند الله﴾ أي الملك الذي له جميع الملك والأمر
﴿مصدق لما معهم﴾ لكونه
71
أتى بكتاب محقق أنه من عند الله لإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم
﴿نبذ﴾ أي رمى رمي استخفاف
﴿فريق من الذين أوتوا الكتاب﴾ الأول
﴿كتاب الله﴾ الملك الأعلى الذي أخذ عليهم فيه الميثاق على لسان نبيهم باتباع النبي الأمي أسوأ النبذ بجعله لاستخفافهم به
﴿وراء ظهورهم﴾ بتركهم العمل به وإن حلوه بالذهب ووضعوه على الكراسي بين أيديهم. وأشعر بعنادهم بقوله:
﴿كأنّهم لا يعلمون﴾ ولما كانت سنة الله جارية بأنه ما أمات أحد سنة إلا زاد في خذلانه بأن أحيى على يده بدعة أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء فقال تعالى:
﴿واتبعوا ما تتلوا﴾ أي تقرأ أو تتبع، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرته وفشوه
72
واستمراره
﴿الشياطين على ملك﴾ أي زمن ملك
﴿سليمان﴾ من السحر الذي هو كفر. قال الحرالي: من حيث إن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر - انتهى. وكأن السحر كان في تلك الأيام ظاهراً عالياً على ما يفهمه التعبير بعلى، وأحسن من هذا أن يضمن
﴿تتلوا﴾ تكذب، فيكون التقدير: تتلو كذباً على ملكه، كما أشار إليه ما رواه البغوي وغيره عن الكلبي وكذا ما روي عن السدي، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: وروى في الحديث: «أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبت أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا، وجعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا كتاب آصف بن برخيا الصديق لسليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر
73
كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه؛ فاستخرجه بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس، فليس هو في أحد أكثر منه في يهود» انتهى.
وسليمان - على ما ذكر في أول إنجيل متّى أثناء إنجيل لوقا - هو ابن داود بن لَسَّى ابن عونيد بن باعاز بن سلمون بن يصون بن عميناداب بن أرام بن يورام بن حصرون بن فارض بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام والحاصل أنهم مع تركهم للكتب المصدقة لما معهم، الكفيلة بكل هدى وبركة، الآتية من عند الله المتحبب إلى عباده بكل جميل، على ألسنة رسله الذين هم أصدق الناس وأنصحهم وأهداهم، لا سيما هذا الكتاب المعجز الذين كانوا يتباشرون بقرب زمن صاحبه، اتبعوا السحر الذي هو أضر الأشياء وأبشعها، الآتي به الشياطين الذين هم أعدى الأعداء وأفظعها، وأعجب ما في ذلك أنهم نسبوا السحر إلى سليمان عليه السلام كذباً وفجوراً وكفروه به ثم كانوا هم أشد الناس تطلباً له ومصاحبة علماً وعملاً وأكثر ما يوجد فيهم، فكانوا بذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر؛ ومن المحاسن أيضاً أنه لما كان قوله:
{ولقد
74
آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: ٨٧] وما بعده في الكتب والأنبياء والرسل من البشر والملائكة كانت فذلكته أن الكفرة من أهل الكتاب نبذوا ذلك كله ونابذوه وأقبلوا على السحر الذي كان إبطاله من أول معجزات نبيهم وأعظمها؛ فهو أشد شيء منافاة لشرعهم مع علمهم بأن ذلك يضرهم في الدارين ولا ينفعهم.
ولما اعتقد أهل الكتاب بعد موت سليمان عليه السلام أن السحر منه، وأن انتظام ملكه على الإنس والجن والطير والوحش والريح إنما كان به، نفى الله تعالى ذلك عنه بقوله:
﴿وما كفر سليمان﴾، قال الحرالي: يقال هو من السلامة، فإنه من سلامة صدره من تعلقه بما خوله الله تعالى من ملكه
﴿هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر﴾ [النمل: ٤٠]
75
وهو واحد كمال في ملك العالم المشهود من الأركان الأربعة وما منها من المخلوقات - انتهى. أي ما وقع منه كفر ما فضلاً عن أن يكون بالسحر الذي هو أبعد الأشياء عن آيات الأنبياء
﴿ولكن الشياطين كفروا﴾.
ثم بين كفرهم بقوله:
﴿يعلمون الناس﴾ أي المضطرين الذين لم يصلوا إلى سِنّ الذين آمنوا
﴿السحر﴾ أي الذي ولدوه هم بما يزينونه من حاله ليعتقد أنه مؤثر بنفسه ونحو ذلك، كما أن الأنبياء وأتباعهم يعلمون الناس الحق بما يبينونه من أمره. والسحر قال الحرالي: هو قلب الحواس في مدركاتها عن الوجه المعتاد لها في صحتها عن سبب باطل لا يثبت مع ذكر الله عليه. وقال الكرماني: أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته. وقال الأصفهاني: اختلفوا في تعلمه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه حرام، الثاني أنه مكروه، الثالث أنه مباح، والحق أنه إن كان تعلمه للعمل فهو حرام، وإن كان لتوقيه وعدم الاغترار به فهو مباح، وقال: والمراد بالسحر ما يستعان
76
في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا يميز الساحر عن الولي والنبي؛ وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام، وتسميته سحراً على التجوز لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل لما خفي سببه.
وقوله:
﴿وما﴾، أي واتبعوا أو ويعلمون
﴿ما أنزل على الملكين﴾ قال الحرالي: فيه إنباء بأن هذا التخييل ضربان: مودع في الكون هو أمر الشياطين، ومنزل من غيب هو المتعلم من الملكين؛ وقال:
﴿ببابل﴾ تحقيقاً لنزولهما إلى الأرض
﴿هاروت وماروت﴾ بدل من الملكين، كأنهما لما كانا مع الحاجة إليهما لا يحتاجان إلى أحد
77
وُصفا أيضاً بكونهما ملكين - بكسر اللام، وعبارة الحرالي: ملَكان جعلا ملِكين في الأرض، والآية من إظهار الله للملائكة أفضل الخليفة. ثم بين نصيحة الملكين بقوله:
﴿وما﴾ فأنبأ أن التقدير: وما كفر الملكان كما كفر الشياطين فإنهما ما
﴿يعلمان﴾، وزيادة من في قوله:
﴿من أحد﴾ لتأكيد الاستغراق
﴿حتى يقولا إنما نحن فتنة﴾ أي على صورة الاختبار من الله لعباده، فإنه يعلم نبأ من يختار السحر لما فيه من النفع العاجل على أمر النبوة فيكفر، ومن يعلم حقيقته لئلا يقع فيه وهو لا يشعر ثم يتركه إقبالاً على دين الله؛ ووحد والمخبر عنه اثنان لأنها مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع. قال الحرالي: وأصل معناها من فتن الذهب وهو تسخيره ليظهر جوهره ويتخلص طيبه من خبيثه - انتهى.
﴿فلا تكفر﴾ بالعمل بما نعلمكه، فإن العمل به كفر، أو باعتقاد أنه حق مغن عما جاء عن الله، أو مؤثر بنفسه
﴿فيتعلمون منهما ما يفرقون به﴾ مخالفة للملكين في النهي عن ذلك، وذكر الفرقة في أشد الاتصال ليفهم منه ما دونه فقال:
﴿بين المرء وزوجه﴾، والمرء اسم سن من أسنان
78
الطبع يشارك الرجل به المرأة ويكون له فيه فضل ما ويسمى معناه المروة - قاله الحرالي.
ولما ذكر السبب القريب للضرر رده إليه ترقية للذهن الثاقب إلى أعلى المراتب وصوناً له عن اعتقاده ما لا يناسب فقال:
﴿وما هم بضارين﴾ وهو من الضر - بالفتح والضم - وهو ما يؤلم الظاهر من الجسم وما يتصل بمحسوسه، في مقابلة الأذى وهو إيلام النفس وما يتصل بأحوالها، وتشعر الضمة في الضر بأنه عن علو وقهر، والفتحة بأنه ما يكون عن مماثل ونحوه، وقل ما يكون عن الأدنى إلا أذى ومنه
﴿لن يضروكم إلا أذى﴾ [آل عمران: ١١١] قاله الحرالي:
﴿به من أحد﴾. ولما أكد استغراقه بضروب من التأكيد تلاه بمعيار العموم فقال:
﴿إلا بإذن الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفؤ له، وفيه إعلام لهم بأن ضرره
79
لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الضرر الضعيف حيث سحره لبيد بن الأعصم إنما هو كضرر غيره من الأسباب التي قد تخفى فيضاف الأمر في ضررها إلى الله تعالى، وقد تعرف فيضاف الضرر إليها كما كان يحصل لغيره من إخوانه من الأنبياء منهم ومن غيرهم، والعلم حاصل بأن المؤثر في الجميع في الحقيقة هو الله تعالى، وسيأتي عند قوله تعالى:
﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها﴾ [الأنعام: ٩٧] في سورة الأنعام ما ينفع استحضاره هنا.
ولما كان هذا الذي تقدم وإن كان للعامل به نفع على زعمه فضره أكبر من نفعه اتبعه قسماً آخر ليس للعامل به شيء غير الضر؛ فليس الحامل على تعلمه إلا إيثاراً للحاق بإبليس وحزبه فقال:
﴿ويتعلمون﴾، أي من السحر الذي ولده الشياطين لا من الملكين
﴿ما يضرهم﴾ لأن مجرد العمل به كفر أو معصية ثم حقق أنه ضرر كله لا شائبة للنفع فيه بقوله:
﴿ولا ينفعهم﴾
80
لأنه لا تأثير له أصلاً، والنفع وصول موافق الجسم الظاهر وما يتصل به في مقابلة الضر، ولذلك يخاطب به الكفار كثيراً لوقوع معنيهما في الظاهر الذي هو مقصدهم من ظاهر الحياة الدنيا - قاله الحرالي.
ثم أتبعه ما يعرف أنهم ارتكبوه على علم فقال محققاً مؤكداً:
﴿ولقد علموا﴾، بياناً لأنهم أسفه الناس
﴿لمن اشتراه﴾ أي آثره على ما يعلم نفعه من الإيمان
﴿ما له في الآخرة﴾ الباقية الباقي نفعها
﴿من خلاق﴾ أي نصيب موافق أصلاً، والخلاق الحظ اللائق لمن يقسم له النصيب من الشيء كأنه موازن به خلق نفسه وخلق جسمه - قاله الحرالي.
ثم جمع لهم المذامّ على وجه التأكيد فقال:
﴿ولبئس ما شروا﴾، أي باعوا على وجه اللجاجة
﴿به أنفسهم﴾ إشارة إلى أنه مما أحاط بهم فاجتثت نفوسهم من أصلها فأوجب لهم الخلود في النار، ثم قال بعد إثبات العلم لهم:
﴿لو كانوا يعلمون﴾، أي لو كان لهم قابلية لتلقي واردات
81
الحق، إشارة إلى أن هذا لا يقدم عليه من له أدنى علم، فعلمهم الذي أوجب لهم الجرأة على هذا عدم بل العدم خير منه.
ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار اتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال:
﴿ولو أنهم آمنوا﴾ أي بما دعوا إليه من هذا القرآن، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر
﴿واتقوا﴾ ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقاً فنسخ من التوراة فصار باطلاً، ومن الإقدام على ما لم يكن حقاً أصلاً من السحر لأثيبوا خيراً مما تركوا، لأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما يقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال:
﴿لمثوبة﴾ صيغة مفعلة من الثواب وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة
82
إشعار بعلو وثبات - قاله الحرالي، وشرفها بقوله:
﴿من عند الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال، وزادها شرفاً بقوله:
﴿خير﴾، مع حذف المفضل عليه.
قاله الحرالي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفاً لهذه المثوبة وإلحاقاً لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته - انتهى. وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرز من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه.
ثم أكد الخبر بأن علمهم جهل بقوله:
﴿لو كانوا يعلمون﴾ وقال الحرالي: فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو
83
شر وهذه ترغب في منال ما هو خير؛ وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو علم الأسماء ومنافع القرآن يكون لهم عوضاً من علم السيميا الذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر، زاد ما زاد».
وحقيقة السيميا أمر من أمر الله أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة من مواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله تعالى لمن شاء أن يفتنه به، حتى كانت فتنة اسم السيميا من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالاً إظهاراً لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين: دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم
﴿ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون﴾ [الروم: ١٤].
ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه كان من المثوبة لمن
84
آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس والمعوذتان حرزاً وإبطالاً وتلقفاً لما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً باقياً لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقاً، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع، ويكاد أن لا يقف من جاءه هذه الآية لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات - انتهى.
ولما كان من الحق كما قال الحرالي إجراء الأمور على حكم ما أثبتها الحق لأنها بذلك حق هو مثال للحق المبين وصرفها إلى من لم يثبتها الحق في حيزه إفك وقلب عن وجهه فهو خيال باطل هو في باب الرأي بمنزلة السحر في الحس فهو خيال لما صحة النسبة فيه مثال اتبع الآيات الذامة للسحر الحقيقي التنبيه على السحر المجازي الذي حيلوا به الخير وقصدوا به الشر ليكون النهي عنه نهياً عن الأول بطريق الأولى فقال ملتفتاً عن ذكرهم إلى خطاب المؤمنين الذي هو أخص من
﴿يا بني إسرائيل﴾ الأخص من
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١] {يا أيها الذين
85
آمنوا}، أي أقروا بالإيمان صدقوا إقراركم به بأن
﴿لا تقولوا﴾ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿راعنا﴾ التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وخفض الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم ويقصدون بها الرعونة وهي إفراط الجهالة فنهاهم عن موافقتهم في القول منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال:
﴿وقولوا انظرنا﴾ فأبقى المعنى وصرف اللفظ. قال الحرالي: ففيه إلزام تصحيح الصور لتطابق تصحيح المقاصد وليقع الفرق بين الصورتين كما وقع الفرق بين المعنيين فهي آية فرقان خاصة بالعرب. قال الأصفهاني:
86
وهذا النهي اختص بهذا الوقت، قال الواحدي لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذا اللفظ الآن وقال:
﴿واسمعوا﴾ أي قولوا ما أمرتكم به وامتثلوا جميع أوامري ولا تكونوا كاليهود في حملهم السماع على حقيقته وقولهم
﴿سمعنا وعصينا﴾ وعطف
﴿وللكافرين﴾ على غير معطوف عليه مذكور مرشد إلى أن التقدير: فإن السماع أي القبول إيمان وللسامعين نعيم كريم والإعراض كفر وللكافرين من اليهود وغيرهم
﴿عذاب أليم﴾.
ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال علل بعلة أخرى فقال:
﴿ما يود الذين كفروا﴾ مطلقاً
﴿من أهل الكتاب﴾ اليهود والنصارى
﴿ولا﴾ من المشركين بأي نوع كان من أنواع
87
الشرك بغضاً فيكم حسداً لكم
﴿أن ينزل عليكم﴾ وأكد الاستغراق بقوله:
﴿من خير من ربكم﴾ أي المحسن إليكم، فكأنه قيل: للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه: إحداهما أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلاً عن أن تمتثلوه، ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة، ولم يعطف
﴿ما يود﴾ لأنه مع ذلك علة للعلة، فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيراً؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه.
ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقاً الأمر بالاسم الأعظم
88
الجامع:
﴿والله﴾ أي ما يودون والحال أن ذا الأسماء الحسنى
﴿يختص﴾ ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله:
﴿برحمته﴾ التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك
﴿من يشاء﴾ أي يجعله مختصاً أي منفرداً بها من بين الناس، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم؛ و
«الاختصاص» عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، و
«الرحمة» نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب - قاله الحرالي. ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدراً له بالاسم الأعظم أيضاً عاطفاً على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال
89
تعريضاً باليهود: فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم
﴿والله﴾ أي الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفؤ له
﴿ذو الفضل العظيم﴾ أي الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد.
90
ولما حرم سبحانه قوله
﴿راعنا﴾ بعد حله وكان ذلك من باب النسخ وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البدا - أي بفتح الموحدة مقصوراً - وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى، هذا مع أن النسخ في كتابهم الذي بين أظهرهم، فإن فيه أنه تعالى أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس بعد مقاتلة الجبارين، فلما أبوا حرم عليهم دخولها ومنعهم منه ومن القتال بالقدرة والأمر، كما ستراه عن نص التوراة في سورة المائدة إن شاء الله
90
تعالى، وأمرهم بالجمعة فاختلفوا فيه، كما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأتي في قوله تعالى:
﴿إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه﴾ [النحل: ١٢٤] واختاروا السبت، ففرض عليهم وشدد عليهم فيه وأحل لهم جميع اللحوم والشحوم، لما اتخذوا العجل حرم عليهم الشحوم؛ وأعظم من ذلك تعاطيهم من النسخ ما لم يأذن به الله في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وتحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم لهم ما شاؤوا من الأحكام التي تقدم عد جملة منها أصولاً وفروعاً، كما قال تعالى:
﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ [التوبة: ٣١]، ولما قال عدي بن حاتم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يا رسول الله! إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: أليسوا يحلون لهم ويحرمون؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم لهم» كما هو مبين في السيرة في وفادة عدي؛ وكما فعلوا في إبدال الرجم في الزنا بالتحميم والجلد؛ وفي اتباع ما تتلو الشياطين مع أن فيه إبطال كثير من شرعهم؛ وفي نبذ فريق منهم كتاب الله؛ وفي قولهم:
﴿سمعنا وعصينا﴾ [البقرة: ٩٣]، وفي اتخاذهم العجل مع النهي عن ذلك - وكل ما شاكله في كثير من فصول التوراة وفيما أشير إليه بقوله:
﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ [البقرة: ٨٥] إلى غير ذلك، لما كان ذلك قال تعالى جواباً عن طعنهم
91
سابقاً له في مظهر العظمة معلماً أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهوراً فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضاً على المنعم يكون سبباً لإلباس المحسود ثوب الحاسد:
﴿ما ننسخ﴾ والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه.
أو باقتباس يغني عن غيبته وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر - انتهى. وساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث
92
من الأسباب
﴿من آية﴾ أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء كانت في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس أو لم تكن؛ وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلاً ولا خيراً، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحاً بجديد أو اغتباطاً بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته - قاله الحرالي:
﴿أو ننسأها﴾ أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلاً، وكذا معنى
﴿أو نُنسها﴾ من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها
93
﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ كما فعلنا في
﴿راعنا﴾ وغيرها. أو يكون المعنى
﴿ما ننسخ من آية﴾ فنزيل حكمها أو لفظها عاجلاً كما فعلنا في
﴿راعنا﴾ أو
﴿ننسأها﴾ بأن نؤخر نسخها أو نتركه - على قراءة
﴿ننسها﴾ زمناً ثم ننسخها كالقبلة
﴿نأت﴾ عند نسخها
﴿بخير منها أو مثلها﴾، ، وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى. والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء إلا للأئمة من آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة. ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخاً، وإنما كان إنساء وتأخيراً لحكم
94
الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي، فلم يلقن ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فسره فقال:
«إنما نهيتكم من أجل الدافة»، ففي متسع فقهه أن أحكاماً تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة. ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسء، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسء الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة.
قلت: وحاصله تأخير الحل كما ذكر أو الحرمة كما في المتعة ونحو ذلك إلى وقت آخر وذلك هو مدلول النسء على ما كانت العرب تتعارفه كما سيأتي تحريره في سورة براءة عند
﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ [التوبة: ٣٧] قال: وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله
95
من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسء كالسنن التي أبداها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ. وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه:
«بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي» ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها
96
بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني؛ فلله تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجباراً مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم - انتهى. واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه
97
أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مراراً وكان ناسخاً لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من
﴿لا يسأل عما يفعل﴾ [الأنبياء: ٢٣] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفاً، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غداً، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضاً عن خطابهم تعريضاً بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله:
﴿ألم تعلم أن الله﴾ أي الحائز لجميع أوصاف الكمال
﴿على كل شيء قدير﴾ على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم.
ويقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر.
98
ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحد والناس على قلب رجل واحد
﴿ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً﴾ [يونس: ٩٩]
﴿لجعل الناس أمة واحدة﴾ [هود: ١١٨] ولكنه مالك الملك وملك السماوات والأرض، يتصرف على حسب ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه، وهل يجوز أن يعترض العبد الذي لا ينفك أصلاً من الرق على السيد الثابت السودد على أنه لا يلزمه شيء أصلاً فلا يلزمه الأمر على حسب المصالح؛ ثم أتبع ذلك بما هو كالدليل على شمول القدرة فقال:
﴿ألم تعلم أن الله﴾ الجامع لأنواع العظمة
﴿له ملك السماوات والأرض﴾ يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء. قال الحرالي: فهو بما هو على كل شيء قدير يفصل الآيات، وهو بما له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر - انتهى.
ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه وعظمته بالاسم العلم الذي هو أعظم من مظهر العظمة في ننسخ وننسا بالإقبال على خطاب من لا يعلم ذلك حق علمه غيره فتهيأت قلوب السامعين وصغت لفت الخطاب إليهم ترهيباً في إشارة إلى ترغيب فقال: {وما لكم
99
من دون الله} المتصف بجمع صفات العظمة
﴿من ولي﴾ يتولى أموركم، وهو من الولاية، قال الحرالي: وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة
﴿ولا نصير﴾ فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه ولا تلفتوها عنه، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائناً ما كان لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحواً مما لقنت ظواهر ألسنتهم، بأن تستمسك بسابق فرقانها فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعاً لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها - أفاده الحرالي وقال: وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى:
﴿إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما﴾ [البقرة: ٢٦] الآية، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن
100
الجامعة لجميع ما تفصّل فيه؛ وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه؛ وهي سيدة سور القرآن؛ ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض أثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها وسيادة خطابها نحواً من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة مّا - انتهى. ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته وعظيم مملكته وما أظهر لذاته المقدس من العظم بتكرير اسمه العلَم وإثبات أن ما سواه عدم فتأهلت القلوب للوعظ صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد فقال:
﴿أم﴾ أي أتريدون أن تردوا أمر خالقكم في النسخ أم
﴿تريدون أن﴾ تتخذوا من دونه إلهاً لا يقدر على شيء بأن
﴿تسألوا رسولكم﴾ أن يجعل لكم إلهاً غيره
﴿كما سئل موسى﴾ ذلك. ولما كان سؤالهم ذلك في زمن يسير أثبت الجار فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل هذا الزمان إذ قال قومه بعد ما رأوا من الآيات وقد مرّوا بقوم يعكفون على أصنام لهم:
﴿اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة﴾ [الأعراف: ١٣٨] وقالوا:
﴿أرنا الله جهرة﴾ [النساء: ١٥٣]. وقالوا: {لن نصبر على طعام
101
واحد} [البقرة: ٦١] وكانوا يتعنتون عليه في أحكام الله بأنواع التعنتات كما تقدم. و
«الإرادة» في الخلق نزوع النفس لباد تستقبله - قاله الحرالي. وأدل دليل على ما قدرته قوله عطفاً على ما تقديره: فيكفروا فإنه من سأل ذلك فقد تبدل الكفر بالإيمان
﴿ومن يتبدل الكفر بالإيمان﴾ أي يأخذ الكفر بدلاً من الإيمان بالإعراض عن الآيات وسؤال غيرها أو التمسك بما نسخ منه، وعبر بالمضارع استجلاباً لمن زل بسؤال شيء من ذلك إلى الرجوع بالتوبة ليزول عنه الاستمرار فيزول الضلال
﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ أي عدله ووسطه فلم يهتد إليه وإن كان في بينات منه، فإن من حاد عن السواء أوشك أن يبعد بعداً لا سلامة معه
﴿وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ [الأنعام: ١٥٣] وكثيراً ما كان يتزلزل طوائف من الناس عند تبدل الآيات وتناسي الأحكام وبحسب ما يقع في النفس من تثاقل عنه أو تحامل على قبوله
102
يلحقه من هذا الضلال عن سواء هذا السبيل؛ وفيه إشعار بأن الخطاب للذين آمنوا، لأن المؤمنين المعرفين بالوصف لا يتبدل أحوالهم من إيمان الكفر، لأن أحداً لا يرتد عن دينه بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه
﴿فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها﴾
[البقرة: ٢٥٦]
﴿ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ ؛ [لقمان: ٢٢] وقال عليه الصلاة والسلام:
«إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه» فبذلك يتضح مواقع خطاب القرآن مع المترتبين في أسنان القلوب بحسب الحظ من الإيمان والإسلام والإحسان - قاله الحرالي. وعرف
﴿السبيل﴾ بأنه المشتمل على قوام السائر فيه والسالك له من نحو الرعي والسقي وشبهه، والسواء بأنه من الشيء أسمحه
103
بالأمر الذي قصد له، قال: ويقال هو وسطه وخياره.
ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام قال تعالى مخاطباً للمؤمنين وهم في غمارهم تنفيراً لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه فكيف وهو شماتة العدو وبتخييله وودادته تحذيراً لهم من مخالطتهم:
﴿ود كثير﴾ وهو تعليل لمعنى الكلام وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان، بعد تعليله بالضلال؛ وذلك كما مضى في
﴿ما يود الذين كفروا﴾ [البقرة: ١٠٥] سواء.
ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال:
﴿من أهل الكتاب﴾ فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال:
﴿لو يردونكم﴾ أي بأجمعكم؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال:
﴿من بعد إيمانكم﴾ أي الراسخ
﴿كفاراً﴾ أي لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار
﴿حسداً﴾ على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة، والحسد قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد
104
إلى غاية لا حيلة معها في تركه بقوله:
﴿من عند أنفسهم﴾ أي إنه راسخ في طبائعهم فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيداً بقوله مشيراً بإثبات الجار إلى ذمهم بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه وقهرهم عرفانه، ثم لم يرجعوا إليه؛ وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه
﴿من بعد ما تبين﴾ أي بياناً عظيماً بوضوحه في نفسه
﴿لهم الحق﴾ أي من صحة رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه خاتم النبيين المرسل إلى الناس
105
كافة بشهادة ما طابقه من التوراة، ومن أنهم خالدون في النار، لأنهم ممن أحاطت به خطيئته بما دل عليه سبحانه في جميع هذه الآيات إبطالاً لدعواهم في مس النار لهم أياماً معدودة.
ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسبباً عن الإخبار بأن ودهم محال وبعدم رجوعهم:
﴿فاعفوا﴾ أي عاملوهم معاملة العافي بأن لا تذكروا لهم شيئاً مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم،
﴿واصفحوا﴾ أي أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك، وأصل معناه من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء كأنه لم يره، وأمرهم بمطلق الصفح ولم يفيده بالجميل الذي اختص به خطاب نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ [الحجر: ٨٥] لتنزل الخطاب على مراتبه ومستحق مواقعه. وحثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتماداً على تفريجه سبحانه بقوله:
﴿حتى يأتي الله﴾ الذي لا أمر لأحد معه
﴿بأمره﴾ فبشرهم
106
بذلك بظهورهم على من أمروا بالصفح والعفو عنهم، وقد كان مبدأ ذلك ويتم في زمن عيسى عليه السلام.
107
ولما كان النصر وهم في القلة والضعف بحال عظيم وقوة عدوهم وكثرتهم أعظم مستبعداً قال:
﴿إن الله﴾ وأظهر موضع الإضمار تحقيقاً للبشرى بالإيماء إلى استحضار ما يدل عليه هذا الاسم الأعظم من صفات الجلال والإكرام
﴿على كل شيء قدير﴾ ففي هذا الختم بشرى للمؤمنين بتقديرهم كما أن في الختم بالعلم بشرى بتعليمهم. وفي إفهامه نذارة للكافرين بمقابل ذلك.
ولما أمرهم بالثقة بهذا الكتاب ما نسخ منه وما لم ينسخ وأن
107
لا يعوقهم عنه طعن الطاعنين ولا حسد الحاسدين وأمرهم بالإعراض عن الغير أمرهم بالإقبال على إصلاح النفس والإحسان إلى الغير مما اتصف به المهتدون في قوله تعالى:
﴿ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة: ٢] ولما كان المقصود من الصلاة قصر الهمة والنية على الحضرة الإلهية وتفريغ البال من جميع الشواغل علم أن التقدير بعد الختم بشمول القدرة فاعلموا ذلك وثقوا به
﴿وأقيموا الصلاة﴾ التي هي مع كونها سنبتليكم في قبلتها بالنسخ قوام الدين والمعينة على جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه
﴿وآتوا الزكاة﴾ التي هي قرينة الصلاة، فمن فرق بينهما فقد نسخ ما أثبت الله فاستحق القتال ليرجع عما ارتكب من الضلال، وهي من أعظم نفقات المؤمنين إحساناً إلى الخلائق إن كنتم مصلين بالحقيقة، فإن المال بعض
108
ما صرفت عنه الصلاة من أعراض الدنيا.
ولما كان قوله:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا﴾ [البقرة: ١٠٤] وما بعده خطاباً للمؤمنين تحذيراً من كيد أعدائهم بالنهي عما يرديهم والأمر بما ينجيهم وختمه بهذه الآية فذلكة لذلك كله جميعاً لمعانيه وفتحها برأس العبادات البدنية والمالية وكانت
«أل» مشيرة إلى الواجب من ذلك ختم الآية نفسها بالأمر العام الجامع فقال:
﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير﴾ أي من الصلاة والزكاة وغيرهما فرضاً ونفلاً
﴿تجدوه﴾ وزاد ترغيباً فيه بقوله:
﴿عند الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال. فهو يحفظه بما له من العلم والقدرة ويربيه بما له من الكرم والرحمة - إلى غير ذلك من أمور الفضل.
ولما كان الشيء قد يهمل لكونه صغيراً وقد لا يطلع عليه لكونه خفياً حقيراً قال مرغباً مرهباً:
﴿إن الله﴾ المحيط قدرة وعلماً
﴿بما تعملون بصير﴾ وأظهر الاسم في موضع الإضمار إشعاراً بالاستئناف للخير ليكون ختماً جامعاً. لأنه لو عاد على خصوص هذا الخطاب لكان
«إنه»، وذلك لأن تجديد الإظهار يقع بمعنى رد
109
ختم الخطاب على إحاطة جملته - قاله الحرالي. والمعنى أنه لو أضمر لكان ربما أفهم تقيد علمه بحيثية ما تقدم من عمل الخير؛ وعلى مثل هذا دل قول العلامة شمس الدين الغزي في أول شرحه لإيساغوجي: الغالب في المضمر إرادة المعنى الأول، وأما حديث: إعادة الشيء معرفة.
فأصل يعدل عنه كثيراً للقرائن.
ولما ذكر دعواهم في مس النار وأبطلها من وجوه كثيرة أحاطت بهم فيها الخطايا إحاطة اقتضت خلودهم فيها من جهة ضلالهم إلى آية
110
النسخ مرقياً الخطاب من سيئة إلى أسوأ منها ثم من جهة إضلالهم لغيرهم من آية النسخ عطف على تلك الدعوى الإخبار بدعواهم في دخول الجنة تصريحاً بما أفهمته الدعوى الأولى تلويحاً وقرن بذلك مثل ما ختم به ما قبلها من أن من فعل خيراً وجد على وجه بين فيه أن ذلك الخير الإسلام والإحسان فقال تعالى:
﴿وقالوا﴾ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى حسداً منهم على المسبب الذي هو الجنة كما حسدوا على السبب وهو إنزال ما اقتضى الإيمان الموصل إلى الرضوان الذي به تستباح الجنان
﴿لن يدخل الجنة﴾ المعدة لأولياء الله
﴿إلا من كان هوداً﴾ هذا قول اليهود منهم
﴿أو نصارى﴾ وهذا قول النصارى نشراً لما لفته الواو في
﴿وقالوا﴾.
111
ولما كانوا أبعد الناس عن هذه الأماني التي تمنوها لأنفسهم لمنابذتهم لما عندهم من العلم والتي حسدوا فيها المؤمنين لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال مشيراً إلى بعدهم عن ذلك على وجه الاستئناف معترضاً بين الدعوى وطلب الدليل عليها تعجيلاً لتوهيتها:
﴿تلك﴾ بأداة البعد
﴿أمانيهم﴾ تهكماً بهم، أي أمثال هذه الشهوة من ودهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفاراً، وأن لا يدخل الجنة غيرهم - وأمثال ذلك من شهواتهم.
ولما كان كل مدع لغيب مفتقراً في تصحيح دعواه إلى دليل وكان مثل هذا لا يقنع فيه إلا بقاطع أمر أعلم الخلق لأنه لا ينهض بأخراسهم في علمهم ولددهم غيره بمطالبتهم بذلك ناقضاً لدعواهم فقال:
﴿قل هاتوا برهانكم﴾ بلفظ البرهان. قال الحرالي: وهو علم قاطع الدلالة غالب القوة بما تشعر به صيغة الفعلان ضم أولها وزيادتا آخرها،
112
وهذا كما افتتح تلك بالنقض بقوله:
﴿قل أتخذتم﴾ وفي ذلك إعلام بأنه تعالى ما غيّب شيئاً إلا وأبدى عليه علماً ليكون في العالم المشهود شفاف عن العالم الغائب - قاله الحرالي. قالوا: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ودليل على أن كل قول لا برهان عليه باطل.
ولما نادى عليهم بالكذب في قوله:
﴿إن كنتم صادقين﴾ أثبت لغيرهم بقوله:
﴿بلى﴾ ما ادعوا الاختصاص به، ثم بين أهل الجنة بقوله:
﴿من أسلم وجهه﴾ أي كليته، لأن الوجه أشرف ما ظهر من الإنسان، فمن أسلمه أسلم كله، كما أن
«الإيمان» إذعان القلب الذي هو أشرف ما بطن وإذعانه إذعان جميع الأعضاء؛ و
«الإسلام» قال الحرالي: الإلقاء بما يكون من منة في باطن أو ظاهر؛ و
«الوجه» مجتمع حواس الحيوان، وأحسن ما في الموتان - وهو ما عد الحيوان، وموقع الفتنة من الشيء الفتان؛ وهو أول ما يحاول إبداؤه من الأشياء لذلك
﴿لله﴾ من أجل أنه الله الجامع للكمال.
ولما كان ذكر الأجر لكل واحد بعينه أنص على المقصود وأنفى
113
للتعنت، أفرد الضمير فقال:
﴿وهو محسن﴾ في جانب الحق بإذعان القلب، وفي جانب الخلق بما يرضي الرب، فصار يعبد الله كأنه يراه، فطابق سره علنه. ولما نفوا الأجر عن غيرهم وأثبته سبحانه للمتصف بالإسلام منهم وممن سواهم وكان ربما قيل إنه أعطى غيرهم لكونه الملك المطلق بغير سبب ربط الأجر بالفاء دليلاً على أن إسلامهم هو السبب فقال:
﴿فله﴾ خاصة
﴿أجره عند ربه﴾ إحساناً إليه بإثبات نفعه على حسب ما ربّه به في كل شريعة.
ولما كان ربما ادعى أنه ما أفرد الضمير إلا لأن المراد واحد بعينه فلا يقدح ذلك في دعوى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود أو النصارى جمع فقال:
﴿ولا خوف عليهم﴾ من آت
﴿ولا هم يحزنون﴾ على شيء فات دفعاً لضرهم، وهذا كما أثبت سبحانه خلاف دعواهم في مس النار بقوله:
﴿بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته﴾ [البقرة: ٨١] الآية، فالتحم الكلام بذلك أشد التحام وانتظم أي انتظام.
ولما أبطل دعوى اختصاصهم بالرحمة قدحاً منهم في غيرهم وأثبتها للمحسنين أتبع ذلك قدح كل فريق منهم في الآخر وبيان انتفائها عنهم بإساءتهم بإبطال كل فرقة منهم دعوى الأخرى مع ما يشهد به
114
كتاب كل من بطلان قوله فقال:
﴿وقالت اليهود ليست﴾ أنث فعلهم لضعف قولهم وجمع أمرهم
﴿النصارى على شيء﴾ أي يعتد به لكونه صحيحاً، وليس مخففة من وزن فرح، ومعناها مطلق النفي لمتقدم إثبات أو مقدره - قاله الحرالي.
﴿وقالت النصارى﴾ كذلك
115
﴿ليست اليهود على شيء﴾ فعجب منهم في هذه الدعوى العامة لما قبل التبديل والنسخ وما بعده بقوله:
﴿وهم﴾ أي والحال أنهم
﴿يتلون الكتاب﴾ أي مع أن في كتاب كل منهم حقية أصل دين الآخر.
ثم شبه بهم في نحو هذا القول الجهلة الذين ليس لهم كتاب الذين هم عندهم ضلال، وفي ذلك غاية العيب لهم لتسوية حالهم مع علمهم بحال الجهلة في القطع في الدين بالباطل كما سوى حالهم بهم في الحرص على الحياة في الدنيا ومنهم عبدة الأصنام الذين منهم العرب الذين أخرجوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بلده ومنعوه من مسجد أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام الذي هو الحقيق به دونهم، وساق ذلك جواب سائل كأنه قال: هذا قول العلماء بالكتاب فما حال من لا علم له؟ فقال:
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا القول البعيد عن القصد
﴿قال الذين لا يعلمون﴾ ولما كان صدور هذا من أهل العلم في غاية الغرابة وصدوره من الجهلة
116
أغرب نبه تعالى على أن سامعه جدير بأن يقول لعده له عداد ما لا يصدق: كيف قال الجهلة؟ فقال أو يقال: ولما كان قولهم هذا لا يكاد يصدق من شدة غرابته كان كأنه قيل: أحق كان هذا منهم حقيقة أم كنى به عن شيء آخر؟ فأجيب بقوله:
﴿كذلك﴾ أي الأمر كما ذكرنا عنهم حقيقة لا كناية عن شيء غيره، فلما استقر في النفس كان كأنه قيل: هل وقع هذا لأحد غيرهم؟ فقيل: نعم، وقع أعجب منه وهو أنه قال الجهلة
«كعبدة الأصنام والمعطلة» ﴿مثل قولهم﴾ فعاندوا وضللوا المؤمنين أهل العلم بالكتاب الخاتم الذي لا كتاب مثله وضللوا أهل كل دين.
ولما وقع الخلاف بين هذه الفرق تسبب عنه حكم الملك الذي لم يخلقهم سُدى بينهم فقال:
﴿فالله﴾ «الملك الأعظم» ﴿يحكم بينهم﴾ والحكم قصر المصرَف على بعض ما يتصرف فيه وعن بعض ما تشوّف إليه - قاله الحرالي. وحقق أمر البعث بقوله:
﴿يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ والآختلاف افتعال من الخلاف وهو تقابل بين رأيين
117
فيما ينبغي انفراد الرأي فيه - قاله الحرالي.
ولما اشتركت جميع هذه الفرق في الظلم وزاد الجهلة منع حزب الله من عمارة المسجد الحرام بما يرضيه من القول والفعل فازدادوا بذلك ظلماً آخر وكان من منع مسجداً واحداً لكونه مسجداً مانعاً لجميع المساجد قال:
﴿ومن أظلم﴾ أي منهم، وإنما أبدل الضمير بقوله:
﴿ممن منع مساجد الله﴾ أي
«الجامع لصفات الكمال التي هي جنان الدنيا لكونها أسباب الجنة التي قصروها عليهم، ثم أبدل من ذلك تفخيماً له تذكرة مرة بعد أخرى» قوله:
﴿أن يذكر فيها اسمه﴾ وعطف بقوله:
﴿وسعى في خرابها﴾ أي بتعطيلها عن ذكر الله لبعد وجوه ظلمهم زيادة في تبكيتهم. والمنع الكف عما يترامى إليه. والمسجد مفعل لموضع السجود وهو
118
أخفض محط القائم. والسعي الإسراع في الأمر حساً أو معنى. والخراب ذهاب العمارة، والعمارة إحياء المكان وإشغاله بما وضع له - قاله الحرالي.
ثم ذكر سبحانه ما رتبه على فعلهم من الخوف في المسجد الذي أخافوا فيه أولياءه وفي جميع جنسه والخزي في الدنيا والآخرة ضد ما رتبه لمن أحسن فقال:
﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿ما كان لهم﴾ أي ما صح وما انبغى
﴿أن يدخلوها﴾ أي المساجد الموصوفة
﴿إلا خائفين﴾ وما كان أمنهم فيها إلا بسبب كثرة المساعد على ما ارتكبوه من الظلم والتمالؤ على الباطل وسنزيل ذلك، ثم عمم الحكم بما يندرج فيه هذا الخوف فقال:
﴿لهم في الدنيا خزي﴾ أي عظيم بذلك وبغيره، ثم زاده بأن عطف عليه قوله:
﴿ولهم في الآخرة﴾ التي هم لها منكرون بالاعتقاد أو الأفعال
﴿عذاب عظيم﴾ فدل بوصف العذاب على وصف الخزي الذي أشار إليه بالتنوين.
قال الحرالي: وفيه إنباء بإحباط ما يصرف عنهم وجهاً من وجوه العذاب، فنالهم من العذاب العظيم ما نال الكافرين حتى كان ما كان لهم من ملة وكتاب لم يكن، وذلك أسوأ الخسار؛ قال: ومن الموعود أن من أعلام قيام الساعة تضييع
119
المساجد لذلك كل أمة وكل طائفة وكل شخص معين تطرق بجُرم في مسجد يكون فعله سبباً لخلائه فإن الله عز وجل يعاقبه بروعة ومخافة تناله في الدنيا، حتى ينتظم بذلك من خرب مدينة من مدن الإسلام أو كانت أعماله سبب خرابها، وفي ضمن ذلك ما كان من أحداث المسلطين على البيت المقدس بما جرّت إليه أعمال يهود فيه؛ قال: كذلك أجرى الله سنته أن من لم يقم حرمة مساجده شرده منها وأحوجه لدخولها تحت رقبة وذمة من أعدائه، كما قد شهدت مشاهدة بصائر أهل التبصرة وخصوصاً في الأرض المقدسة المتناوب فيها دول الغلب بين هذه الأمة
120
وأهل الكتاب
﴿الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين﴾ [الروم: ١-٣] فكل طائفة في بضعها إذا ساء عملها في مسجدها شردت منه ودخلته في بضع الأخرى خائفة كذلك حتى تكون العاقبة للمتقين حين يفرح المؤمنون بنصر الله، قال: وفي إشعاره تحذير من غلق المساجد وإيصادها وحجرها على القاصدين للتحنث فيها والخلوة بذكر الله، وليس رفع المساجد منعها بل رفعها أن لا يذكر فيها غير اسم الله، قال تعالى:
﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾ [النور: ٣٦] قال عمر رضي الله عنه لما بنى الرحبة: من أراد أن يلغط أو يتحدث أو ينشد شعراً فليخرج إلى هذه الرحبة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسلّ سيوفكم وبيعكم وشراءكم، وابنوا على أبوابها المطاهر» ففي حل ذلك إنباء بأن من عمل في مساجد الله بغير ما وضعت له من ذكر الله كان ساعياً في خرابها وناله الخوف في محل الأمن - انتهى.
ولما أفهمت الآية أنه حصل لأولياء الله منع من عمارة بيت الله بذكره وكان الله تعالى قد منّ على هذه الأمة بأن جعل الأرض كلها لها مسجداً سلّى المؤمنين بأنهم أينما صلوا بقصد عبادته لقيهم ثوابه، لأنه لا يختص به جهة دون جهة، لأن ملكه للكل على حدّ سواء؛ فكان كأنه قيل: فأقيموا الصلاة التي هي أعظم ذكر الله حيثما كنتم فإنه لله، كما أن المسجد الذي مُنعتموه لله؛ وعطف عليه قوله:
﴿ولله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿المشرق﴾ أي موضع الشروق وهو مطلع الأنوار
﴿والمغرب﴾ وهو موضع أفولها، فأنبأ تعالى كما قال الحرالي بإضافة جوامع الآفاق إليه إعلاماً بأن الوجهة لوجهه لا للجهة، من حيث إن الجهة له - انتهى.
121
ولما كان هذان الأفقان مداراً للكواكب من الشمس وغيرها عبر بهما عن جميع الجهات، لتحول الأفلاك حال الدوران
122
إلى كل منهما. فلذلك تسبب عن ذكرهما قوله:
﴿فأينما تولوا﴾ أي فأي مكان أوقعتم فيه التولية للصلاة إلى القبلة التي أمرتم بالتولية إليها من بيت المقدس أو الكعبة أو غيرهما في النافلة
﴿فثَم﴾ أي فذلك الموضع، لأن
«ثَمَّ» إشارة لظرف مكان
﴿وجه الله﴾ أي جهته التي وجهكم إليها أو مكان استقباله والتوجه إليه وما يستقبلكم من جلاله وجماله ويتوجه إليكم من بره وإفضاله. فإن نسبة جميع الأماكن والجهات في الإبداع والقرب والبعد وغير ذلك إليه واحدة. قال الحرالي: وأبهم المولى ليقع تولي القلب لوجه الله حين تقع محاذاة وجه الموجه الظاهر للجهة المضافة لله - انتهى.
123
ولما أخبر من سعة فضله مبثوثاً في واسع ملكه بما وقفت العقول عن منتهى علمه علله بما صغُر ذلك في جنبه فقال:
﴿إن الله﴾ فذكره بالاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء
﴿واسع﴾ أي محيط بما لا تدركه الأوهام، فلا يقع شيء إلا في ملكه؛ وأصل الوسع تباعد الأطراف والحدود
﴿عليم﴾ فلا يخفى عليه فعل فاعل أي ما كان وكيف ما كان، فهو يعطي المتوجه إليه على قدر نيته بحسب بلوغ إحاطته وشمول علمه وقدرته.
قال الحرالي في شرح الأسماء: والسعة المزيد على الكفاية من نحوها إلى أن ينبسط إلى ما وراء امتداداً ورحمة وعلماً
﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ [الأعراف: ١٥٦]
﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ [يونس: ٢٦]
﴿لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد﴾ [المائدة: ٣٥] ولا تقع السعة إلا مع إحاطة العلم والقدرة وكمال الحلم وإفاضة الخير والنعمة لمقتضى كمال الرحمة، ولمسرى النعمة في وجوه الكفايات ظاهراً وباطناً خصوصاً وعموماً لم يكد يصل الخلق إلى حظ من السعة، أما ظاهراً فلا تقع منهم ولا تكاد
«إنكم لن تسعوا الناس بمعروفكم»، وأما باطناً بخصوص حسن الخلق فعساه
124
يكاد. وقال في تفسيره: قدم تعالى:
﴿المشرق﴾ لأنه موطن بدو الأنوار التي منها رؤية الأبصار، وأعقبه بالمغرب الذي هو مغرب الأنوار الظاهرة وهو مشرق الأنوار الباطنة، فيعود التعادل إلى أن مشرق الأنوار الظاهرة هو مغرب الأنوار الباطنة
«الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان - وأشار بيده نحو المشرق» «لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق» انتهى. قلت: ومن ذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إن لله بالمغرب باباً - وفي رواية: باب التوبة مفتوح من قبل المغرب - مسيرة عرضه سبعون عاماً، لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله»
أخرجه الطبراني والبغوي في تفسيره، وقد ظهر أن المغرب في الحديث المتقدم هو في الصحيح ما عدا المشرق الذي أشار إليه بالفتنة في الحديث الآخر، فالمغرب حينئذ المدينة وما ينسب إليها من جهة المشرق وما وراء ذلك من جهة الجنوب والشمال وما وراء ذلك من جهة الغرب إلى منتهى الأرض، فلا يعارض حينئذ حديث
«وهم بالشام» فإنها من جملة المغرب على هذا التقدير، فدونك جمعاً طال ما دارت فيه الرؤوس وحارت فيه الأفكار في المحافل والدروس - والله الموفق.
125
ولما أفاد ما تقدم وصفه تعالى بتمام القدرة واتساع الملك والفضل وشمول العلم كان من المحال افتقاره إلى شيء ولد أو غيره قدّم أهل الأديان الباطلة كلهم بافترائهم في الولد اليهود في عزير والنصارى في المسيح وعبدة الأوثان في الملائكة فقال معجباً ممن اجترأ على نسبة ذلك إليه مع معرفة ما تقدم عاطفاً على ما سبق من دعاويهم:
﴿وقالوا اتخذ الله﴾ الذي له الكمال كله وعبر بقوله:
﴿ولداً﴾ الصالح للذكر والأنثى لينظم بذلك مقالات الجميع. ولما كان العطف على مقالات أهل الكتاب ربما أوهم اختصاص الذم بهم حذفت واو العطف في قراءة ابن عامر على طريق الاستئناف في جواب من كأنه قال: هل انقطع حبل افترائهم؟ إشارة إلى ذم كل من قال بذلك، وذلك إشارة إلى شدة التباسها بما قبلها كما قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة، لأن جميع المتحزبين على أهل الإسلام مانعون لهم من إحياء المساجد بالذكر لشغلهم لهم بالعداوة عن لزومها، والحاصل أنه إن عطف كان انصباب الكلام إلى أهل الكتاب وأما غيرهم فتبع لهم للمساواة
126
في المقالة، وإذا حذفت الواو انصب إلى الكل انصباباً واحداً.
ونزه نفسه الشريفة استئنافاً بقوله:
﴿سبحانه﴾ فذكر علم التسبيح الجامع لإحاطة المعنى في جوامع التنزيه كله، ثم جاء بكلمة الإضراب المفهمة الرد بالنفي فكأن الخطاب يفهم: ما اتخذ الله ولداً ولا له ولد
﴿بل له ما﴾ فعبر بالأداة التي هي لغير العاقل تصلح له تعميماً وتحقيراً لهم
﴿في السماوات والأرض﴾ مما ادعت كل فرقة منهم فيه الولدية وغير ذلك.
ثم علله بقوله معبراً بما يفهم غاية الإذعان:
﴿كل له قانتون﴾ أي مخلصون خاشعون متواضعون، لاستسلامهم لقضائه من غير قدرة على دفاع، ولا تطلع إلى نوع امتناع العاقل، غيره، حتى كأنهم يسعون
127
في ذلك ويبادرون إليه مبادرة اللبيب الحازم. قال الحرالي: فجاء بالجمع المشعر كما يقال بالعقل والعلم لما تقدم من أنه لا عجمة ولا جمادية بين الكون والمكوّن، إنما يقع جمادية وعجمة بين آحاد من المقصرين في الكون عن الإدراك التام؛ والقنوت ثبات القائم بالأمر على قيامه تحققاً بتمكنه فيه.
انتهى.
ثم علل ذلك بما هو أعظم منه فقال:
﴿بديع السماوات والأرض﴾ أي خالقهما على غير مثال سبق، وما أبدع كلية أمر كان أحرى أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه فكيف يجعل له شبيه منه؟ لأن الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه - ذكره الحرالي.
﴿وإذا قضى﴾ أي أراد
﴿أمراً﴾ منهما أو من غيرهما، والقضاء إنفاذ المقدر. والمقدر ما حدّ من مطلق المعلوم - قاله الحرالي.
﴿فإنما يقول له كن﴾ من الكون وهو كمال البادي
128
في ظاهره وباطنه
﴿فيكون﴾ فهو منزه عن حاجة التوالد وكل حاجة، وسر التعبير بالمضارع يذكر إن شاء الله تعالى في آل عمران. قال الحرالي: وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان يمتد توالها في المكون إلى غاية الكمال - انتهى. قالوا: ورفع
«يكون» للاستئناف أي فهو يكون، أو العطف على
﴿يقول﴾ إيذاناً بسرعة التكوين على جهة التمثيل، ومن قال بالأول منع العطف على
﴿يقول﴾ لاقتضاء الفاء أن القول مع التكوين فيلزم قدم التكوين، وقال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة: إن ذلك لا يطرد في مثل ثاني حرفي آل عمران وهو قوله:
﴿ثم قال له كن فيكون﴾ [آل عمران: ٥٩] لأنه لا يحسن تخالف الفعلين المتعاطفين بالمضي وغيره، وأول قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني | فمضيت ثم أقول لا يعنيني |
بأن معناه: مررت ماضياً، وطعن فيه أبو شامة بأن يكون في الآية ماض مثله وقد صرح أبو علي والحق معه بأنه على بابه يعني؛ وفائدة التعبير
129
به مضارعاً، تصوير الحال والإرشاد إلى أن التقدير: كن فكان، لأنه متى قضى شيئاً قال له: كن، فيكون، وجعل الأحسن عطفه على
﴿كن﴾ لأنه وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر أي يكون؛ وقال: إن ذلك أكثر اطراداً لانتظامه لمثل قوله:
﴿ثم قال له كن فيكون﴾ [آل عمران: ٥٩]. وهذا الموضع مجمع على رفعه، وكذا قوله تعالى في الأنعام:
﴿ويوم يقول كن فيكون﴾ [الأنعام: ٧٣]. وإنما الخلاف في ستة مواضع اختص ابن عامر منها بأربعة: وهي هذا الموضع، وقوله تعالى في آل عمران:
﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ [آل عمران: ٤٧]، وفي مريم مثله سواء، وفي غافر:
﴿فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ [غافر: ٦٨] ؛ ووافقه الكسائي في حرفين في النحل:
﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ [النحل: ٤٠] وفي يس:
﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] فجعلوا النصب
130
في هذين عطفاً على
﴿يقول﴾ وفي الأربعة الأولى جواباً للأمر في قوله:
﴿كن﴾ اعتباراً بصورة اللفظ وإن لم يكن المعنى على الأمر فالتقدير: يقول له يكون فيكون، أي فيطاوع، فطاح قول من ضعفه بأن المعنى على الخبر وأنه لا يصح النصب إلا إذا تخالف الأمر وجوابه، وهذا ليس كذلك بل يلزم فيه أن يكون الشيء شرطاً لنفسه، لأن التقدير: إن يكن يكن؛ وصرح ابن مجاهد بوهم ابن عامر وأن هذا غير جائز في العربية، كما نقله عنه الإمام أبو شامة في شرح الشاطبية؛ فأمعنت النظر في ذلك لوقوع القطع بصحة قراءة ابن عامر لتواترها نقلاً عمن أنزل عليه القرآن، فلما رأيته لم ينصب إلا ما في حيز
﴿إذا﴾ علمت أن ذلك لأجلها لما فيها من معنى الشرط، فيكون مثل قوله تعالى في الشورى:
﴿ويعلم الذين يجادلون في آياتنا﴾ [الشورى: ٣٥] بنصب
«يعلم» في قراءة غير نافع وابن عامر على بعض التوجيهات، وذلك ماش على نهج السداد من غير كلفة ولا استبعاد إذا تؤمل الكلام على
«إذا» قال الرضي وهو العلامة نجم الدين محمد بن حسن الإستراباذي في الظرف من شرحه لقول العلامة أبي عمرو عثمان بن الحاجب في كافيته: ومنها
«إذا» وهي للمستقبل وفيها معنى الشرط، فلذلك اختير بعدها الفعل، والأصل في استعمال
«إذا» أن تكون لزمان من أزمنة المستقبل مختص من بينها بوقوع حدث فيه مقطوع به، ثم قال: وكلمة الشرط ما يطلب جملتين يلزم من وجود مضمون أولاهما فرضاً حصول
131
مضمون الثانية، فالمضمون الأول مفروض ملزوم، والثاني لازمه؛ ثم قال: و
«إن» موضوعة لشرط مفروض وجوده في المستقبل مع عدم قطع المتكلم لا بوقوعه ولا بعدم وقوعه، وذلك لعدم القطع في الجزاء لا بالوجود ولا بالعدم، سواء شك في وقوعه كما في حقنا، أو لم يشك كان الواقعة في كلامه تعالى؛ وقال: ولا يكون الشرط في اسم إلا بتضمن معناها؛ ثم قال: فنقول: لما كان
«إذا» للأمر المقطوع بوجوده في اعتقاد المتكلم في المستقبل لم يكن لمفروض وجوده، لتنافي القطع والفرض في الظاهر، فلم يكن فيه معنى
«إن» الشرطية، لأن الشرط كما بينا هو المفروض وجوده، لكنه لما كان ينكشف لنا الحال كثيراً في الأمور التي نتوقعها قاطعين بوقوعها عن خلاف ما نتوقعه جوّزوا تضمين
«إذا» معنى
«إن» كما في
«متى» وسائر الأسماء الجوازم، فيقول القائل: إذا جئتني فأنت مكرم - شاكاً في مجيء المخاطب غير مرجح وجوده على عدمه بمعنى متى جئتني سواء؛ ثم قال: ولما كثر دخول معنى الشرط في
«إذا» وخروجه عن أصله من الوقت المعين جاز استعماله وإن لم يكن فيه معنى
«إن» الشرطية، وذلك في الأمور القطعية استعمال
«إذا» المتضمنة لمعنى
«إن»، وذلك لمجيء جملتين بعده على طرز الشرط والجزاء وإن لم يكونا شرطاً وجزاء، ثم قال في الكلام على الفاء في نواصب الفعل، وقد تضمر
«أن» بعد الفاء والواو الواقعتين
132
بعد الشرط قبل الجزاء، نحو إن تأتيني فتكرمني - أو لو.
تكرمني - آتك، أو بعد الشرط والجزاء، نحو إن تأتني آتك فأكرمك - أو: وأكرمك - وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني المنفي، إذ الجزاء مشروط وجوده بوجود الشرط، ووجود الشرط مفروض، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة، وعليه حمل قوله تعالى:
﴿إن يشأ يسكن الريح فيظللن﴾ - إلى قوله:
﴿ويعلم الذين يجادلون﴾ [الشورى: ٣٥] على قراءة النصب؛ ثم قال: وإنما صرفوا ما بعد فاء السببية من الرفع إلى النصب لأنهم قصدوا التنصيص على كونها سببية والمضارع المرتفع بلا قرينة مخلصة للحال والاستقبال ظاهر في معنى الحال، كما تقدم في باب المضارع، فلو أبقوه مرفوعاً لسبق إلى الذهن أن الفاء لعطف جملة حالية الفعل على الجملة التي قبل الفاء، يعني فكان يلزم أن يكون الكون قديماً كالقول، فصرفه إلى النصب منبه في الظاهر على أنه ليس معطوفاً، إذ المضارع المنصوب بأن مفرد، وقبل الفاء المذكورة جملة، ويتخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية كما ذكرنا في المنصوب بعد إذن، فكان فيه شيئان: رفع جانب كون الفاء للعطف. وتقوية كونه للجزاء؛ فيكون إذن ما بعد الفاء مبتدأ محذوف الخبر وجوباً - انتهى. فالتقدير هنا والله أعلم: فكونه واقع حق ليس بخيال كالسحر والتمويهات، فعلى هذا قراءة النصب أبلغ لظهورها في الصرف عن الحال إلى الاستقبال مع
133
ما دلت عليه من سرعة الكون وأنه حق، ثم رأيت البرهان بن إبراهيم بن محمد السفاقُسي حكى في إعرابه ما خرجته عن ابن الضائع - يعني بالضاد المعجمة والعين المهملة - وهو الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكُتامي شيخ أبي حيان فقال ما نصه: زاد ابن الضائع في نصب
﴿فيكون﴾ وجهاً حسناً وهو نصبه في جواب الشرط وهو إذا، وكان مراده التسبيب عن الجواب كما ذكرت، قال السفاقسي: ويصح فيه وجه ثالث على مذهب الكوفيين وهو نصبه في جواب الحصر بإنما، لأنهم أجازوا: إنما هي ضربة أسد فيتحطم ظهره.
134
ولما تقرر بما أنبأ من بديع آياته في منبث مصنوعاته أن عظمته تقصر عنها الأوهام وتنكص خاسئةً دونها نوافذ الأفهام عجب من الجرأة عليه بما استوى فيه حال الجهلة من العرب بالعلماء من أهل الكتاب تبكيتاً لهم وتنفيراً منهم بأنه لا حامل لهم على الرضى لأنفسهم بالنزول من أوج العلم إلى حضيض أهل الجهل إلا اتباع الهوى فقال:
﴿وقال الذين لا يعلمون﴾ أي ليس لهم علم من العرب
﴿لولا﴾ أي هلا
﴿يكلمنا الله﴾ أي يوجد كلامه لنا على ما له من جميع الصفات
134
﴿أو تأتينا آية﴾ أي على حسب اقتراحنا عادّين ما آتاهم من الآيات - على ما فيها من آية القرآن التي لا يوازيها آية أصلاً - عدماً.
ولما كان قولهم هذا جديراً بأن لا يصدق نبه عليه بقوله:
﴿كذلك﴾ أي الأمر كما ذكرنا عنهم. ولما كان كأنه قيل: هل وقع مثل هذا قط؟ قيل: نعم، وقع ما هو أعجب منه، وهو أنه
﴿قال الذين﴾ ولما كان المراد بعض من تقدم أدخل الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ ممن ينسب إلى العلم من أهل الكتاب
﴿مثل قولهم﴾، ثم علله بقوله:
﴿تشابهت قلوبهم﴾ في هذا وإن كانت مختلفة باعتبار العلم، وفي ذلك تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه كما تعنت عليه تعنت على من قبله. ولما كان ذلك توقّع السامع الإخبار عن البيان فكان كأنه قيل: هل قالوا ذلك جهلاً أو عناداً؟ فقيل: بل عناداً لأنا
﴿قد بينا الآيات﴾ في كل آية في الكتاب المبين المسموع والكتاب الحكيم المرئي. ولما كان يقع البيان خاصاً بأهل الإيقان قال:
﴿لقوم يوقنون﴾ وفيه بعث
135
للشاك على تعاطي أسباب الإيقان، وهو صفاء العلم عن كدر بطرق الريب لاجتماع شاهدي السمع والعين. قال الحرالي: وفيه إشارة لما حصل للعرب من اليقين، كما قال سيد العرب علي رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. استظهاراً لما بطن من عالم الملكوت على ظاهر عالم الملك إكمالاً للفهم عن واضح هذا البيان الذي تولاه الله ومن اصطفاه الذي اشتمل عليه استتباع ضمير
﴿بينا﴾ ؛ وفي استواء العالم وغيره في الجهل بعد البيان دليل على مضمون التي قبلها في أن ما أراد كان. ولما تضمن هذا السياق الشهادة بصحة رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه ليس عليه إلا البيان صرح بالأمرين في قوله مؤكداً لكثرة المنكرين
﴿إنا أرسلناك﴾ هذا على أن يكون المراد بذلك جميع الأمم،
136
أما إذا أريد هذه الأمة فقط فيكون المعنى: قد بينا الآيات الدالات على طريق الحق بأعظم برهان وبالإخبار عن دقائق لا يعلمها إلا حُذّاق أهل الكتاب لقوم يحق عليهم الإيقان لما وضح لهم من الأدلة، ثم علل ذلك لقوله:
﴿إنا أرسلناك﴾ إرسالاً ملتبساً
﴿بالحق﴾ أي بالأمر الكامل الذي يطابقه الواقع في كل جزئية يخبر بها.
قال الحرالي: والحق التام المكمل بكلمة
«أل» هو استنطاق الخلق عن أمر الله فيهم على وجه أعلى لرسالته العلية الخاصة به عن عموم مّا وقعت به رسالة المرسلين من دون هذا الخصوص، وذلك
«حق» منكر، كما تقدم أي عند قوله:
﴿وهو الحق مصدقاً لما معهم﴾ [البقرة: ٩١] لأن ما أحق غيباً مما أنزله الله فهو
«حق» حتى السحر، وما أظهر غيب القضاء والتقدير وأعلن بإبداء حكمة الله على ما أبداها من نفوذ مشيئته في متقابل ما أبداه من خلقه فهو
«الحق» الذي خلقت به السماوات والأرض ابتداء وبه ختمت الرسالة انتهاء لتطابق الأول والآخر كمالاً، حال كونك
﴿بشيراً ونذيراً﴾ وقال الحرالي: لما أجرى الله سبحانه من الخطاب عن أهل الكتاب والعرب نبّأ ردهم لما أنزل أولاً وآخراً ونبأ ما افتروه مما لا شبهة فيه دعواه أعرض بالخطاب عن الجميع وأقبل به على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له وتأكيداً لما أعلمه به في أول السورة من أن الأمر مجرى على
137
تقديره وقسمته الخلق بين مؤمن وكافر ومنافق، فأنبأه تعالى أنه ليس مضمون رسالته أن يدعو الخلق إلى غير ما جبلوا عليه، وأن مضمون رسالته أن يستظهر خبايا الأفئدة والقلوب على الألسنة والأعمال، فيبشر المهتدي والثابت على هدى سابق، وينذر الأبيّ والمنكر لما سبق إقراره به قبل، فعم بذلك الأولين والآخرين من المبشرين والمنذرين - انتهى - أي فليس عليك إلا ذلك فبشر وأنذر فإنما عليك البلاغ وليس عليك خلق الهداية في قلوب أهل النعيم
﴿ولا تسأل﴾ ويجوز أن يكون حالاً من
﴿أرسلناك﴾ أو من
﴿بشيراً﴾ ﴿عن أصحاب الجحيم﴾ والمراد بهم من ذكر في الآية السابقة من الجهلة ومن قبلهم، أي عن أعمالهم لتذهب نفسك عليهم حسرات لعدم إيمانهم، كما قال تعالى
﴿ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ [البقرة: ١٤١] أي فحالك مستو بالنسبة إلينا وإليهم. لأنك إن بلغتهم جميع ما أرسلت به إليهم لم نحاسبك بأعمالهم، وإن تركت بعض ذلك محاسنة لهم لم يحبّوك ما دمت على دينك فأقبل على أمرك ولا تبال بهم، وهو معنى قراءة نافع
﴿ولا تسأل﴾ على النهي، أي
138
احتقرهم فإنهم أقل من أن يلتفت إليهم، فبلغهم جميع الأمر فإنهم لا يحبونك إلا إذا انسخلت مما أنت عليه؛ وفي الحكم بكونهم أصحابها إثبات لما نفوه عن أنفسهم بقوله:
﴿لن تمسنا النار﴾ [البقرة: ٨٠] ونفى لما خصصوا به أنفسهم في قولهم:
﴿لن يدخل الجنة﴾ [البقرة: ١١١] الآية، والجحم قال الحرالي: انضمام الشيء وعظم فيه، ومن معنى حروفه الحجم وهو التضام وظهور المقدار إلا أن الحجم فيما ظهر كالأجسام والجحم - بتقديم الجيم - فيما يلطف كالصوت والنار.
ولما جرت العادة بأن المبشر يسرّ بالبشير أخبر تعالى أن أهل الكتاب في قسم المنذرين فهم لا يزالون عليه غضاباً فقال عطفاً على ما اقتضاه ما قبله:
﴿ولن ترضى﴾ من الرضى وهو إقرار ما ظهر عن
139
إرادة - قاله الحرالي:
﴿عنك اليهود ولا النصارى﴾ لشيء من الأشياء
﴿حتى تتبع ملتهم﴾ أي حتى تكون بشيراً لهم، ولن تكون بشيراً لهم حتى توافقهم فيما أحدثوه من أهوائهم بأن تتبع كتابهم على ما بدلوا فيه وحرفوا وأخفوا على ما أفهمته إضافة الملة إليهم لا إلى صاحبها المعصوم وهو إبراهيم عليه السلام، ويكون ذلك برغبة منك تامة على ما أفهمته صيغة الافتعال وتترك كتابك الناسخ لفروع كتابهم، والملة قال الحرالي: الأخذ والعمل بما في العقل هدايته من إعلام المحسوسات. ولما قيل ذلك اقتضى الحال سؤالاً وهو: فما أقول؟ فقال:
﴿قل﴾ ولم يقيده بلهم إعراضاً عنهم
﴿إن هدى الله﴾ الذي هو جميع
140
ما أنزل الجامع لصفات الكمال على رسله من كتابي وكتابكم
﴿هو﴾ أي خاصة
﴿الهدى﴾ أي كله مشيراً بأداة التعريف إلى كمال معناه، وبالحصر إلى أن غيره هو الهوى؛ وأضافه إلى الاسم الأعظم وأكده بأن وأعاده بلفظه وعبر عنه بالمصدر واستعمل فيه ضمير الفصل رداً لإنكارهم له، فإن اتبعوه كله فآمنوا بأن كتابهم داع إلى كتابك فبشرهم، وإن لم يتبعوه فالزم إنذارهم، وفي الآية إشارة إلى ذلك الكتاب لا ريب فيه.
ثم عطف على ما أفهمه السياق من نحو: فلئن زغت عنه لتتركن الهدى كله باتباع الهوى، قوله:
﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾ الداعية لهم إلى تغيير كتابهم. قال الحرالي: فأظهر إفصاحاً ما أفهمته إضافة الملة إليهم من حيث كانت وضعاً بالهوى لا هداية نور عقل كما هي في حق الحنيفيين - انتهى. ولما كان الكلام هنا في أمر الملة التي هي ظاهرة للعقل أسقط من وأتى بالذي بخلاف ما يأتي في القبلة فقال:
141
﴿بعد الذي﴾ قال الحرالي: أشارت كلمة
﴿الذي﴾ إلى معنى قريب من الظاهر المحسوس كأنه عَلَم ظاهر، ففيه إنباء بأن أدنى ما جاءه من العلم مظهر لإبطال ما هم عليه في وجوه تلبيسهم وأهوائهم
﴿جاءك من العلم﴾ بأنهم على ضلال وأنك على جميع الهدى. وخاطبهم بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد والله أعلم من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم طمعاً في نصرتهم ولذا ختم بقوله:
﴿ما لك من الله﴾ الذي له الأمر كله ولا كفؤ له، وأكد النفي بالجار فقال:
﴿من ولي ولا نصير﴾.
ولما أفصح بمن يستحق النذارة منهم بتغيير الدين بأهوائهم فأفهم
142
من يستحق البشارة تلاه بالإفصاح بالقسمين: من يستحق البشارة منهم، ومن يستحق النذارة، فقال:
﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي التوراة والإنجيل
﴿يتلونه حق تلاوته﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتبعونه حق اتباعه، من تلا فلان فلاناً إذا تبعه - رواه عنه أبو عبيد.
وهي ناظرة إلى قوله قريباً:
﴿وهم يتلون الكتاب﴾ أي لا حق تلاوته بل تلاوة ليس فيها تدبّر لمعانيه ولا عمل بما فيه؛ هذا إذا جعلناه حالاً، وإن جعلناه خبراً وقوله:
﴿أولئك﴾ أي العظيمو الرتبة خاصة
﴿يؤمنون به﴾ خبراً ثانياً فالمعنى أن من لم يؤمن بالكتاب حق الإيمان من غير تحريف له، لا إخفاء لشيء فيه لما انتفى عنهم المقصود بالذات وهو الانتفاع بالكتاب المؤتى انتفى عنهم أصل الإيتاء لأنه تجرد عن الفائدة؛ والضمير في
﴿به﴾ يصح أن يكون للهدى. قال الحرالي: وحقية الأمر هي وفاؤه إلى غايته، والإحاطة به إلى جماع حدوده حتى لا يسقط منه شيء ولا يقصر فيه غاية إشعاراً باشتمال الكتاب على أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
143
ولما وصف المؤمنين به ولم يبين ما لهم أتبعه بالكافرين فقال:
﴿ومن يكفر به﴾ أي بالكتاب، ثم حصر الخسر فيهم بقوله:
﴿فأولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿هم﴾ خاصة
﴿الخاسرون﴾ فافهم أن المؤمنين به هم الرابحون؛ ومن الوصف بالخسار يعلم أنهم كانوا على حق وشيء يمكن الربح فيه بتكملة الإيمان بكتابهم بالإيمان بالكتاب الخاتم فضيعوه فخسروا، فإنه لا يخسر إلا من له أصل مال متهيىء للنماء والربح - والله أعلم.
ولما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في بيان عوارهم وهتك أستارهم وختم ذلك بالترهيب بخسارهم لتضييع أديانهم بأعمالهم
144
وأحوالهم وأقوالهم أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم والتحذير من حلول النقم يوم يجمع الأمم ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة والمقصود بالذات في الحث على انتهاز الفرصة في التفصّي عن حرمة النقص إلى لذة الربح بدوام الشكر. قال الحرالي: فلبعده بالتقدم كرره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلاً لما يمكن أن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كأن الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمة يجب أن يلحظ القلب بداية تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي البناء وفي تفهمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى؛ انتهى - فقال تعالى:
﴿يا بني إسرائيل﴾ أي ولد الأنبياء الأصفياء ووالد الأنبياء السعداء
﴿اذكروا نعمتي﴾ أي الشريفة بالنسبة إليّ
﴿التي أنعمت عليكم﴾ بها في الدنيا
﴿وأني فضلتكم﴾ واقتصر هنا على نعمة التفضيل ولم يذكر الوفاء الذي هو فضيلة النفس الباطنة إشارة إلى جمودهم باقتصارهم على النظر في الظاهر على
﴿العالمين﴾ في تلك الأزمان كلها بإتمام نعمة الدنيا بشرع الدين المقتضى للنعمة في الأخرى، فإنكم إذا ذكرتم النعمة شكرتموها فقيدتموها واستوجبتم من
145
الله الزيادة في الدنيا والرضى في العقبى
﴿واتقوا يوماً لا تجزي﴾ أي تقضى، أي يصنع فيه
﴿نفس عن نفس شيئاً﴾ أي من الجزاء.
ولما ختمت الآية الماضية بحصر الخسارة فيهم ناسب تقديم نفي القبول فقال:
﴿ولا يقبل منها عدل﴾ يبذل في فكاكها من غير الأعمال الصالحة
﴿ولا تنفعها شفاعة﴾ غير مأذون فيها
﴿ولا هم ينصرون﴾ وإن كثرت جموعهم. قال الحرالي: أجراها تعالى في هذا التكرار على حدها في الأول إلا ما خالف بين الإيرادين في قوله
﴿واتقوا يوماً﴾ إلى آخره ليجمع النبأ في كل واحد من الشفاعة والعدل بين مجموع الردين من الأخذ والقبول فيكون شفاعتها لا مقبولة ولا نافعة، ويكون عدلها لا مأخوذاً ولا مقبولاً، ذلك لأن المعروض للقبول أول ما يؤخذ أخذاً بحسبه من أخذ سمع أو عين، ثم ينظر إليه نظر تحقيق في المسموع وتبصر في المنظور، فإذا صححه التحقيق والتبصير قُبل، وإذا لم يصححه رد، وإنما يكون ذلك لمن في حاله حظ صحة ظاهرة لا يثبت مع الخبرة، فأنبأ تعالى بمضمون الآيتين الفاتحة والخاتمة أن
146
هؤلاء ليس في حالهم حظ صحة البتة لا في شفاعة ولا في عدل فلا يقبل ولا يؤخذ إنباء بغرائه عن لبسه ظاهر صحة يقتضي أخذه بوجه مَّا، ففيه تبرئة ممن حاله حال ما نبّىء به عنهم على ما تقدم معناه في مضمون الآية، وبهذه الغاية انصرف الخطاب عنهم على خصوص ما أوتوا من الكتاب الذي كان يوجب لهم أن يتديّنوا بقبول ما جاء مصدقاً لما معهم فاتخذوا لهم بأهوائهم ملة افتعلتها أهواؤهم، فنظم تعالى بذلك ذكر صاحب الملة التي يرضاها وافتتح بابتداء أمره في ابتلائه ليجتمع عليهم الحجتان السابقة بحسب الملة الحنيفية الإبراهيمية واللاحقة بحسب الدين المحمدي، كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الصباح:
«أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ملة أبينا إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فخص المحمدية بالدين والإبراهيمية بالملة لينتظم ابتداء الأبوة الإبراهيمية بطوائف أهل الكتاب سابقهم ولاحقهم بنبأ ابتداء الأبوة الآدمية في متقدم قوله تعالى:
﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ - الآيات لينتظم رؤوس الخطابات بعضها ببعض وتفاصيلها بتفاصيلها، وليكون إظهار ذلك
147
في سورة سنام القرآن أصلاً لما في سائره من ذلك، وذكر قبل ذلك أن الملة ما يدعو إليه هدى العقل المبلغ عن الله توحيده من ذوات الحنيفيين، وأن الدين الإسلام، والإسلام إلقاء ما باليد ظاهراً وباطناً، وذلك إنما يكون عن بادي غيب التوحيد - انتهى.
ولما عاب سبحانه أهل الضلال وكان جُلُّهم من ذرية إبراهيم عليه السلام وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم ذكر الجميع ما أنعم به عليه تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالط عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله الله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره؛ وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به، وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد هزّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك.
وقال الحرالي: لما وصل الحق تعالى بالدعوة العامة الأولى في قوله تعالى:
﴿يا أيها الناس﴾ ذكر أمر آدم وافتتاح استخلافه ليقع بذلك جمع الناس كافة في طرفين في اجتماعهم في أب واحد
148
ولدين واحد نظم تعالى بذلك وصل خطاب أهل الكتاب بذكر إبراهيم، ليقع بذلك اجتماعهم أيضاً في أب واحد وملة واحدة اختصاصاً بتبعية الإمامة الإبراهيمية من عموم تبعية الخلافة الآدمية تنزيلاً للكتاب وترفيعاً للخلق إلى علو اختصاص الحق، فكما ذكر تعالى في الابتداء تذكيراً معطوفاً على أمور تجاوزها الإفصاح من أمر آدم عطف أيضاً التذكير بابتداء أمر إبراهيم عليه السلام على أمور تجاوزها الإفصاح هي أخص من متجاوز الأول كما أن إفصاحها أخص من إفصاحها وأعلى رتبة من حيث إن الخلق والأمر مبدوء من حد لم يزل ولا يزال يتكامل إلى غاية ليس وراءها مرمى فقال تعالى:
﴿وإذ ابتلى إبراهيم﴾ انتهى. والمعنى أنه عامله بالأمر بأمور شاقة معاملة المختبر الممتحن، وقال:
149
﴿ربه﴾ أي المحسن إليه إشعاراً بأن تكليف العباد هو غاية الإحسان إليهم وفي ابتداء قصته بقوله:
﴿بكلمات فأتمهن﴾ بيان لأن أسنى أحوال العباد الإذعان والتسليم لمن قامت الأدلة على صدقه والمبادرة لأمره دون اعتراض ولا توقف ولا بحث عن علة، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت المدعين لاتباعه من بني إسرائيل حيث اعترضوا في ذبح البقرة وارتكبوا غاية التعنت مع ما في ذبحها من وجوه الحكم بعد أن أساؤوا الأدب على نبيهم في ذلك وفي غيره في أول أمرهم وأثنائه وآخره فأورثهم ذلك نكالاً وبعداً، فظهر أن الصراط المستقيم حال إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم المنعم عليهم؛ والظاهر عطف
﴿إذ﴾ على
﴿نعمتي﴾ في قوله
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ [البقرة: ١٢٢] أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم فأتم ما ابتلاه به فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد والثبات على الوعد لأجازيكم على ذلك جزائي للمحسنين، والإتمام التوفية لما له صورة تلتئم من أجزاء وآحاد - قاله الحرالي.
فكأنه قيل: فما جوزي على شكره بالإتمام قبل؟
﴿قال﴾ له ربه، ويجوز أن يكون
«قال» بياناً لابتلى
﴿إني جاعلك للناس﴾ أي كافة
﴿إماماً﴾ كما كانت خلافة أبيه آدم لبنيه كافة، والإمام ما يتبع هداية إلى سداد -
150
قاله الحرالي. واستأنف قوله:
﴿قال﴾ أي إبراهيم
﴿ومن﴾ أي واجعل من
﴿ذريتي﴾ أئمة
﴿قال لا ينال﴾ أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا ينال
﴿عهدي﴾ الذي عهدته إليك بالإمامة
﴿الظالمين﴾ منهم، لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين؛ وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته فضربت عليهم الذلة وما معها ولا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون؛ والذرية مما يجمع معنى الذرّ والدرء، والذريّ مختلف كونه على وجوه اشتقاقه، فيكون فعلولة كأنه ذرورة ثم خفف بقلب الراء ياء استثقالاً للتضعيف ثم كسر ما قبل الياءين تحقيقاً لهما. لأنه اجتمع بعد القلب واو وياء سبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، أو تكون فعليّة من الذر منسوباً، ومن الذر مخفف فعولة بقلب الهمزة ياء ثم الواو ياء لاجتماعها معها سابقة إحداهما
151
بالسكون ثم الإدغام، أو فعيلة إن يكن في الكلام لما فيه من ثقل اجتماع الضم والكسر - قاله الحرالي، وفيه تصرف.
ولما كان من إمامته اتباع الناس له في حج البيت الذي شرفه الله ببنائه قال إثر ذلك ناعياً على أهل الكتاب مخالفته وترك دينه وموطئاً لأمر القبلة:
﴿وإذ جعلنا البيت﴾ أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى
﴿مثابة للناس﴾ أي مرجعاً يرجعون إليه بكلياتهم. كلما تفرقوا عنه اشتاقوا إليه هم أو غيرهم آية على رجوعهم من الدنيا إلى ربهم. قال الحرالي: وهو مفعلة من الثوب وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية. وفي صيغة المفعلة دوام المعاودة مثابرة
﴿وأمناً﴾ لكونه بيت الملك.
152
من حرب الدنيا ومن عذاب الآخرة إلا في حق من استثناه الله من الكافرين فعلاً بالشرك وقوة بالإلحاد، والأمن براءة عيب من تطرق أذى إليه - قاله الحرالي. وقد كانوا في الجاهلية يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له. قال الأصبهاني: وهذا شيء توارثوه من زمن إسماعيل عليه السلام فقرأ عليه إلى أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاليوم من أصاب في الحرم جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع.
ولما كان التقدير: فتاب الناس عليه ائتماماً ببانيه وآمنوا بدعوته فيه عطف عليه قوله:
﴿واتخذوا﴾، وعلى قراءة الأمر يكون التقدير: فتوبوا إليه أيها الناس ائتماماً به واتخذوا
﴿من مقام إبراهيم﴾ خليلنا
﴿مصلى﴾ وهو مفعل لما تداوم فيه الصلاة، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه حين جاء لزيارة ولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فلم يجده، فغسلت امرأة إسماعيل رأسه وهو معتمد برجله عليه وهو راكب، غسلت شق رأسه الأيمن وهو معتمد على الحجر برجله اليمنى، ثم
153
أدارت الحجر إلى الجانب الأيسر وغسلت شقه الأيسر، فغاصت رجلاه فيه؛ ولهذا أثر قدميه مختلف، أصابع هذه عند عقب هذه، وهو قبل أن يبني البيت - والله أعلم بمراده.
﴿وعهدنا﴾ عطف على قوله
﴿جعلنا﴾ ﴿إلى إبراهيم﴾ الوفي
﴿وإسماعيل﴾ ابنه الصادق الوعد، وفي ذكره إفصاح بإجابة دعوته فيه في قوله:
﴿ومن ذريتي﴾ [البقرة: ١٢٤] و [إبراهيم: ٣٧] وإشارة إلى أن في ذريته من يختم الأمم بأمته ويكون استقباله بيته في أجل العبادات من شرعته وأتم الإشارة بقوله:
﴿أن طهرا بيتي﴾ أي عن كل رجس حسي ومعنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع؛ والبيت موضع المبيت المخصوص من الدار المخصوصة من المنزل المختص من البلد - قاله الحرالي.
﴿للطائفين﴾ به الذين فعلهم فعل العارف بأنه ليس وراء الله مرمى ولا مهرب منه إلا إليه
﴿والعاكفين﴾ فيه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته والاقتصار عليه، والطواف التحليق بالشيء في غيب أو لمعنى غيب - قاله الحرالي.
﴿والركع السجود﴾
154
قال الحرالي: وفي ذكر الركوع تخصيص للعرب الذين إنما شرع الركوع في دينهم، وفي ذلك تبكيت لمن أخرج المؤمنين ومنعهم من البيت، وفي تكرير تفصيل هذه الآيات بإذ تنبيه على توبيخهم بترك دينه وهو الخليل واتباع من لا يعلم وهو العدو.
155
ولما ذكر أمر البيت الشريف فيما تكفل به سبحانه وفيما أمر به الخليل وولده عليهما السلام من تطهيره ذكر باهتمامه بأهله ودعائه لهم مبكتاً لمن عقّه من ذريته بالتصريح بكفرهم بيوم الجزاء الأمر بكل خير الزاجر عن كل ضير فقال: وإذ قال إبراهيم رب} فأسقط أداة البعد إنباء بقربه كما هو حال أهل الصفوة
﴿اجعل هذا﴾ أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي.
ولما كان السياق للمنع من المسجد وللسعي في خرابه وكان ذلك شاملاً بعمومه للبادي ولذلك قرر أنه مثابة للناس عامة وأمنٌ كان الأنسب تنكير البلد فقال:
﴿بلداً﴾ يأنس من يحل به
﴿آمناً﴾ إفصاحاً بما أفهمه
﴿وإذ جعلنا البيت﴾ [البقرة: ١٢٥] الآية، والمعنى أنكم عققتم أعظم آبائكم في دعوتيه كلتيهما: في كونه بلداً فإنه إذا انقطع الناس عن أهله خرب، وفي كونه آمناً، وهذا بخلاف ما يأتي في سورة إبراهيم عليه السلام.
155
ولما ذكر القرار والأمن أتبعه الرزق وقال:
﴿وارزق أهله﴾ وقال:
﴿من الثمرات﴾، ولم يقل: من الحبوب، لما في تعاطيها من الذل المنافي للأمن، لما روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى سكة حرث فقال:
«ما دخلت هذه بيتاً إلا ذل» وقال:
﴿من آمن منهم بالله﴾ الجامع لصفات الكمال
﴿واليوم الآخر﴾ تقييداً لدعوة الرزق بما قيدت به دعوة الإمامة تأدباً معه حيث قال:
﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤]
﴿قال﴾ الله تعالى معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض
﴿ومن كفر﴾ أي أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، وعبر عن ذلك بقوله:
﴿فأمتعه﴾ تخسيساً له بما أفهمه لفظ المتاع بكونه كما مضى من أسماء الجيفة التي إنما هي منال المضطر على شعور يرفضه على قرب من مترجي الغناء عنها، وأكد ذلك بقوله:
156
﴿قليلاً﴾ لكن فيه إيماء إلى أنه يكون أطيب حالاً في الدنيا وأوسع رزقاً من المؤمن، وكذا في قوله:
﴿ثم أضطره﴾ بما لي من العظمة الباهرة
﴿إلى عذاب النار﴾ أي بما أستدرجه به من النعم الحاملة له على المعاصي التي هي أسباب النقم، وفي التعبير بلفظ الاضطرار إلى ما لا يقدم عليه أحد باختيار إشعار بإجبار الله خلقه على ما يشاء منهم من إظهار حكمته وأن أحداً لا يقدر على حركة ولا سكون إلا بمشيئته؛ والاضطرار الإلجاء إلى ما فيه ضرر بشدة وقسر. ولما كان التقدير: فبئس المتاع ما ذكر له في الدنيا، عطف عليه قوله:
﴿وبئس المصير﴾ أي العذاب له في الآخرة، وهو مفعل مما منه التصيير وهو التنقيل في أطوار وأحوال ينتهي إلى غاية تجب أن تكون غير حالة الشيء الأولى بخلاف المرجع.
ولما ذكر بما مهده من أمر البيت ديناً ودنيا أتبعه ببنائه مشيراً إلى ما حباهم به من النعمة وما قابلوه به من كفرها باختيارهم لأن يكونوا من غير الأمة المسلمة التي دعا لها لما دعا للرسول فقال عاطفاً على
﴿إذ ابتلى﴾ تعديداً لوجوه النعم على العرب بأبيهم الأعظم استعطافاً إلى التوحيد
﴿وإذ يرفع إبراهيم﴾ أي اذكر الوقت الذي يباشر بالرفع {القواعد
157
من البيت} قال الحرالي: عدّد تعالى وجوه عنايته بسابقة العرب في هذه الآيات كما عدد وجوه نعمته على بني إسرائيل في سابقة الخطاب، فكانت هذه في أمر إقامة دين الله، وكانت تلك في محاولة مدافعته، ليظهر بذلك تفاوت ما بين الاصطفاء والعناية، والقاعدة ما يقعد عليه الشيء أي يستقر ويثبت ويجوز أن يراد بها سافات البناء، لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه - قاله الأصبهاني.
ولما أفرد الخليل عليه السلام بهذا الرفع إظهاراً لشرفه بكونه هو السبب الأعظم في ذلك عطف عليه ولده فقال:
﴿وإسماعيل﴾ أي يرفع القواعد أيضاً، ووصل بهذا العمل الشريف قوله:
﴿ربنا﴾ مراداً فيه القول محذوفاً منه أداة البعد: أي يقولان:
﴿ربنا تقبل منا﴾ أي عملنا بفضلك ولا ترده علينا، إشعاراً بالاعتراف بالتقصير لحقارة العبد وإن اجتهد في جنب عظمة مولاه. ولما تضمن سؤال القبول المشعر بخوف الرد علم الناقد البصير بالتقصير علله بقوله:
﴿إنك﴾ وأكده
158
بقوله:
﴿أنت السميع العليم﴾ أي فإن كنت سمعت أو علمت منا حسناً فرده حسناً، وإن كنت سمعت أو علمت غير ذلك من نحو قول ناشىء عن اختلاج في النفس بما سببه كلال أو إعياء فاغفره.
ولما سأل القبول سأل الزيادة عليه بقوله:
﴿ربنا﴾ على ما مضى من طرز دعاء المقربين بإسقاط أداة البعد
﴿واجعلنا﴾ أي أنا وابني هذا الذي أعانني
﴿مسلمين لك ومن ذريتنا﴾ قال الحرالي: لما تحقق مرجو الإيمان في ذريته في قوله:
﴿من آمن منهم﴾ [البقرة: ١٢٦] طلب التكملة بإسلام الوجه والمسألة له ولابنه ولمن رزق الإيمان من ذريته وذرية ابنه، فإن الإسلام لما كان ظاهر الدين كان سريع الانثلام لأجل مضايقة أمر
159
الدنيا، وإنما يتم الإسلام بسلامة الخلق من يد العبد ولسانه والإلقاء بكل ما بيده لربه مما ينازع فيه وجود النفس ومتضايق الدنيا، ولذلك هو مطلب لأهل الصفوة في خاتمة العمر ليكون الخروج من الدنيا عن إلقاء للحق وسلام للخلق كما قال يوسف عليه السلام
﴿توفني مسلماً﴾ [يوسف: ١٠١] وطلب بقوله:
﴿أمة مسلمة لك﴾ أن يكونوا بحيث يؤم بعضهم بعضاً.
ولما كان المسلم مضطراً إلى العلم قال:
﴿وأرنا مناسكنا﴾ وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج حيث كان متلقي عن الله بلا واسطة لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد.
والمنسك مفعل من النسك وهو ما يفعل قربة وتديناً. تشارك حروفه حرف السكون - قاله الحرالي. ولما كان الإنسان محل العجز فهو أضر شيء إلى التوفيق قال:
﴿وتب علينا﴾ إنباء بمطلب التوبة أثر الحسنة كما هو مطلب العارفين بالله المتصلين بالحسنات رجّعا بها إلى من له الخلق والأمر، ثم علل طمعه في ذلك بأن عادته تعالى التطول والفضل فقال:
﴿إنك أنت التواب﴾ أي الرّجاع بعباده إلى موطن النجاة من حضرته بعد ما سلط عليهم عدوهم بغوايته ليعرفوا فضله عليهم وعظيم قدرته ثم أتبعه
160
وصفاً هو كالتعليل له فقال:
﴿الرحيم﴾.
ولما طلب ما هو له في منصب النبوة من تعليم الله له المناسك بغير واسطة طلب لذريته مثل ذلك بواسطة من جرت العادة به لأمثالهم فقال:
﴿ربنا وابعث فيهم﴾ أي الأمة المسلمة التي من ذريتي وذرية ابني إسماعيل
﴿رسولاً منهم﴾ ليكون أرفق بهم وأشفق عليهم ويكونوا هم أجدر باتباعه والترامي في نصره، وذلك الرسول هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لم يبعث من ذريتهما بالكتاب غيره، فهو دعوة إبراهيم عليه السلام أبي العرب وأكرم ذريته؛ ففي ذلك أعظم ذم لهم بعداوته مع كونه مرسلاً لتطهيرهم بالكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه، وإليه الإشارة بقوله:
﴿يتلوا﴾ أي يقرأ متابعاً مواصلاً
﴿عليهم آياتك﴾ أي علاماتك الدالات عليك أعم من أن يكون نزل بها الكتاب أو استنبطت منه
﴿ويعلمهم الكتاب﴾ الكامل الشامل لكل كتاب
«أوتيت جوامع الكلم» ﴿والحكمة﴾ وهي كل أمر يشرعه لهم فيحفظهم في صراطي معاشهم ومعادهم من الزيغ المؤدي إلى الضلال الموجب للهلاك.
ولما كان ظاهر دعوته عليه السلام أن البعث في الأمة المسلمة
161
كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية فإن أصلها موجود بالإسلام فأخر قوله:
﴿ويزكيهم﴾ أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة، فترتقي بصفائها، ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه أن ترتد على أدبارها وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها، والتزكية إكساب الزكاة، وهي نماء النفس بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم - قاله الحرالي.
ولما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، وأما تقديمها في آل عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالاً على الدنيا التي هي أم الأدناس؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إنك أنت العزيز﴾ أي الذي يغلب كل شيء ولا يغالبه شيء، لأن العزة كما قال الحرالي: الغلبة الآتية على كلية الظاهر والباطن،
﴿الحكيم﴾ أي الذي يتيقن ما أراد فلا يتأتى نقضه، ولا متصف بشيء من ذلك غيرك؛ وفي ذلك إظهار عظيم لشرف العلم وطهارة الأخلاق، وأن ذلك لا ينال إلا بمجاهدات لا يطيقها البشر ولا تدرك أصلاً إلا بجد تطهّره العزة
162
وترتيب أبرمته الحكمة؛ هذا لمطلق ذلك فكيف بما يصلح منه للرسالة؟ وفيه إشارة إلى أنه يكبت أعداء الرسل وإن زاد عدهم وعظم جدهم.
ويحكم أمورهم فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
ولما كان التقدير: فمن يرغب في مخالفة من يرسله من هو بهذه الصفة عطف عليه قوله:
﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم﴾ المستقيم الطريقة، الطاهر الخليقة، الشفيق على ذريته، الباني لهم أعظم المفاخر، المجتهد لهم في جليل المناقب والمآثر
﴿إلا من سفه نفسه﴾ أي امتهنها واحتقرها واستخف بها، أي فعل بها ما أدى إلى ذلك؛ وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب. قال الحرالي: والسفاهة خفة الرأي في مقابلة ما يراد منه من المتانة والقوة، وفي نصب النفس إنباء بلحاق السفاهة بكلية ذي النفس، لأن من سفهت نفسُه اختص السفه بها، ومن سفه نفسَه - بالنصب - استغرقت السفاهة ذاته وكليته وكان بدء ذلك وعاديته من جهة نفسه، يفهم ذلك نصبها، وذلك لأن الله عز وجل جعل النفس مبدأ كل شر أبداه في ذات ذي النفس، فإنه تعالى يعطي الخير بواسطة وبغير واسطة، ولا يُحذى الشر إلا بواسطة نفس ليكون في ذلك حجة الله على خلقه؛ وإنما استحق السفاهة من يرغب عن ملة إبراهيم لظهور شاهدها في العقل وعظيم بركتها في التجربة، لأن من ألقى
163
بيده لم يؤاخذ في كل مرتبة من رتب الدنيا والآخرة، فلا عذر لمن رغب عن ذلك، لظهوره في شاهدي العقل والحس اللذين هما أظهر حجج الله على خلقه
﴿وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه﴾ [الأنعام: ٨٣].
ولما كان التقدير: فلقد آتيناه من المزايا ما قدّمنا لكم مما لا يعدل عنه ذو مسكة عطف عليه قوله:
﴿ولقد اصطفيناه﴾ فذكره بمظهر العظمة تعظيماً له، فإن العبد يشرف بشرف سيده، وتشريفاً لاصطفائه فإن الصنعة تجل بجلالة مبدعها
﴿في الدنيا﴾ بما ذكرناه من كريم المآثر التي يجمعها إسلامه؛ وهو افتعال من الصفوة وهي ما خلص من اللطيف عن كثيفه ومكدره، وفي صيغة الافتعال من الدلالة على التعمد والقصد ما يزيد فيما أشير إليه من الشرف
﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح حيث جعله من
164
المتصفين بها، فهو حقيق بالإمامة لعلو رتبته عند الله في الدارين، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه والاهتداء بهديه، وأشد ذم لمن خالفه؛ وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم وما هو سبب له، وإقامة للحجة عليهم، لأن أكثر ذلك معطوف على
﴿اذكروا﴾ قوله:
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي﴾ [البقرة: ١٢٢].
ولما ذكر إمامته ذكر ما يؤتم به فيه وهو سبب اصطفائه وصلاحه وذلك دينه، وما أوصى به عليه السلام بنيه، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفاً لخلف ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه فقال:
﴿إذ﴾ أي اصطفيناه بعظمتنا لأنه قال له ربه أسلم} أي لإحسان ربك إليك، وحذف المفعول ليتناول كل ما يصح إسلامه إلى المسلم إليه وقصره عليه وتخلى المسلم عنه
﴿قال أسلمت لرب العالمين﴾ أي المحسن إليّ وإلى جميع الخلائق
﴿ووصى بها﴾ أي بهذه المقالة أو الوصية أو الخصلة التي اصطفاه الله بها، ولعله لم يذكر الضمير لئلا يوهم
165
الرجوع إلى ربه؛ وقرىء
«وأوصى» فهو من إيصاء والوصية وهي التقدم في الشيء النافع المحمود عاقبته، وقراءة التشديد أبلغ لدلالتها على التكرر والتكثر
﴿إبراهيم بنيه ويعقوب﴾ وصّى بها أيضاً بنيه فقال كل منهم:
﴿يا بنيّ إن الله﴾ بعظمته وكماله
﴿اصطفى لكم الدين﴾ وهو الإسلام، فأغناكم عن تطلبه وإجالة الفكر فيه رحمة منه لكم
﴿فلا﴾ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا
﴿تموتن﴾ على حالة من الحالات
﴿إلا وأنتم﴾ أي والحال أنكم
﴿مسلمون﴾ أي ملقون بأيديكم وجميع ما ينسب إليكم لله لا حظ لكم في شيء أصلاً ولا التفات إلى غير مولاكم، فإن من كمل افتقاره إلى الغني الحكيم أغناه بحسب ذلك. وقرر سبحانه بالآيات الآتية بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرّأ خليله والأنبياء من ذلك على وجه أوجب القطع بأنهم عالمون ببطلانه.
ذكر قصة إبراهيم عليه السلام من التوراة: ذكر في السفر الأول منها أنه إبراهيم بن تارح بن ناحور بن شارغ بن آرغو
166
بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح؛ لأنه قال في التوراة: لما أتت على سام مائة سنة ولد له أرفخشد فأتت عليه خمس وثلاثون سنة فولد له شالاح وسماه في موضع آخر شالح، فأتت عليه ثلاثون سنة فولد له عابر فأتت عليه أربع وثلاثون سنة فولد له فالغ، فأتت عليه ثلاثون سنة فولد له آرغُو، فأتت عليه اثنتان وثلاثون سنة فولد له شارغ فأتت عليه ثلاثون سنة فولد له ناحور،
167
فأتت عليه تسع وعشرون سنة فولد له تارَح فأتت عليه خمس وسبعون سنة فولد له إبرم وناحور وهاران. وخالفه في الإنجيل بعض المخالفة فقال في إنجيل لوقا: ناحور بن شارغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن صالا بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح؛ ونوح على ما قال في التوراة ابن لمك بن متوشلح بن خَنُوخ بن يارذ بن هليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
وهكذا قال في أثناء إنجيل لوقا إلا أنه قال في لمك:
168
لامك، وفي يارذ: يرذ بن مهلالاييل. ثم قال في التوراة: وولد هاران لوطاً، ومات هاران في حياة أبيه تارح في الأرض التي ولد فيها وهي أور الكلدانيين - وفي نسخة: الكزدانيين - «فتزوج إبرم سُرّى وكانت عاقراً فلم يولد لها ولد، فانطلق تارح بابنه إبرم وبلوط ابن ابنه هاران وبكَنّته سرى من أور الكلدانيين متيمماً أرض كنعان، فانتهوا إلى حرّان فسكنوها، فتوفي تارح بحرّان عن مائتي سنة وخمس سنين؛ وقال الرب لإبرم: اخرج من أرضك من حيث ولدت ومن آل أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك لشعب عظيم وأباركك وأعظم اسمك وكن مباركاً وأبارك بنيك وألعن لاعنيك ويتبارك بك جميع قبائل الأرض وبزرعك، فصنع إبرم كما أمره الرب وانطلق معه لوط ابن أخيه وسرى زوجته وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة ومعهم جميع مواشيهم وما اتخذوا بحرّان من ولدان وخدم، فخرجوا يريدون أرض كنعان فأتوها، فجاء إبرم حتى أتى بلاد سُحام وإلى بَلُّوط مُمرى وكان الكنعانيون بعد سكاناً في الأرض فاعتلن الرب لإبرم وقال له: إني معطٍ ذريتك هذه الأرض، وبنى إبرم هنالك مذبحاً للرب إذ ظهر له
169
وانتقل من هنالك إلى الجبل من المشرق إلى بيت إيل، فنصب خيمته في بيت إيل من غربها قبالة الحرب وعاي من شرقها، وبنى ثم لرب مذبحاً ودعا باسم الرب، ثم ظعن منطلقاً وكان مظعنه إلى مهب الجنوب وكان جوع في الأرض، فهبط إبرم إلى مصر ليسكنها لأن الجوع اشتد في الأرض، فلما دنا من مصر قال لسرى امرأته: إني عالم أنك امرأة حسناء، فإن رآك المصريون يقولون: امرأته، فيقتلونني؛ قولي: إني أخته - فذكر قصة أخذ فرعون مصر لها والقوارع التي أصابته فحالت بينه وبينها فخلى سبيلها وأحسن إليها وإلى إبراهيم - إلى أن قال: فخرج إبرم من مصر هو وامرأته ولوط معه إلى أرض التيمن - وفي نسخة: إلى القبلة - وهي جهة الجنوب فاستغنى إبرم جداً، فظعن لمظعنه من الجنوب حتى أتى بيت إيل إلى الموضع الذي كان نصب فيه خيمته من قبل ولوط معه كان له غنم وبقر وخير كثير جداً وأخبية، ولم تكن تلك الأرض تسعهما كليهما لأن مواشيهما كثرت جداً؛ فذكر أن لوطاً رفع بصره فنظر إلى أرض الأردن فإذا هي كلها أرض سقي وشرب مثل فردوس الله ومثل أرض مصر التي في مدخل صاغار - وفي نسخة: زغر فاختار لوط أرض الأردن؛ فسكن إبرم أرض كنعان، وسكن لوط قرى عاجار وورث - وفي نسخة: قرى المرج - وخيّم إلى سدوم وكان
170
أهل سدوم أشراراً خطأة جداً، فقال الرب لإبرم بعدما اعتزله لوط: مد بصرك فانظر من المكان الذي أنت فيه إلى الجرنيا والتيمن - وفي نسخة: إلى الشمال والجنوب والمشرق والمغرب - لأن جميع الأرض التي ترى إياك أعطيها وذريتك من بعدك إلى الأبد، واجعل ذريتك مثل ثرى الأرض، فإن قدرت أن تحصي تراب الأرض فإن زرعك يحصى، فأتى إبرم فسكن بين بلوط - وفي نسخة: في مرج ممرى الأموراني التي بحبرون - وبنى هنالك مذبحاً للرب، وكان على عهد أمرقال ملك شنعار - وفي نسخة: شنوار - وأرنوخ ملك ذي اللاشار - وفي نسخة: الخزر - وكدر لعمر، ملك عيلم - وفي نسخة: خوزستان وترغيل ملك جيلان - وفي نسخة: الأمم - اجتمع هؤلاء في قاع السدوميين وهو البحر المالح فقتلوا الجبابرة الذين في العشرة القرى والأبطال الذين بها والحورانيين الذين في جبال ساعير - وفي نسخة: شراة - إلى بطمة فاران التي في البرية، ورجعوا وأتوا عين الدنيا - وفي نسخة: الحكم - وهي رقيم وقتلوا كل رؤساء العمالقة والأمورانيين سكان عين جاد، وخرج بارع ملك سدوم وبَرْشع ملك عامرا
171
وشنآب ملك أدوما وشاليم ملك صَبويم وملك بالاع التي هي صاغر - وفي نسخة: زغر - خمسة ملوك، قاتلوا الأربعة بقاع السدوميين، فهرب ملك سدوم وملك عامرا فوقعوا هناك، وهرب البقية إلى الجبل فاستباحوا جميع مواشي سدوم وعامُرا وجميع طعامهم واستاقوا لوطاً ابن أخي إبرم وماشيته وانطلقوا، فأتى من نجا منهم وأخبر إبرم العبراني، فعبى فتيانه ومولّديه ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً وسار في طلبهم إلى داريا - وفي نسخة: بانياس - فأحاط بهم ليلاً، فقاتلهم وهزمهم إلى الجوف - وفي نسخة: المزة - التي عن شمال دمشق وهي قرية يقال لها حلبون ورد لوطاً ابن أخيه وماشيته وجميع المواشي والنساء والشعب، فخرج ملك سدوم فتلقاه فرد إليه جميع ما سلب منه؛ ومن بعد هذا حلّ وحي الله على إبرم في الرؤيا وقال له: يا إبرم! أنا أكانفك وأساعدك، لأن ثوابك قد جزل جداً، فقال إبرم: اللهم! رب ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسب ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي؟ فقال له الرب: لا يرثك هذا بل ابنك الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له:
172
انظر إلى السماء واحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، ثم قال له: كذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله، وقال له الرب: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أور الكلدانيين - وفي نسخة: أتون الكزدانيين - لأعطينك هذه الأرض لترثها، فلما كان غروب الشمس وقع الصمت على إبرم وغشيه خوف وظلمة عظيمة فقال الرب لإبرم: اعلم علماً يقيناً أن نسلك سيسكنون في أرض ليست لهم، فيتعبدونهم ويكدونهم أربعمائة سنة، والشعب الذين يتعبدونهم فإني أدينهم ويخرجون من هناك بعد ذلك بمال عظيم، وأنت تنتقل إلى آبائك بسلام وتدفن بشيخوخة خير وصلاح، والحقب الرابع يرجعون إلى ههنا، لأن إثم الأمورانيين لم يكمل بعد، فلما غربت الشمس صار دجى حندسة وإذا بتنور يدخن ومصباح نار يلتهب ويتردد بين تلك الأنصبة، وفي ذلك اليوم عاهد الرب إبرم عهداً وقال: إني معط ذريتك هذه الأرض من نهر مصر وإلى الفرات النهر الأعظم، وإن سُرّى امرأة إبر لم تكن تلد وكانت لها أمة مصرية اسمها هاجر فقالت سُرّى لإبرم وهما بأرض كنعان: إن الرب قد حرمني الولد فإدخل على أمتي وابن بها لعلي أتعزى بولد منها، تسمّع إبرم قول سرى وأطاعها، وذلك بعدما سكن أرض
173
كنعان عشر سنين، فحبلت فقالت سرى لإبرم: أنت صاحب ظلامتي، أنا وضعت أمتي في حضنك، فلما حبلت هنت عليها بحكم الرب بيني وبينك، فقال: هذه أمتك مسلمة إليك.
اصنعي بها ما أحببت، فأهانتها سرى سيدتها فهربت منها، فلقيها ملاك الرب على عين ماء في البرية في طريق سور - وفي رواية: في طريق حذر، وفي نسخة: على العين التي بطريق الجفار - فقال لها: يا هاجر أمة سرى! ارجعي إلى سيدتك واستكدّي تحت يدها، ثم قال لها ملاك الله: لأكثرن نسلك حتى لا يحصى، ثم قال لها: ها أنت حامل - وفي نسخة: إنك حبلى - وستلدين ابناً وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد عرف لك خضوعك، ويكون ابنك هذا رجلاً يأوي البرية ويده في جميع الناس - وفي نسخة: وحشى الناس - يده على كل ويد كل به، وسيحل على جميع حدود إخوته، فدعت اسم الرب الذي كلمها فقالت: أنت الله ذو الوحي والرؤيا، وذلك لأنها قالت: إني رأيت رؤيا، ولذلك دعت تلك الطوى بئر الحي وهي بئر رقيم وحذر - وفي نسخة: فيما بين قادس وبارد - ثم ولدت هاجر لإبرم ابناً فدعا إبرم اسمه إسماعيل، وكان إبرم ابن ست وثمانين سنة إذ ولدت هاجر له إسماعيل، فلما أتى على إبرم تسع وتسعون سنة اعتلن له الرب وقال له: أنا الله إله المواعيد، أرضني تكن غير ذي
174
عيب وأثبت عهدي بيني وبينك - وفي رواية: فأحسن أمامي ولا تكن ملوماً فإني جاعل بيني وبينك ميثاقاً، وأكثرك جداً جداً، فخر إبراهيم على وجهه فكلمه الله وقال له: أنا أثبت لك عهدي - وفي نسخة: فأوحى الله إليه قائلاً له: إني قد جعلت ميثاقي معك - وتكون أباً لشعوب كثيرة، ولا يدعى اسمك فيما بعد إبرم بل يكون اسمك إبراهيم، لأني جعلتك أباً لشعوب كثيرة، وأنميك وأثريك جداً جداً، وأجعلك للشعوب رئيساً، والملوك من صلبك يخرجون، وأثبت العهد - وفي نسخة: وأفي بميثاقي - بيني وبينك وبين نسلك من بعدك عهداً دائماً، وأكون لك إلهاً ولزرعك من بعدك، وأعطيك وذيتك من بعدك أرض سكناك وجميع أرض كنعان ميراثاً إلى الأبد وأكون لهم إلهاً، وقال الله لإبراهيم: احفظ عهدي أنت وزرعك من بعدك لأحقابهم، هذا عهدي الذي آمركم به لتحفظوه ليكون بيني وبين نسلك من بعدك أن تختنوا كل ذكر وتختنوا لحم غُرلكم ويكون علامة العهد بيني وبينكم، وليختن كل ذكر منكم ابن ثمانية أيام لأحقابكم ولاد البيت والمبتاع بالمال.
وكل من كان من أبناء الغرباء الذين ليسوا من زرعك فليختتن اختتان المولود في بيتك والمبتاع بمالك، ويكون عهدي ميسماً في أجسادكم عهداً دائماً إلى الأبد؛ وكل
175
ذكر ذي غرلة لا تختن غرلته في اليوم الثامن فلتهلك تلك النفس من شعبها، لأنها أبطلت عهدي. وقال الله لإبراهيم: سرى صاحبتك، لا تدع اسمها سرى لأن اسمها سارة وأبارك فيها، وأعطيك منها ابناً وأباركه، ويكون رئيساً لشعوب كثيرة وملوك الشعوب من نسله يخرجون؛ فخر إبراهيم على وجهه ضاحكاً وقال في قلبه - وفي رواية متعجباً يقول في نفسه - وهل يولد لابن مائة سنة ابن وسارة تلد وقد أتى عليها تسعون سنة! وقال إبراهيم لله: يا ليت إسماعيل يحيى بين يديك! وقال الله لإبراهيم: حقاً - وفي نسخة: نعم - إن سارة صاحبتك ستلد ابناً وتسميه إسحاق، وأثبت العهد بيني وبينه إلى الأبد ولذريته من بعده، وقد استجبت لك في إسماعيل فباركته وكثرته وأنميته جداً جداً، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم؛ وأثبت عهدي لإسحاق الذي تلد لك سارة في هذا الحين من قابل. فلما فرغ من كلامه ارتفع استعلان الرب عن إبراهيم، فانطلق إبراهيم بإسماعيل ابنه وجميع أولاد بيته والمبتاعين بما له كل ذكر من بيت إبراهيم فختن غرلهم في ذلك اليوم كما أمره الله، وكان قد أتى على إبراهيم تسع وتسعون سنة إذ ختن غرلته وكان قد أتى إسماعيل ابنه إذ اختتن ثلاث عشرة سنة، وختن
176
أيضاً معه أبناء الغرباء المشايعين ثم أكمل البشارة بإسحاق، كما سيأتي في سورة هود إن شاء الله تعالى - إلى أن قال: وذكر الرب سارة كما قال: وصنع الله تبارك وتعالى بسارة كما وعد، فحبلت وولدت لإبراهيم ابناً على كبره في الوقت الذي وعد الله، فسمى إبراهيم ابنه من سارة إسحاق، فختن إبراهيم إسحاق ابنه في اليوم الثامن كما أمره الرب، وكان إبراهيم ابن مائة سنة، فقالت سارة: لقد أنعم الله عليّ وفرحني فرحاً عظيماً، فمن سمع فليفرح لي، وقالت: من كان يقول لإبراهيم: إن سارة ترضع غلاماً وتلد ابناً بعد الكبر؛ فشب الغلام وفطم وصنع إبراهيم يوم فطم مأدبة عظيمة - ثم أعاد ذكر أمر سارة بإخراج هاجر وإبعادها وأن هذا شق على إبراهيم جداً وقال: فقال الله لإبراهيم: لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك، فغدا إبراهيم باكراً وأخذ خبزاً وإداوة من ماء فأعطاها هاجر وحملها والصبي والطعام فانطلقت وتاهت في برية بئر سبع - وفي نسخة بئر الحلف، لأن إبراهيم حالف صاحب تلك الأرض عندها - ونفد الماء من الإداوة فألقت الصبي تحت
177
شجرة من الشيح وانطلقت وجلست قبالته وتباعدت عنه كرمية بسهم كيلا تعاين موته، فلما صرخ الغلام وبكى سمع الرب صوته فدعا ملاك الرب هاجر من السماء وقال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي، لأن الرب قد سمع صوت الصبي حيث هو، قومي فاحملي الصبي وشدي به يديك، لأني أجعله رئيساً لشعب عظيم، فجلى الله عن بصرها فرأت بئر ماء، فانطلقت فملأت الإدواة وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فشب وسكن برية فاران وكان يتعلم الرمي في تلك البرية وزوجته أمه امرأة - انتهى.
وفيه إن هذا الكلام في إخراج هاجر وولدها ظاهره مناقض لما تقدم في ختان إسماعيل عليه السلام، فإن فيه أنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، وهذا ظاهره أنه كان رضيعاً، وفي الحديث الصحيح
«أنه وضعه عند البيت وهو يرضع» ويمكن حمل هذا عليه بهذا الكلام الأخير. وأما الأول فلم يقل فيه إنه كان عند الختان ببيت المقدس، فيمكن أن إبراهيم عليه السلام طوى له الله الأرض بالبراق أو غيره فذهب إلى مكة المشرفة فختنه ثم رجع. وفيه بشارة بنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصرح مما ذكروه وهي قوله: ويتبارك بك جميع قبائل الأرض، لأن ذلك لم يحصل بأحد من أولاد إبراهيم عليه السلام إلا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أثبت البركة به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخير في غالب قبائل
178
الأرض، ويكون الباقي بعد نزول عيسى عليه السلام. وكذا قوله: ويده في جميع الناس - إلى آخره، لأن إسماعيل عليه السلام لم ينقل أحد أن يده كانت على جميع الناس، ولا حل على جميع حدود إخوته، ولا اتصف من أولاده أحد بهذا الوصف إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم رأيت في شرح المقاصد للشيخ سعد الدين التفتازاني وشرح الصحائف للإمام السمرقندي التنبيه على هذا النص.
ولما قرر سبحانه لبني إسرائيل أن أباهم يعقوب ممن أوصى بنيه بالإسلام قال مبكتاً لهم:
﴿أم﴾ فعلم قطعاً من ذكر حرف العطف أن المعطوف عليه محذوف كما قالوا في أحد التقادير في هذه الآية وفي
﴿أمّن هو قانت آناء الليل﴾ [الزمر: ٩] في سورة الزمر فكان التقدير هنا لتوبيخهم وتقريعهم بأن أيّ شق اختاروه لزمهم به ما يكرهون: أكنتم غائبين عن هذه الوصية من إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أم حاضرين وكنتم غائبين في أمر يعقوب عليه السلام خاصة أم
﴿كنتم شهداء﴾ الآية، أي أكنتم غائبين عن علم ذلك أم لا حين حكمتم بتخصيص أنفسكم بالجنة ليمنعكم ذلك عن مثل هذا الحكم؛ وعلى كل تقدير لا يضركم جهله، لأن عندكم في كتاب الله المنزل على بيتكم من الأمر بمثله عن الله ما يغنيكم عنه، وهو مانع لكم أيضاً من هذا الحكم على وجه قطعي؛
179
وفي ذلك إشارة إلى عدم وجوب التقيد بالآباء، وإرشاد إلى توسيع الفكر إلى المنعم الأول وهو رب الآباء للتقيد بأوامره والوقوف عند زواجره سواء كان ذلك موافقاً لشرع الآباء أو مخالفاً؛ ولما كان هذا لازماً لمضمون قوله تعالى:
﴿تلك أمة قد خلت﴾ [البقرة: ١٣٤] أتبعه بها، أي فما لكم وللسؤال عنها في ادعائكم أنهم كانوا هوداً أو نصارى؟ كما سيأتي النص بالتوبيخ على ذلك وإتباعه مثل هذه الآية، لأنه إما أن يكون السؤال عن النسب أو عن العمل ولا ينفعكم شيء منهما، لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فليس السؤال عنهم حينئذ لمن عنده علم ما يأتي وما يذر إلا فضولاً، وفيه تنبيه على أنهم قطعوا أنفسهم عنهم، لأنهم لما لم يتبعوهم في الإسلام فصلوا ما بينهم وبينهم من الوصلة بالنسب وحصلت براءتهم منهم، لأن نسب الدين أعظم من نسب الماء والطين، أو يقال وهو أحسن: لما ادعى أهل الكتاب أن الجنة خاصة بهم ورد ذلك سبحانه عليهم بأنها لمن أسلم محسناً وذكرهم بأحوال الخليل عليه السلام حتى ختم بأنه من رؤوس المتصفين بهذا الوصف وأنه أوصى بنيه به فكان كأنه قيل إنكاراً عليهم في دعواهم الاختصاص بالجنة وتقريراً لهم: أكنتم شهداء لذلك منه حتى تكونوا ممن ائتمر بأمره في وصيته فتكونوا أهلاً للجنة أم كنتم شهداء يا بني يعقوب
﴿إذ حضر يعقوب﴾ صاحب
180
نسبكم الأشهر
﴿الموت﴾ وهو على ما أوصى به إبراهيم بنيه
﴿إذ قال﴾ أي يعقوب
﴿لبنيه﴾.
ولما كان مراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التعميم في كل شيء ليقع التخصيص موقعه فلا يحتاج إلى سؤال آخر عبر بما العامة للعاقل وغيره فقال:
﴿ما تعبدون﴾ ولو عبر بمن لم يفد جوابهم هذا التصريح ينفي عبادة شيء مما لا يعقل، وقيده بقوله:
﴿من بعدي﴾ لأن الخليفة كثيراً ما يخلف الغائب بسوء وإن كان مصلحاً في حضوره، وأدخل الجار لأن أعمارهم لا تستغرق الزمان
﴿قالوا نعبد إلهك﴾ الذي خلقك
﴿وإله آبائك﴾ الذي خلقهم وبقي بعدهم ويبقى بعد كل
181
شيء ولا بعد له، كما كان قبل كل شيء ولا قبل له؛ ثم بينوا الآباء بقولهم:
﴿إبراهيم﴾ أي جدك
﴿وإسماعيل﴾ لأنه عم والعم صنو الأب فهو أب مجازاً
﴿وإسحاق﴾.
ولما تقدم ذكر الإله في إضافتين بينوا أن المراد به فيهما واحد تحقيقاً للبراءة من الشرك وتسجيلاً على أهل الكتاب بتحتم بطلان قولهم فقالوا:
﴿إلهاً واحداً﴾ ثم أخبروا بعد توحيدهم الذي تقدم أنه معنى الإحسان في قوله:
﴿وهو محسن﴾ [البقرة: ١١٢] بإخلاصهم في عبادتهم بقولهم
﴿ونحن له﴾ أي وحده لا للأب ولا غيره
﴿مسلمون﴾ أي لا اختيار لنا معه بل نحن له كالجمل الآنف حيثما قادنا انقدنا، أي أم كنتم شهداء له في هذه الوصية لنشهد لكم بما شهدنا لبنيه الموجودين إذ ذاك من الإسلام فتكونوا من أهل الجنة.
182
ولما كان في ذلك أعظم تسجيل عليهم بأنهم نابذوا وصية الأصفياء من أسلافهم ومرقوا من دينهم وتعبدوا بخلافهم وكان من المعلوم قطعاً أن الجواب أنهم ما شهدوا ذلك ولا هم مسلمون عبر عنه بقوله:
﴿تلك أمة قد خلت﴾ أي قبلكم بدهور لم تشهدوها، ونبه على أنهم عملوا بغير أعمالهم بقوله:
﴿لها﴾ أي الأمة
﴿ما كسبت﴾ أي من دين
182
الإسلام خاص بها لا شركة لكم فيه
﴿ولكم ما كسبتم﴾ أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم لا يسألون هم عن أعمالكم
﴿ولا تسألون﴾ أي أنتم
﴿عما كانوا يعملون﴾ ولما أخبر تعالى أنهم تركوا السنة في تهذيب أنفسهم بالاقتداء في الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم وبين بطلان ما هم عليه الآن من كل وجه وأوضح أنه محض الضلال بين أنه عاقبهم على ذلك بأن صيرهم دعاة إلى الكفر، لأن سنته الماضية سبقت ولن تجد لسنته تحويلاً أن من أمات سنة أحيى على يديه بدعة عقوبة له. قال الحرالي: لأنهما متناوبان في الأديان تناوب المتقابلات في الأجسام فقال تعالى معجباً منهم عاطفاً على قوله:
﴿وقالوا لن يدخل﴾ [البقرة: ١١١]
﴿وقالوا﴾ أي الفريقان من أهل الكتاب لأتباع الهدى
﴿كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا﴾ أي لم يكفهم ارتكابهم للباطل وسلوكهم طرق الضلال حتى دعوا إلى ما هم عليه ووعدوا بالهداية الصائرة إليه فأمره تعالى بأن
183
يجيبهم أنه مستن بسنة أبيهم لا يحول عنها كما حالوا فقال موجهاً الخطاب إلى أشرف خلقه لعلو مقام ما يخبر به وصعوبة التقيد به على النفس:
﴿قل بل﴾ مضرباً عن مقالهم، أي لا يكون شيئاً مما ذكرتم بل نكون أو نلابس أنا ومن لحق بي من كمل أهل الإسلام
﴿ملة إبراهيم﴾ ملابسة نصير بها إياها كأننا تجسدنا منها، وهو كناية عن عدم الانفكاك عنها، فهو أبلغ مما لو قيل: بل أهل ملة إبراهيم. قال الحرالي: ففيه كمال تسنن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ملته بملة إبراهيم عليه السلام الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر، وقد ذكر أن الملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم
﴿حنيفاً﴾ أي
184
ليناً هشاً سهلاً قابلاً للاستقامة مائلاً مع داعي الحق منقاداً له مسلماً أمره إليه، لا يتوجه إليه شيء من العشاوة والكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والشماخة والطغيان، وذلك لأن مادة حنف بكل ترتيب تدور على الخفة واللطافة، ويشبه أن تكون الحقيقة الأولى منها النحافة، ويلزم هذا المعنى الانتشار والضمور والميل، فيلزمه سهولة الانقياد والاستقامة، ويكشفه آية آل عمران
﴿ولكن كان حنيفاً مسلماً﴾ [آل عمران: ٦٧] فبذلك حاد عن بنيات طرق الخلق في انحرافهم عن جادة طريق الإسلام. وقال الحرالي: الحنيف المائل عن متغير ما عليه الناس عادة إلى ما تقتضيه الفطرة حنان قلب إلى صدق حسه الباطن.
ولما أثبت له الإسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: {وما كان
185
من المشركين} قال الحرالي: فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك في ثبت الأمور والأفعال والأحوال وفي إفهامه أنه من أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكمال الخاتم كما أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه في الابتداء الفاتح، قال تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿قل إن صلاتي﴾ [الأنعام: ١٦٢] إلى قوله:
﴿وأنا أول المسلمين﴾ [الأنعام: ١٦٣] فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به ومن سواه فهو منه فيها، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله، فمن لم يكن مثلاً من الكافرين فهو من المؤمنين، لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه، لما في ذلك من معنيي إثبات الوصف ونفي مقابله، ومثل هذا كثير الدور في خطاب القرآن، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم خفي عن
186
مشاهد العلم، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس؛ والفهم من العقل بمنزلة الروح، فللفهم مدرك لا يناله العلم، كما أن للروح معتلى لا تصل إليه النفس، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى على الوجود - انتهى.
ولما قيل ذلك توجهت النفس إلى ما به يوصل إلى ملة إبراهيم.
فصرف الخطاب الذي كان عند الحجاج للأكل على وجه يشمل من قاربه إلى من دونه بما يشمله، لأن المراد العموم، وساقه تعالى في جواب من كأنهم قالوا: ما نقول: حتى نكون إياها فقال:
﴿قولوا﴾ أي يا أيها الذين آمنوا
﴿آمنا بالله﴾ الذي له جميع صفات الكمال.
187
ولما كان المأمور المؤمنين وكانت تعدية الإنزال بإلى تقتضي الانتهاء وكان ذلك يقتضي واسطة قبل الانتهاء وكان الانتهاء إلى الاتباع إنما هو بالقصد الثاني كان الأنسب في هذه الآية لتوجيه الأمر إليهم التعبير بإلى بخلاف آية آل عمران كما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال:
﴿وما أنزل إلينا﴾ أي من الكتاب الذي تقدم أنه الهدى على أي وجه كان من الأحكام والنسخ والنسيء وغير ذلك وقيل
﴿وما أنزل إلى إبراهيم﴾ ليكون المهيع واحداً
﴿وإسماعيل وإسحاق﴾ ابنيه. قال الحرالي: فلقن العرب الأميين المحسودين على ما آتاهم الله من فضله نسق ما أجرى من لفظ بني إسرائيل في عهده لهم، فكان فيه وصل العرب الذين هم أبناء إسماعيل بإبراهيم وبنيه وقطع بني إسرائيل عنهم، وفيه إظهار لمزية فضل الله على العرب حين يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم فأغناهم بما لقنهم فتلوه عما كانوا يقولونه لو وكلوا إلى أنفسهم فسكّنهم
188
ربهم فأقرأهم ما يصلح من القول لهم وقال:
﴿ويعقوب والأسباط﴾ تكملة لما تقدم في العهد السابق - انتهى.
﴿وما أوتي موسى وعيسى﴾ أي من ربهم من المنزل من التوراة والإنجيل وغير المنزل، وغيّر الأسلوب تفضيلاً لما لهما من الكتابين والمعجزات وغير ذلك من المكنة؛ ثم أسند الإيتاء إلى الجميع لكون أهل الكتب العظيمة فيهم على سبيل التغليب فقال مؤكداً الكلام لأنه على لسان الأتباع وهم بالتأكيد أحق:
﴿وما أوتي النبيون﴾ أي قاطبة من تقدم وغيرهم من المنزل من كتاب وغيره
﴿من ربهم﴾ المحسن إليهم بذلك
﴿لا نفرق بين أحد منهم﴾ في أمر الإيمان باصطفائهم مع توجيه الأوامر إليهم
﴿ونحن له﴾ أي لربهم المحسن إلينا بإحسانه إليهم وحده
﴿مسلمون﴾ أي منقادون في الظاهر بعد انقياد الباطن، لا آمر لنا معه أصلاً، قال الحرالي: فأجرى على ألسنة الذين آمنوا من هذه الأمة تلقيناً لهم ما أجراه على ألسنة الأسباط قولاً منهم، فكانت العرب أحق بهم من أبناء إسرائيل بما استووا في الدين وإن افترقوا في نسب الإسرائيلية - انتهى. والأسباط جمع سبط، قال في القاموس: والسبط - بالكسر - ولد الولد والقبيلة من اليهود وجمعه أسباط. وقال البيضاوي: والأسباط جمع سبط وهو الحافد، يريد به حفدة يعقوب وأبناءه وذراريهم فإنهم حفدة لإبراهيم وإسحاق.
189
وقال الأصبهاني: قيل أصل السبط في اللغة شجرة ملتفة كثير الأغصان من شجرة واحدة، وقال البغوي: والأسباط يعني أولاد يعقوب، واحدهم سبط، وهم اثنا عشر سبطاً، وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين: سبطا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل، والشعوب من العجم، وكان في الأسباط أنبياء فلذلك قال:
﴿وما أنزل إليهم﴾ [آل عمران: ١٩٩] وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء - انتهى. قلت: وهذا هو الذي يظهر إذا تأملت هذه الآية مع التي بعدها وآية النساء، فإن الأسباط - أعني القبائل - كانت منهم الضلال، وقد أنكر الله على من قال: إنهم كانوا هوداً أو نصارى، وأخبر في آية النساء أنه أوحى إليهم، وقد عد الأسباط - أعني أولاد يعقوب - جماعة، فاختلفت عباراتهم عنهم، والذي حررته أنا من التوراة من عدة نسخ أصح، عدّهم في آخر السفر الأول منها ثم قال في أول السفر ثاني: وهذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا
190
مصر مع يعقوب أبيهم، دخل كل أمرىء منهم وأهل بيته، روبيل وشمعون ولاوى ويهودا وايساخار وزبلون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، ويوسف كان بمصر - انتهى.
قلت: وبنيامين شقيق يوسف عليهما السلام وربما قيل فيه: بنمن، وفي روبيل: روبال، وفي شمعون: شمعان، وفي ايساخار: ايساخر، وفي زبلون: زبلون وزبولون - والله أعلم.
ولما قدم تعالى ما أمرهم به وكان عين الهدى تسبب عنه قوله معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن إيمانهم لما لهم من الكثافة والغلظة والجلافة في غاية البعد:
﴿فإن آمنوا﴾ أي أهل الكتاب الذين أرادوا أن يستتبعوكم
﴿بمثل﴾ أي بنفس وحقيقة
﴿ما آمنتم به﴾ كما يأتي بيانه في
﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى: ١١] من الشورى، فكانوا تبعاً لكم
﴿فقد اهتدوا﴾ عكس ما قالوا مثلنا تهتدوا، وعبر بفعل المطاوعة لكون الإيمان مع ظهوره بظهور دلائله موافقاً للفطرة الأولى، وأما الكفر فإنه لما كان لأجل
191
ظهور الإيمان وانطباعه في الجنان بعيداً عن المزاج لا يكون إلا بنوع من العلاج بين الهوى والعقل وكان لا يكون إلا بعد الإعراض عن الإيمان وغيبته عن العيان عبر عن ارتكابه بما يشعر بذلك بصيغة التفعل فقال:
﴿وإن تولوا﴾ قال الحرالي: فيه إشعار بإيمان مؤمن منهم وتولي متول منهم، لأن الله تعالى إذا صنف الخطاب كان نبأ عن تصنيف الكيان، فهو تعالى لا يخرج نبأه على غير كائن فيكون نبأ لا كون له، إنما ذلك أدنى أوصاف بعض الخلق
﴿فإنما هم في شقاق﴾ أي يريدون أن يكونوا في شق غير شقكم، لأنهم يعلمون أن الهدى ليس في شيء غيره كما اقتضته
«إنما».
ولما كان اللازم لمشاقّتهم على هذا الحال المكايدة والمحاربة وكان ذلك على وجه العناد لم يكل سبحانه كفاية أوليائه إلى غيره فسبب ذلك قوله:
﴿فسيكفيكهم الله﴾ ؛ أي بوعد لا خلف فيه أصلاً وإن تأخر شيئاً من تأخر بما له من قدرة وغيرها من صفات الكمال التي أفهمها الاسم الشريف، والكفاية إغناء المقاوم عن مقاومة عدوه بما لا يحوجه إلى
192
دفع له - قاله الحرالي. ولما كان المناوىء لشخص إما أن يكيده بقوله أو بفعله وكان الفعل مسبوقاً بالارتسام في الضمير وكان الكافي لشخص إنما يتوقف كفايته على العلم بما يصلحه قال:
﴿وهو السميع﴾ أي لما يقول أعداؤكم
﴿العليم﴾ بما يضمرون فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يرد ضرره عليه، فحظكم منهم مقصور على أذى في القول وسوء في وُدّ في الضمير، وحظهم منكم قهرهم وسبيهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم. وجعل الحرالي
﴿صبغة الله﴾ أي هيئة صبغ الملك الأعلى التي هي حلية المسلم وفطرته كما أن الصبغة حلية المصبوغ حالاً تقاضاها معنى الكلام، وعاب على النحاة كونهم لا يعرفون الحال إلا من الكلم المفردة ولا يكادون يتفهمون الأحوال من جملة الكلام، وقال: الصيغة تطوير معاجل بسرعة وحيه، وقال: فلما كان هذا التلقين تلقيناً وحياً سريع التصيير من حال الضلال المبين الذي كانت فيه العرب في جاهليتها إلى حال الهدى المبين الذي كانت فيه الأنبياء في هدايتها من غير مدة جعله تعالى صبغة
193
كما يصبغ الثوب في الوقت فيستحيل من لون إلى لون في مقابلة ما يصبغه أهل الكتاب بأتباعهم المتبعين لهم في أهوائهم في نحو الذي يسمونه الغِطاس
﴿ومن أحسن من الله﴾ أي الذي له الكمال كله
194
﴿صبغة﴾ لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم، وتلك صبغة جسم لا تنفع، وفيه إفهام بما يختص به الذين آمنوا من انقلاب جوهرهم نوراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: اللهم اجعلني نوراً! فكان ما انقلب إليه جوهر الأئمة انصبغت به قلوب الأمة
﴿ونحن له﴾ أي خاصة
﴿عابدون﴾ تكملة لرد الخطاب على خطاب عهد إسرائيل حيث قال:
﴿ما تعبدون من بعدي﴾ [البقرة: ١٣٣] إلا أن العبادة في عهد إسرائيل سابقة والإسلام حتم، والإسلام في هذا التلقين بدء لتقع العبادة شكراً - يختص برحمته من يشاء، وجاء به بالوصف الثابت الدائم ففيه إشعار بأن أحداً منهم لا يرتد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، وهو حظ عام من العصمة الثابت خاصها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عليِّ أمره - انتهى.
ولما أمر تعالى بقوله:
﴿قل بل ملة إبراهيم﴾ [البقرة: ١٣٥] وما بعده بإعلام الخصم بالمخالفة وأن لا موافقة إلا بترك الهوى واتباع الهدى أمر بمجادلتهم بما يوهي أقوالهم ويزيح شبههم فقال معرضاً بالخطاب عن الجمع موجهاً له إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفعاً لمقامه وتعريفاً بعلي منصبه إعلاماً بأنه لا ينهض بذلك غيره لما لهم من العلم مع ما عندهم من الجدل واللدد:
﴿قل﴾ منكراً لمحاجتهم وموبخاً لهم عليها
﴿أتحاجوننا﴾ ولما كان الأنسب في المقارعة إعلام الخصم بالمخالفة
195
لأنه أقطع لطمعه وأمكن لغيظه مع أنه هنا أقرب إلى رضى الخالق قدم على المجادلة، ومعنى قوله:
﴿في الله﴾ في اختصاصكم بالملك الذي لا ملك سواه، لأن له الكمال كله المشار إلى إبطاله فيما سبق بقوله:
﴿قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة﴾ [البقرة: ٩٤] أي أتحاجوننا في ذلك ولا وجه لاختصاصكم به
﴿وهو﴾ أي والحال أنه
﴿ربنا وربكم﴾ نحن وأنتم في العبودية له سواء
﴿ولنا أعمالنا﴾ نختص به دونكم
﴿ولكم أعمالكم﴾ تختصون بها دوننا، لا نخاف منه أن يخصكم بأعمالنا ولا بشيء منها لتختصوا بها عنده ولا أن يخصنا بأعمالكم ولا بشيء منها لنبعد بها عنه ظلماً ولا غلطاً، لأنه السميع العليم الغني الحميد
﴿ونحن﴾ أحسن أعمالاً منكم لأنا دونكم
﴿له﴾ وحده
﴿مخلصون﴾ لا نشرك به شيئاً وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان، وأنتم تعلمون ذلك في باطن الأمر وإن أظهرتم خلافه، فلزم قطعاً أنا أخص به منكم؛ والإخلاص عزل النفس جملة، فلا يبلغ عبد حقيقته حتى لا يحب أن يحمد على عمل.
ولما كان قد بقي من مباهتاتهم أنهم
196
يدعون أن أسلافهم كانوا على دينهم فيكون دعواهم الاختصاص بالجنة صحيحة أبطلها سبحانه بقوله:
﴿أم﴾ أي أرجعوا عن قولهم:
﴿كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا﴾ [البقرة: ١٣٥] لما ثبت من مخالفة ذلك لملة إبراهيم وآله أم
﴿تقولون﴾ ولا يخفى أن التقدير على قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص ورويس بالخطاب: أرجعتم عن قولكم:
﴿إن إبراهيم﴾ خليل الله
﴿وإسماعيل وإسحاق﴾ ابنيه
﴿ويعقوب﴾ ابن إسحاق
﴿والأسباط﴾ أولاد يعقوب
﴿كانوا هوداً أو نصارى﴾ لتصح دعواهم في أن الجنة خالصة لأهل ملتهم، فكأنه قيل: فما يقال لهم إن قالوا ذلك؟ فقيل:
﴿قل أنتم أعلم﴾ بذلك وبغيره
﴿أم الله﴾ الذي له الإحاطة كلها أعلم، فلا يمكنهم أن يقولوا: نحن، وإن قالوا: الله، فقد برّأ إبراهيم من ذلك فبطل ما ادعوا.
ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه عليهم السلام على دين الإسلام وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك مع تقرير الله لهم واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله:
﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل﴾ [البقرة: ٤٢] وكان التقدير: فمن أظلم ممن ادعى أنه أعلم من الله بدعواه ذلك صريحاً أو لزومه له بإخباره بخلاف ما ثبت في القرآن المعلوم صدقه بإعجازه! قال تعالى عطفاً على هذا المقدور:
﴿ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده﴾ أي موجودة ومودعة عنده
197
﴿من الله﴾ أي كتمها من الملك الأعظم، أو هي عنده منه وهو يستخبره عنها مع علمه بأنه فاضحه لأنه العالم بالسرائر. ولما كان التقدير: فإنه يعلم ما عمله من كتمانه عطف عليه ما هو أعم منه فقال:
﴿وما الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿بغافل عما تعملون﴾ إشعاراً بصيغة المضارع بتماديهم بعد هذا كله على سوء أعمالهم وتحذيراً من مثل ذلك. ولما لم يدع لهم متمسكاً من جهة إبراهيم عليه السلام أتبع ذلك الإشارة على تقدير صحة دعواهم إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان لا مع ما قرره لأحد من خلقه فإنه لا حجر عليه ولا اعتراض بل له أن يأمر اليوم بأمر وغداً مثلاً بضده وأن يفعل ما يشاء من إحكام ونسخ ونسيء وإنساء فقال:
﴿تلك أمة﴾ أي إبراهيم وآله
﴿قد خلت﴾ أي فهب أنهم على ما زعمتم فقد مضوا وقدم زمانهم فلا ينفعكم إلا ما تستجدونه في وقتكم هذا بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم
198
وأسودهم، ويجوز أن يقال: لما كان مضمون ما سبق من إثبات الأعلمية لله وكتمانهم الشهادة بما عندهم ثبوت ما أخبر به سبحانه على لسان هذا النبي الكريم من كون أصفيائه على دينه الإسلام فهم برآء منهم كان المعنى: إن ادعيتم بهتاً أن العلم جاءكم عن الله بما ادعيتموه قيل: إن من تدعون عليه ذلك من الأنبياء قد انقضت معجزته بموته، وكتابكم غير مأمون عليه التحريف والتبديل لكونه غير معجز، وهذا النبي الآتي بالقرآن قائم بين أظهركم وهو يخبركم عن الله بكذب دعواكم، ويؤيد قوله بالمعجزات التي منها هذا القرآن الذي عجزت العرب كلها عن الإتيان بسورة من مثله وأنتم كذلك مع مشاركتكم لهم في الفصاحة نظماً ونثراً واختصاصكم عنهم بالعلم فلزمكم قبوله، لأنكم لا تستندون في ترويج كذبكم بعد الجهد إلا إلى من ثبت صدقه بثبوت رسالته، وثبتت رسالته بظهور معجزته، فوجب عليكم قبول أمره، وذلك ينتج قطعاً أنه يجب عليكم قبول هذا الداعي بهذا القرآن لمثل ذلك سواء، وإلا كان قبول بعض من ثبت له هذا الوصف دون البعض تحكماً واتباعاً للهوى المذموم في كل شرعة المنعي عليكم بقوله تعالى:
﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم﴾ [البقرة: ٨٧] هذا مع أن رد قولكم هذا فيهم أظهر ظاهر من حيث إنه
199
لا يعقل أن يكون السابق على نسبة اللاحق ما حدثت به إلا بعده بمُدد متطاولة، وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران إن شاء الله تعالى والإشارة إلى منابذته للعقل بقوله:
﴿أفلا تعقلون﴾ [آل عمران: ٦٥] ليتطابق على إبطاله صادق النقل وحاكم العقل، وإلى هذا كله الإشارة بقوله:
﴿تلك أمة قد خلت﴾ أي من قبلكم بدهور ولا يقبل الإخبار عنهم بعدها إلا بقاطع، ولا سبيل لكم إليه وقد قام القاطع على مخالفتكم لهم بهذا القرآن المقطوع بصدقه بإعجازه بما تقدم وبما أشار إليه قوله تعالى:
﴿لها ما كسبت﴾ أي من أعمالها
﴿ولكم ما كسبتم﴾ أي من أعمالكم، فلا يسألون هم عن أعمالكم
﴿ولا تسألون﴾ أي أنتم
﴿عما كانوا يعملون﴾.
200